الرواية النسوية في العراق.. مطالعة تاريخية
الخريطة العامة للسرديات النسوية أصبحت واسعة الانتشار في المحيط العربي. متداخلة ومشتبكة المضامين لتعطي انطباعات نقدية باستمرارية كتابات روائية كثيرة منذ العقدين الأخيرين، فتتشكّل وتنتشر بمعطيات خلفيات اجتماعية وسياسية جديدة أكثر تعقيداً مما مضى، لاسيما ما أنتجته ما يسمّى بثورات الربيع العربي من تغييرات سياسية وما تمخض عنها من سلوكيات غريبة ومتزمتة في البنى الاجتماعية وتمظهرات مختلفة في السلوكيات المجتمعية بشكل عام كالتطرف والإرهاب والحروب الطائفية. وبالتالي حاولت أن ترسي الكثير من المفاهيم والقيم التي تسير عكس الحياة في منطقها المتحضر. أو بشكل أوضح فإنها كانت محاولة إعادة إنتاج القديم بشكل آخر على المستويات كلها. وهذا أمر ليس بالسهل متابعته في سرديات المرأة العربية التي واكبت مثل هذه التحولات، واغتنت مرويّاتها بالأحداث المؤلمة والقصص الغريبة والحكايات والمشاهِد والرؤى الموجعة.
ومثلما ظل الإنتاج السردي العالمي يستحدث أشكاله في مروياته الجديدة واستظهر نصوصاً روائية متقدمة على صعيد البنى الفنية والجمالية، كانت الكاتبة العربية قد أسهمت بشكل أو بآخر أن تكون في سباق التحديث المستمر في الإنتاج الإبداعي بتطلعات جديدة وعلاقات سردية متضامنة مع المتغيرات الخطيرة في الواقع الشرق أوسطي، وهذا ملمح تنبغي الإشارة إليه في قراءة السرديات النسوية العربية، لاسيما من قبل النقاد والأكاديميين ودارسي هذا الجنس الأدبي الصاعد بين الأجناس الأدبية والفنية.
وفي عموم محاولات القراءة الجدية للإنتاج النسوي العربي سيكون الأمر فيه من الصعوبة بقدر ما فيه من نقصان فادح للإحاطة بكل ما نُشر، فالخريطة السردية النسوية العربية واسعة تتطلب التقصي الدؤوب للإنتاج الروائي الذي تكتبه المرأة، بمعنى أن يكون هناك رصدٌ ميداني واسع النطاق لتجميع تلك السرديات المتناثرة في البلاد العربية وقراءتها على ضوء متطلبات البحث والدراسة بتقييمها منهجياً ونقدياً، ومن ثم استخلاص نتائج من شأنها أن تقوّم فكرة الكتابة النسوية العربية أولاً والوصول الى مرجعيات نقدية في ضوء المناهج القرائية الحديثة التي عدّت الرواية هي الجنس الأكثر احتكاكاً بالمجتمعات والجنس الوحيد الذي (سمحت له) أن يتناص أو يحاذي مرويات جمالية متعددة في الفنون والجغرافيا والتاريخ والأسطورة والهامشي والمهمل، والاحتكاك بغيره من الأجناس بوصف الرواية نصاً جامعاً لكل هذا.
الرواية النسوية في العراق
في المشهد السردي النسوي العربي الذي سيتناوله باحثون ودارسون مناطقياً وجغرافياً، يمكن أن نرتّب ما يمكن ترتيبه بشأن النسوية العراقية في سردياتها المختلفة، بلمحات توثيقية تاريخية قد توصِل فكرة هذا التسريد الذي استحوذ على المشهد الأدبي العراقي في العقدين الأخيرين، ولا تخلو الإشارة الى الظروف السياسية التي عاشتها البلاد من حروب متتالية ولّدت ضغطاً نفسياً كبيراً وما تركته من تراكمات قهرية وانتكاسات على الفرد والجماعة، وما أنتجته من هجرات متسارعة وضياع طاقات وطنية في المهجر. وبالتالي فإن الكاتبات الروائيات العراقيات؛ هنا أو هناك؛ كنّ مشاركاتٍ فاعلات في هذه السرديات وتناوبن على كتاباتها على وفق اجتهادات فنية بوعي الكتابة وحرفيتها وطاقاتها على الإنجاز الجمالي، وعلى هذا الأساس تقع في باب المطالعة هذه أسماء نسوية لها رصيد جمالي في الكتابة الروائية وحضور لافت للأنظار ليس على المستوى الوطني حسب، إنما على المستوى العربي.
