موت كلاسيكي
ظننت “الكلاسيكية” مفهوماً ينسحب على كل ما هو قديم وراسخ في الذائقة الجمعية وما تحمله من أثر تعجز الأيام عن طمسه. الآن وبعد ما نعايشه من صدمات في الوباء، عصفت وما زالت تعصف بكل خصائص الحياة المعتادة، لدرجة جردتها من أبجدياتها، بدا كل شيء أمامي وكأنه يَرِث صفة الماضي. راحت تنسحب عليه صفة “الكلاسيكية” مهما كانت حداثته.. شيء ما يكسبه مذاق الاشتهاء بعد أن صارت أبسط التفاصيل وأكثرها بداهة غير متاحة، ولأجل غير مسمّى.
أكاد لا أتذكر تفاصيل الحياة منذ بضعة أشهر لا غير.. لم أعد أتجرأ على الركض لمسافات أبعد بالذاكرة، كي لا أستشعر الاغتراب الشديد الذي قد يُدخِلني في حالة عنيفة من الحنين. هكذا صار الأمس القريب مجرد “متعة” كلاسيكية المذاق ترقد في توابيت الانتظار، ربما قُدِّر لها البعث مرة أخري. وها هي كافة المكتسبات تتهازل أمام ذلك السقوط الحر من أعلى سفح الحياة.. اليوم نتساوى جميعاً دون أدنى أفضلية، دون أدنى أسبقية.. دون ترياق، يتساوى الجميع على أعتاب المجهول.
راحت تتهدم أركان المعبد، ونحن نتوسط الأطلال في دهشة الفِيَلة التي استفاقت من إعصار الرعونة.. تعمل وظائفنا الحيوية كـ”طقوس إلزامية” تؤدي واجباتها القهرية، فالحماس منطفئ والبهجة ترتعد والأمل يلهث، توقاً للحظة خلاص. صارت الدنيا مجرد محبس مترامي الأطراف نتجول داخله وفى أطرافنا أغلال تجذبنا نحو الجدار. الخارج والداخل يستويان؛ بالخارج مجهول قاتل، وبالداخل موت مع إيقاف التنفيذ. لا وعود بالحرية ولا موعد للوصول و لقاء عصيّ مع الحياة.
كل ما يربطنا بالماضي القريب، تعاظم أثره وتعتقَت ذكراه، وكأنها الحياة تُطِل علينا من خلف المَشربيات القديمة، فإذا بأشعة الشمس ترسم داخلنا رقعة شطرنج فقدت قِطعها في حرب ضروس، ليبقى اللغز مُشفَراً، نبحث بين متاهاته عن سبيل وهِن لخروج آمن.. تنشب النيران في أحلام قوامها آلاف السنين ..تلتهم سوليفان كان يستعد لاحتضان الورود الربيعية.. تطلق بارود النهاية على صروح التمني ..تترك رماداً خانقاً يتخلل الأنفاس.. تقضي على الاخضر واليابس، وكأنها تشتاق لـ”التهام” المزيد كي يخمد نهمها.
البديهيات تأبى العودة والمجهول يقتحم الواقع برعونة. خواء الحاضر يُحرّض المستقبل على الضبابية. والعبثية تكتمل رتوشها استعداداً للغرائبية المقيتة. جاءنا الوداع غادِراً، فلم يمنحنا فرصة الإشباع الأخير.. صرنا مجرد رهائن في فضاءات موحشة وباتت الحواجز التي تفصلنا تبارز ناطحات السحاب. تواضعت أحلامنا، بل وصارت مستحيلة، في الوقت الذي جاء فيه المستحيل لاهثاً مُفترشاً ساحة الحياة. تعملقت المخاوف حتى اِلتهمها الفزع و ذاب العِتاب من فرط الندم. دغدغ الرجاء طبقات الروح واغتسلت الحياة مع انهمارات النحيب. الأسود والأبيض يتلاطمان بينما يعلن الرمادي اعتزاله دون مواساة. كرات الثلج تتدحرج دون سيطرة الجاذبية عليها، بينما النيران تنضُج في أحشائها وتُنذِر بـ”إغراق مروّع”.
ستهدأ العاصفة يوماً ما، لكنها ستترك كل ما حولها ركاما. ومع أول زفير سيتهاوى صرح الرماد. ولو صارت أبواب الحياة مفتوحة على مصراعيها، لم أعد أصدق النبوءة الكاذبة. ترنيمة الموت تغازل مَن لازالوا على قيد الانتظار دون استحياء، بينما أصبحت الحياة حُلماً بائداً يصعب الطواف به تحت مظلة الواقع الحارِق. ومهما عاود الضجيج الغابر زحفه من جديد، لن يجدنا كما تركنا. لم نعد نحمل متعة الطمأنينة بعد أن صار الماضي مجرد انعكاسات راحلة للظل المُتلاشي بفعل الغروب الأخير.
لم أتصور ذات يوم أن يكون هناك “موت كلاسيكي”.. نعم، حتى الموت الذى كنا نعرفه في الماضي لم يعد مُتاحاً هو الآخر. لقد صار من النِعَم التي توارت دون الإعلان عن زوالها المفاجئ.. الموت الأن مجرد تَركة من التآمر، تجنيه الأجساد الوهنة التي يُدركها سهم الاختيار ويتنصَّل مِنها ذووها.. لعنة “الوباء” راحت تطمس كل المعاني والمشاعر… ولكن، أهي حقاً لعنة أم سطوة المجهول التي جعلت البعض يفرون كـ”الجرذان” بين أزقة الحياة؟ لقد التهم الوباء قدسية الموت، لينزع عنه كل مظاهر الخشوع والحداد، و بات الأمر لا يزيد عن خانات نكراء يترنح داخلها تِعداد انسيابي، يمكنه ابتلاع المزيد من الموتى والمصابين.. المزيد من المصائر المجهولة في انتظار الحشود دون مراسم، دون وداع، دون تأبين.
أيتها الحياة التي تأبى العودة، سنحمل لكِ في خيالنا موعداً للقاء غير معلوم. ربما عاودت السطوع. نتشبث بالنجاة طمعاً في لقاء “كلاسيكي” و مَوت “كلاسيكي” وما يتناثر بينهما من تفاصيل بمذاق اعتيادي طال الاشتياق إليه.. أيها المَحبس الشاسع أَطلِق سراح الحشود. لم تعد لدينا طاقة لمواجهة ذلك الواقع التعجيزى.
أيها “السراب” لا تضع كلمة النهاية. ولا تدع العُزلة قدرنا. لم نأتِ للحياة، كى نرحل هكذا.. ربما لسنا جديرين بفرصة ثانية، لكننا تواقين للعودة.. الأن ندرك أن أكبر خطايانا ذلك الاعتياد الأبله على النعم الألهية، وذلك الاستنكار الساذج لأوضاع صارت الأن أمنيات لا نتجرأ على الطمع فى بعثها من جديد. يكفي أننا صِرنا نطمع فى “موت كلاسيكى” بعد أن صار تكريماً بعيد المنال في زمن الوباء. لا تؤاخذنا يا الله على اعتياد النعم، فعندما زالت، تجلى اليقين وبقيت الحقيقة صادمة بين راحتي القدر. فالنجاة معلقة بخيوط الرحمة تحت سماء كاشِفة، والمصائر على اختلافها تصوغ لحظات فاصلة في زمن غرُبَت فيه طقوس البشرية.