هذيان الذاكرة الجماعية
أًصبحت تراودني هذه الوَسَاوس؛ أن كل لحظة جميلة تمر بي لن أتذكرها إذا لم أصورها بهاتفي المحمول، فإذا ذهبت إلى مدرسة ابنتي ورأيتها ترسم أبحث سريعا عن هاتفي لأصورها، وإذا ذهبنا إلى البحيرة المجاورة أفعل الشيء ذاته، وغالبا ما تكون ذاكرة الهاتف ممتلئة بالصور ما يجعلني آخذ وقتا كي أحذف الفيديوهات والصور غير المهمّة لألتقط صورا جديدة، وغالبا ما ينفد صبر ابني وابنتي ويفقدان الرغبة في اللعب، وفي حال رضخت ولم أصور، تمسكني تلابيب الشك بأن اللحظة لم تكتمل.
كأنني استغنيت عن ذاكرتي التي كانت أهلا للاحتفاظ بسنوات طفولتي ومراهقتي دون أن أعرف الهاتف المحمول، أو كأن الهاتف غدا عقلي وتاريخي، ولم أعد مطالبة بأن أسترجع تلك اللحظات الجميلة بنفسي، وهذا لا أقترفه وحدي، بل هناك الملايين من البشر الذين لم تعد لديهم تلك الثقة بذاكرتهم وبأنها ستحفظ اللحظات الجميلة، بل حتى أن الذاكرة أصبحت موضوعا غير مفكر به، طالما أن هناك الهاتف الذكي (Smart Phone) أو الحاسب اللوحي (Tablet). وليس هذا فحسب بل أصبح بالإمكان تلقي ردود أفعال وتعليقات على ذاكرتك تلك، وسجلّ أيامك ولحظاتك بفرحها وحزنها من خلال محيط تفاعلي، فأنت لم تعد تملك ذاكرتك وحدك، بل تشارك بها العالم.
لقد ربى لدينا الهاتف كسل الذاكرة، فهو يذكّرك بصورك في الوقت ذاته العام الماضي أو الذي قبله، والفيسبوك يفعل ذلك أيضا، بل يكفي أن تلج إلى أستوديو الصور على هاتفك كي تتنقل بين سنوات عمرك، ناهيك عن أنه لم يعد هناك خوف من فقدان الصور بفقدان جهازك الصلب، لأن كل شيء محفوظ في نسخة احتياطية بفضاء التخزين الإنترنتي على حسابك في غوغل.
توقفنا عن التذكر، تماما كما توقفنا عن بذل المزيد من أنفسنا من أجل أن تكون اللحظات جميلة لنا، وليس فقط لصور الهاتف والإنستغرام والفيسبوك.
ربما لم يكن المبرمجان الأميركيان كيفن سيستروم ومايك كريجر يعرفان ما الذي سيفعلانه بالعالم حين أطلقا تطبيق إنستغرام على متجر أبل في أكتوبر 2010 كأول منصة اجتماعية لالتقاط الصور ومشاركتها، فرغم بساطة التطبيق إلا أنه استطاع أن يحقق رواجا هائلا حتى بلغ عدد مستخدميه بعد شهرين فقط من إطلاقه مليون شخص حول العالم، وقبيل نهاية العام الأول بلغ عدد مستخدميه 10 ملايين شخص يتداولون 150 مليون صورة.
وفي أبريل من العام 2012، تم طرح التطبيق على متجر أندرويد، وبعد ستة أيام تم الإعلان عن شرائه من قبل فيسبوك، وتضاعف عدد مستخدميه إلى 80 مليون مستخدم في يوليو من العام نفسه، وعقب خمس سنوات وصل عدد المستخدمين النشطين شهريّا إلى 700 مليون في أبريل 2017، يتداولون 40 مليار صورة.
إذن لقد استغنينا بكليتنا عن رؤية حياتنا كما تبدو على حقيقتها، بل غدونا نراها من خلف الشاشات لنلتقط لحظات النجاح، ولقاء الأصدقاء، وولادة الأبناء، والإجازات، وحفلات الزفاف، وأولى خطوات مشي أطفالنا وبداية لثغهم للأبجدية.
لم يبقَ شيء يحتفظ بلحظته الأصيلة حين تلتقطها عيوننا، بل تفعل ذلك عيون الهاتف المحمول، فنرى الأشياء من خلف زجاج، حتى إذا أردنا أن نتذكّر نجد أن هذه الصور هي التي تكوّن ذاكرتنا أكثر من تدفق اللحظة الحقيقية في رؤوسنا.
من الطبيعي أن يحدث كل هذا، خاصة أن عدد من بحوزتهم هواتف محمولة بلغ 4.9 مليار مستخدم، أي أن كل ثانية هناك سبعة أشخاص جدد حول العالم بدأوا باستخدام الهواتف المحمولة، ستة منهم يستخدمون هواتف ذكية.
ولكن الثورة الحقيقية لم تبدأ فقط عند امتلاك الهواتف الذكية، بل من انتشار التطبيقات على هذه الهواتف، فقد أصبح لكل موقع إلكتروني تطبيق خاص به يمكن من خلاله دخول الموقع ببساطة وسرعة وانتقائية، دون الحاجة إلى فتح صفحة “ويب”، ما يجعل الاتصال بالإنترنت وسرعة التقاط الصورة وتحميلها ونشرها توازي لحظة التقاطها في رأسك.