ونرى في هذه الفرصة إغلاق نافذة ما يُسمّى بالأدب الذكوري والأدب الأنثوي إلا للتشخيص الجندري وبسياقاته الطبيعية، فالكتابة ليست محصورة في الأدب الذي يكتبه الرجل أو الذي تكتبه المرأة. إنه عالم مشاع وخطاب مشترك وثقافة إنسانية مسؤولة، لذلك فالقول بوجود أدب ذكوري هو اجتزاء للحقيقة المشتركة التي يسهم فيها الجانبان، لكن من جانب (تحديد) الموضوع من بابه الشخصي كنوع اجتماعي أو ما يسمى بالجنوسة سيكون الأدب النسوي – جندرياً – مثالاً ممكناً للتفريق الجنساني في الكتابة، ولهذا إن القول بوجود أدب نسوي عراقي هو ما يقع في هذا الباب من دون غيره، وإلا فالإبداع يتساوى بين الطرفين في كثير من الأحيان، إذا لم تتفوق المرأة على الرجل في بعض الأحيان في طريقة الكتابة واستلهام أشكالها المستحدثة والتفاعل الجدي لإنتاج مرويات سردية بارعة، إذ لا يمكن أن يعيش السرد النسوي في حاضنة الأدب الرجولي كما كان يشاع بقصد أو من دونه، أو أن مضامينه متشابهة بسبب الظروف الاجتماعية والتقاليد القديمة التي تحول من دون أن تكون المرأة في صدارة المشهد الأدبي والثقافي.
تاريخية الرواية النسوية في العراق
لن يكون التاريخ عبئاً كبيراً على الدارسين والباحثين في التقصي التوثيقي لنشأة بوادر الكتابة النسوية العراقية في أوائل الخمسينات من القرن الماضي؛ فالمصادر النقدية والبحثية الأكاديمية توفرت على متابعات جدية لكشف الريادة السردية العراقية في أوائل مكوناتها، وهي ريادة شابَها التلكؤ والبطء وعدم النضج، باعتبار أن مرحلة الخمسينات هي مرحلة نقطة الصفر السردية في المشهد الأدبي العراقي، وهذا ما يؤكده الباحث د. نجم عبدالله كاظم الذي أولى عناية بحثية وتاريخية للرواية التي تكتبها المرأة العراقية وهو يوثّق – تاريخياً – الإنجازات المبدئية الأولى للسردية النسوية في محاولات يمكن القول إنها ضعيفة بناء على معطيات النقد المنهجي والجمالي، وأن البدايات الصعبة لم تستشعر الفروقات الفنية بين ما هو رواية أو قصة طويلة (نوڤيلا) في إشكالية فنية مبكرة على الكتابة الروائية آنذاك. وبالتالي كان الرصد البحثي يشير الى أن أول المحاولات الروائية النسوية كانت في الخمسينات من القرن الماضي على يد الروائية حورية هاشم نوري بروايتيها (ليلة الحياة – 1950) و( بريد القدر – 1951) تلتها رواية (مَن الجاني- 1954) لحربية محمد ورواية (نادية – 1957) لليلى عبدالقادر.
ومن خلال دراسة التعقّب النقدي لتلك المراحل الأولى في الكتابة السردية النسائية سيبدو أن تلك المحاولات لم تكن تمتلك شروط الرواية ببعدها الفني الناضج، وهي أقرب إلى القصة الطويلة منها إلى الرواية ولا تمتلك أسلوبية الرواية الفنية، وأنّ مضامينها تفترعها هموم المرأة وإشكالياتها الاجتماعية العامة وأسلوبيتها مباشرة وبسيطة. ومثل هذا الحكم النقدي لا شك كان يراعي الفترات الزمنية التي نُشرت فيهما هاته المحاولات القصصية – الروائية، فالجو الريادي الأدبي كان للعطاء الشعري كما هو معروف ولم يكن السرد قد أخذ مستواه الفني بعد أو شكله الذي يراعي أحكام وشروط الكتابة الناضجة، كما كان حضور المرأة – الكاتبة شحيحاً بسبب ظروف وملابسات اجتماعية – دينية وقلة الوعي الثقافي في أهمية الانتاج السردي، وإحاطة المنظومة الاجتماعية بممنوعات كثيرة.
ومع أن مرور عقدين من الزمن كان كافيا للإصلاح الفني وتعقب أثره في الإنتاج العالمي عبر الترجمات التي كانت تفد من القاهرة وبيروت، إلا أن الحالة السردية الروائية لم تتقدم كثيراً في اختبارات الكتابة، مع أنها نضجت إلى حد واضح مع الجيل الستيني (الذكوري) المتميز بعطائه القصصي والروائي والشعري، لكن ربما مع أواخر الستينات والسبعينات عاد النشاط يدب في أوصال الرواية النسوية مع سميرة المانع ولطفية الدليمي وابتسام عبدالله وعالية ممدوح وأخريات، بتسجيل فني أكثر قدرة على البقاء من الرواية الخمسينية المُعطّلة فنياً. وربما بظروف سياسية مستقرة ساعدت على الانفتاح والتلقي والهضم. وهذا يحيلنا إلى توثيق لمجمل الإصدارات النسوية التي ذكرها الباحث والناقد د. نجم عبدالله كاظم في أكثر من مناسبة في تتبع تاريخي مضمون من أواخر الستينات حتى عام 2000 بقصد توفير غطاء سردي للروائيات العراقيات وهنّ يتقدمنَ بمشاريع روائية فيها الكثير من النضج والتطور مع قلتها إذا حسبنا العقود الزمنية ونسبتها خلال أكثر من ثلاثة عقود تقريباً. وهي “جنة الحب” – 1968 لمائدة الربيعي و”أشواك في الطريق” – 1970 لسميرة الدراجي و”عيناك علمتاني”- 1972 لشرقية الراوي و”نخيل وقيثارة”- 1973 لسليمة خضير و”النهوض”- 1974 لسالمة صالح و”النافذة”-1975 لبديعة أمين و”ليلى والذئب”- 1981 و”فجر يوم وحشي”- 1985 و”ممر إلى الليل”- 1988 لابتسام عبدالله و”عالم النساء الوحيدات”- 1985 و”من يرث الفردوس”- 1987 و”بذور النار”- 1988 للطفية الدليمي و”حبات النفتالين”- 1986 لعالية ممدوح و”لو دامت الأفياء”- 1986 و”ذاكرة المدارات”- 1988 لناصرة السعدون و”حبل السرة”- 1990 لسميرة المانع. و”مطر أحمر مطر أسود”- 1994 لإبتسام عبدالله و”زهرة الأنبياء”- 1994 لسالمة صالح و”الولع”- 1995 لعالية ممدوح و”العالم ناقصاً واحد”- 1996 لميسلون هادي “القامعون”- 1997 لسميرة المانع و”كم بدت السماء قريبة”- 1999 لبتول الخضيري و”النقطة الأبعد”- 2000 لدنى غازي و”الغلامة”- 2000 لعالية ممدوح.
مخزون السرد
هذه الإصدارات السردية التي تواترت في العقود الأربعة الماضية التي وثّقها الباحث والناقد د. نجم عبدالله كاظم أشرت الى إقبال نوعي على السرديات النسوية متجاوزة بذلك سرديات الخمسينات الريادية التي كانت تتصف بالضعف الفني عموماً، لكنها كانت تأسيساً أولياً لسرديات نسوية عراقية بالرغم من الظروف الثقافية والسياسية والاجتماعية آنذاك، ولعل الاحتكام النوعي يحيل إلى إنتاجات التسعينات التي تجلّت في أعمال روائية يمكن قراءتها على ضوء أحداث سياسية مرت البلاد بها، فبالإضافة إلى (الخزين الحربي) الثمانيني الذي ملأ الذاكرة الاجتماعية اليومية بالحرب العراقية – الإيرانية، حلّت كارثة الحصار الاقتصادي الذي امتد لثلاث عشرة سنة ذاق فيها العراقيون ويلات الأمراض والجوع والإهانات، ومن المؤكد أن كل هذا انطبع في ذاكرة الرواية وإن ظهر منه جزء قليل بسبب سياسة السلطة الحاكمة في تلك الفترة. ونعتقد أنه في تلك المراحل المتسارعة تبلورت الكثير من مفاهيم الحداثة السردية بالتدريج مع الوعي الكتابي الذي سار باتجاه تحقيق هدف فني وبجعبته الكثير من مشاهد الحرب والفقدان والموت وغياب الحياة بشكلها البسيط.