إن ما أحدثه “الموبايل” وما جلبه من ثقافة وتفاعل بين الإنسان والآخر في الفضاء السيبرني زاد من انفصاله عن واقعه؛ بين أصدقائه ومع عائلته، بل إن استخدامه مبني على عزلة الفرد الكاملة، ما أحدث تغييرا على عقله وبيئته، وهو ما تحدثت عنه عالمة الأعصاب سوزان غرينفيلد حين وصفت عقولنا بأنها تتأقلم بشكل حسي ويعاد ترتيب “خلاياها” بشكل جديد أو ضمور بعضها، بحسب الوسائط.
فالإنسان حين كان يعتمد على التواصل الشفوي كوسيط، كان مختلفا تماما بصفاته العقلية عن اليوم، كذلك بيئته وتكيّفه، فالوسائط القديمة تضمن جماهير غفيرة تكاد تتجانس، لكنه اليوم في عصر التكنولوجيا الحديثة يحدث التجانس افتراضيا، ما يتركه في الواقع في حالة تأزم مروّعة إذا لم يكن “هاتفه” في يده. فغدت عزلته عزلتين؛ عزلة الإنسان الوجودية عن الآخر التي ليست لها من حل منذ الأزل، والآن عزلته المركّبة داخل هاتفه المحمول.
إن تعاملنا اليوم مع العالم عبر الهاتف المحمول يشعرنا بالمزيد من الثقة والتحكم والتمكين إلى حدّ أصبحت تسيطر علينا فكرة التشكيك بكل ما هو خارج عنه وعن تطبيقاته، كما أصبحت مصادرنا غير ذات ثقة إذا لم تمر عبر هذه الوسائط، فطريقة التعامل مع المعلومة وتلقيها اختلفت، كذلك استقبال الأخبار التي غدت عبارة عن فيديوهات وصور ونصوص بنفس اللحظة، وكأننا نشهدها بأبعادها الثلاثة، لذلك يختلف تخيلنا لزمان ومكان المعلومة التي تصلنا عن شكلها في السابق عبر الأوراق أو الصحف أو الكتب.
والأهم أن هذه الوسائل تضمن الانتقائية الشديدة، فنختار ما نقرأ ونحدد الأجزاء ونتحكّم بما نريد، فنحن نرى الصورة التي نحب والفيديو الذي نريد والكلمات التي نفضّل بأقل تكلفة معنوية وفيزيائية، ونتحكّم بها عبر مختلف تطبيقات الأخبار والتقارير الإعلامية، بأصابعنا وما تضغطه من أزرار، فهل كان الإنسان أبدا سيد مزاجه ونفسه كما هو في هذه اللحظات؟ أو هكذا يحب أن يعتقد، وربما هكذا يراد له أن يعتقد! فلا ننسى أن هذا العالم السيبرني كله متحكم به.
ويوضح تقرير مؤسسة إريكسون العالمية “أبرز 10 توجهات للمستهلك في العام 2017 وما بعده” أن من سلبيات هذه التكنولوجيا ما يسمّى بالصوامع الاجتماعية (Social silos)، فعادة ما تقوم لوغاريتمات مواقع التواصل الاجتماعي بحجب بعض المعلومات ما يقلل من إمكانية تعرفها على الأفكار المختلفة، ومن ثم تصبح هذه المواقع صدى لأفكارها (Echochamber) أكثر من كونها مواقع تهدف للتواصل بين المجموعات ذات الأفكار المختلفة.
وبالتالي الهاتف المحمول لم يعد وسيطا تقليديا بين شخص وآخر بمقدار أنه أصبح وسيلة اتصال بين الشخص ونفسه، ففي النهاية هذا الشخص يرى انعكاساته على مواقع التواصل الاجتماعي، فهو حبيس التطبيقات في عالم “مرآوي”.
ومن هنا بالذات، ومن خلال هذه الانتقائية الوهمية التي يسعى عبرها لتلبية رغباته وقناعاته تصبح الحقائق لا معنى معها، وتظهر لدينا جليّا أهمية استخدام مصطلح “ما بعد الحقيقة” (Post-truth)، وللوهلة الأولى تعتقد أن المصطلح يقصد أن الإنسان تجاوز إدراكه للحقيقة بأنه عرف أهميتها وأخذ بدلائلها ووصل بمعرفته لما بعدها، ولكن المقصود بالمصطلح كما أورده قاموس “أكسفورد” أنه يدلل على “الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في صياغة الرأي العام مقارنة بالاحتكام إلى العواطف والقناعات الشخصية”.
الآن أدرّب نفسي على ألا أخرج هاتفي النقال من حقيبتي إذا قامت ابنتي بأداء أغنية جديدة، وألا ألتقط لابني صورة في أول مباراة له بكرة السلة، ولنتذكر هذه الأيام معا ثلاثتنا كما ينبغي أن تكونه بعد عشرة أو عشرين عاما دون وسائط، لكن ماذا عن البشر؟، عن ماذا سيستغنون غير ذاكرتهم والحقيقة؟
إن أكثر ما أخشاه أن ما قاله الفيلسوف الفرنسي بول فاليري عن التاريخ سينطبق يوما على الهواتف النقالة وتطبيقاتها “هو المنتج الأكثر خطورة من بين ما حضرته كيمياء العقل.. يقود إلى هذيان العظمة أو هذيان الاضطهاد”.