وهذا التوصيف انسحب إلى ما بعد 2003 عندما خضعت البلاد إلى ظروف احتلال جديدة وحروب ثانوية داخلية ومداخلات طائفية ودخول داعش على الخط البياني النازل لتزيد من وطأة الحالة الاجتماعية والسياسية، فتحوّلت مجريات الأمور من الهم الذاتي إلى الجماعي بعد حروب وحصار وإسقاط دولة ونظام واحتلال أجنبي، ثم تبلورت الكثير من المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية ودخلت البلاد في متاهات كثيرة. مثلما تغيرت أساليب الكتابة وزوايا النظر والأشكال الفنية وطرائق الكتابة.
في الجانب الآخر من هذه المعادلة غير المتوازنة ساعد الانفتاح الثقافي السريع بعد 2003 على بلورة العديد من الجماليات الأدبية والفنية وتسيّدت الرواية المشهد الأدبي برمّته على حساب الشعر والقصة القصيرة، حتى بات من الصعب الإلمام بكل الإصدارات النسوية وتوجيه القراءة الفاحصة إليها. وبالتالي ظل النقد عاجزاً عن اللحاق بهذه العربة السردية المتدحرجة بسرعتها الغريبة، وهي تنعتق بشكل غير مبرمج وغير مسبوق، حتى قيل إن عشرات المئات من الروايات صدرت خلال خمس عشرة سنة بأرقام تبدو خيالية، لكنها واقعية بالقياس إلى انفتاح سوق النشر وتوفر السيولة النقدية وانتشار دور النشر والمطابع وسوق الكتب، إضافة إلى إسهامات المواقع الإلكترونية المتعددة التي ساعدت على الترويج المجاني لمثل هذه الإصدارات.
جوائز وأسماء
يبدو جلياً أن حضور المرأة الساردة كان أوفر حظاً من المراحل التأسيسية السابقة، واختلفت البنى والرؤى وجماليات الأثر الروائي النسوي في ضوء ظروف قاسية، ولم يعد القهر الاجتماعي والجنسي هو المهيمن على الكتابات النسوية كما كان دارجاً في العادة، إنما تغير حتى مفهوم الكتابة في البحث عن مفاصل الألم في الحياة العراقية وتوثيق عبثيات الحياة واسترجاع الذاكرة الشخصية والاجتماعية، والكتابة عن هواجس الحرب ومخلفاتها الكارثية فضلا عن الاهتمام بمجتمعات الأقليات والبحث عن الهوية الوطنية في فوضى الدولة وسياستها الطائفية. والعودة إلى الأسطورة الرافدينية واسترجاع الأثر التاريخي القديم ومعادلته مع الحاضر المتشظي. بمعنى صار التصاق الكاتبة بالحياة اليومية وهمومها أكثر جدية من قبل في حياة مخادعة ليس فيها سلام أو أمان. لهذا نقرأ سرديات متعددة ومختلفة عن سياقات اجتماعية ونفسية غير موجودة في الخمسينات والستينات والسبعينات، بتقنيات جديدة واستيعابات أكثر قوة في تنمية الحلقات السردية في الكتابات الجديدة، وفي تجريب روائي فيه مستوى جيد من التفاعل الفني والخلق الإبداعي لتأكيد هوية الذات بوصفها الهوية المرتبطة بالسلوك الوطني العام، ومن ثمّ تكريس الذات الوطنية العامة كخلاص أخير يسرّع في تهيئة مساحة واسعة للجمال على مستوى الفرد والمجموع. لذلك، ومع الكتابات الروائية المتسارعة، سنجد أن الروائية العراقية حققت حضوراً جيدا في الجوائز العربية (البوكر وكتارا) ولمعت أسماء صارت علامات جاذبة للقراءة، تتقدمها إنعام كجه جي بوصولها ثلاث مرات إلى القائمة البوكرية القصيرة، والروائية الشابة شهد الروي التي سُلّطت الأضواء عليها بعد فوزها بالجائزة البوكرية، وأخريات حصلن على مراكز متنوعة في الجائزتين كميسلون هادي وناصرة السعدون وهدية حسين. ومع فيض النتاجات السردية في الرواية ترتبت أسماء أخرى ضمن تعاقبية المراحل العقدية الأدبية كعالية ممدوح وبثينة الناصري وبتول الخضيري ووفاء عبدالرزاق وأميرة فيصل ورشا فاضل وإلهام عبدالكريم وهيفاء زنكنة وإيناس أثير وبلقيس حميد حسن وخولة الرومي وكليزار أنور وليلى قصراني وإرادة الجبوري وإقبال القزويني وهيفاء زنكنة ورغد السهيل وأمل بورتر وأسماء كثيرة جديدة لا يمكن إحصاؤها في هذا المسرد التاريخي.
متغيرات أسلوبية
انشغالات الكاتبة العراقية في الفترة الثمانينية الحرجة من القرن الماضي كانت انشغالات ذات طبيعة تعبوية بشكل عام بسبب الحرب العراقية – الإيرانية وكانت الكتابات تواكب مراحل الحرب وتتقصى أخبارها الكارثية، حيث الأمهات ينتظرن أبناءهنّ في جبهات القتال، وحيث الشهداء يتساقطون في مختلف الجبهات، وصار الجو العام سواداً بالرغم من الزعم بالانتصارات هنا وهناك. لذلك وجدت الكاتبة نفسها في هذا الزخم المأساوي في ترنيمات الحزن والحالة الجنائزية المطّردة، ومن الطبيعي والمتوقع أن تنحو الكتابات إلى توثيق المرحلة بأشكال سردية متقاربة وموضوعات تتشابه إلى حد بعيد، لاسيما والسلطة المركزية السابقة كانت تحاول بالطرق كلها تعبئة الجو الثقافي نحو مفردات النصر ومشتقاته. ولم يكن يعنيها أمر الحداثة السردية ولا عناوين الإغراءات الفنية، وبالتالي نشطت القصة القصيرة والقصيدة على حساب الرواية التي لم تكن حالة لافتة نقدياً. وكانت الروائيات العراقيات يقدمن النزر اليسير منها في إطار تداعيات المواقف العسكرية المتغيرة.
إن موضوعة الحرب التي رافقت كتابات العراقيات والعراقيين في الثمانيات واستمرت إلى هذا اليوم لها ما يبررها على الصعيد الواقعي. وإن بلاداً نصف عمرها كان معاركَ وحروباً وطيشاً سياسياً لا بد أن تحفر في الذاكرة الأدبية وتترك فيها الكثير من الخزين الاجتماعي والنفسي المنهار، لذا اختلفت طاقة الكتابة مع الوقت بين الكاتبات. فالعودة إلى التاريخ العراقي المعاصر شغل معظم السرديات النسوية في محاولة إيجاد علاقة تاريخية رمزية مع المتغيرات الزمنية الصعبة والطويلة، مثلما هي العودة إلى استحضار الوجه التاريخي القديم لتأصيل عراقية المكان وتاريخيته. وفي عموم السرديات القديمة والحديثة سنجد مثل هذا الميْل العام لكتابة ملحمة روائية تتقصى زمنياً العراق بمراحله الاحتلالية المتعاقبة (العثماني – الإنجليزي – الأميركي) وتوسيع دائرة الوعي للتلقي العام بضرورة مثل هذه الحفريات التاريخية لتمكين المتون الروائية بدعائم تاريخية أساسية، بغرض معادلة إشكاليات الحاضر وإحالته إلى أرضيته الأولى.
إن الحرب وبلاءاتها الكثيرة منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم بما يزيد على أربعة عقود زمنية تركت ثيماتها الواضحة على مجمل الخطاب السردي، وبرزت موضوعة الشتات العراقي كثيمة أساسية ومرجعية سردية متداولة بين الكاتبات العراقيات. وهو الحنين إلى الحاضنة المحلية بكل ما فيها من طفولة وشجن وذكريات، وهذا يمنح الكتابات الكثير من الاستذكارات ويغذّي فكرة الوطنية بماضيها وحلقاته المتصلة في اجتماعيات الشخصيات التي تعيد القديم بطريقتها؛ مقارنةً بالحاضر ومآسيه المتكررة، واتخذت هذه الثيمة أساليب متعددة في استثمار طاقة الريبورتاج الصحفي وتيار الوعي والراوي العليم والاسترجاعات الكثيرة، وبأشكال فيها من الفاعلية السردية ما يمنحها الكثير من الحركية والتلاعب الزمني واللغة الموحية بدلالاتها الرمزية أو الواقعية.