قضيّة حقّ شخصيّ ضدّ أفلاطون
1
بعد عشرين سنة من دخول الألفية الثالثة، جاء أفلاطون من بيته البعيد في التاريخ، ليزور مدينته الفاضلة. فلم يجد فيها سوى الشعراء. كلّ سكانها العاقلين تحوّلوا شعراء.
الفلاسفة الذين تركهم يزنون المنطق بميزان العقل، وجدهم يشعلون المصابيح في وضح النهار، ويبحثون كلّهم عن الإنسان.
الساسة الذين تركهم يخطّون دستور الإنسان، وجدهم يتجوّلون في سوق الكلام، يبيعون للعطاشى لفظة ماء. يبيعون للجوعى لفظة خبز. يبيعون لللاجئين لفظة بيت، يبيعون للمنفيين لفظة وطن، يبيعون للتائهين لفظة طريق، يبيعون لليائسين لفظة سماء، يبيعون للمتعبين لفظة سرير، يبيعون للحمقى لفظة فردوس.. كلّ الألفاظ كانت متوفرة في سوق الكلام، وكان الناس يأخذون ما اشتروه من ألفاظ، ويذهبون سعداء إلى حيواتهم.
كلّ سكان المدينة أصبحوا شعراء: النجّارون مهمتهم الآن تحطيم الأبواب وليس صناعتها. الحلاقون مهمّتهم الآن زرع الشعر وليس قطعه. الخياطون مهمتهم الآن تمزيق السراويل وليس خياطتها. الطبّاخون مهمّتهم الآن “تنييئ” الطعام وليس طبخه.
القصّابون كذلك، أصبحوا شعراء. بمجرّد الضغط على لفظة “ذبح”، تُذبح ألف دجاجة في دقيقة، وينتف ريشها في ثلاث دقائق، وتفرغ أحشاؤها في خمس دقائق.
سار أفلاطون بين أنهج مدينته الفاضلة، وشاهد من الصور الشعرية ما يقشعرّ له الذهن. رأى عربات هضمت الخيول التي كانت تجرّها، وحوّلتها إلى محرّكات، ثمّ رآها تسير خلف بعضها البعض في طرق متشابكة، وسمع صهيلا عجيبا للخيول المعجونة، وشاهدها تشرب من مياه مسمومة، يستخرجها الإنسان من مخلفات الحيتان والدينصورات..
شاهد حرّاس المدينة، يسرقون من السماء بعض النجمات، ويلصقونها على أكتافهم. وشاهد الكهنة يغمسون ريشاتهم في السماء، ويرسمون دموعا على خدودهم.
شاهد أشخاصا غامضين، يضعون نظارات سوداء، يضغطون على زرّ فتشرق الشمس، ثمّ يضغطون على زرّ آخر فتنطفئ الشمس. ثمّ شاهدهم يضغطون على زرّ فتنزل الأمطار، ثمّ يضغطون على زرّ آخر فتطلع الأعشاب من الأرض.
قال أفلاطون لنفسه، وما كانت تفهمه في مدينته سوى نفسه:
– لو أقصّ ما أرى على أبناء زمني، سأتّهم بالشعر.
بحث طويلا في مدينته عن المنطق، فلم يجده، لا في البشر ولا في الحجر ولا في الشجر…
كان سيصرخ بأعلى صوته:
– كفّ عن الشعر أيها الإنسان.
لكنّه تذكر أنّ وجوده الآن في مدينته، هو في حدّ ذاته مجرّد فكرة شعرية.
2
لم يكتشف الإنسان في تاريخه، سرّا أعمق من الشعر، في التعبير عن آلامه وأحلامه، فمنذ نصوصه الأولى التي حاول أن يفسّر بها العالم، وحاول أن يفهم ذاته، والإنسان يقيم على هذا الكوكب الأزرق إقامة شاعر، قبل أن يفكّر في وضع قوانين لتلك الخيالات، ويحوّلها حقائق منزّلة، وينضبط لها في المربّع الذي هندسه لوجوده، وسمّاه مدينة، ثمّ حرصا منه على إبعاد كلّ شبهات تمس حقائقه بنار الشعر، طرد الشاعر من مدينته، وانتهى مجرد كائن يقيني بارد.
إنّ هروب هذا الكائن اليقينيّ من الشعر، هو هروب من الهاوية التي تنفتح في ذاته، هروب من الأسئلة التي تجلده، هروب من فردانيته وإحساسه بالاختلاف عن الجماعة. وهو لم يكتف بهروبه من الشعر، بل حاول أن يروّضه، ويدخله في قوالب يقينياته، تماما كما روّض أجداده الأوائل الكلاب البريّة، وحوّلوها حراسا لقطعانهم. لكن الشعر الحقيقيّ ظلّ مستعصيا عن الترويض، يعوي تحت القمر، ويملأ ليل الكائن اليقينيّ بالخوف والشكّ والهواجس.
إنّ خوف الإنسان العادي من الشعر، لا يعادله سوى خوفه من الجنون ومن مسّ الشياطين، إنه شيء غامض يخرّب طمأنينته، ويعيده إلى أسئلته الأولى التي هرب منها.
يقول الشيخ لابنته التي يخاف عليها من نسمة الهواء:
– لا تعبري النهج الذي يسكنه الشاعر.
– والنهج الذي يسكنه بائع الأفيون، هل أعبره؟
– لا خوف عليك من بائع الأفيون، فأنت تعرفين خطورته، لكنّ الشاعر يروّج أفيونا سريا، لا تقدّرين نسبة خطورته، إنه يبدأ بوصف ابتسامتك، وينتهي بوصف دمعتك.
تقول أرملة لابنها الوحيد، الذي يتهيأ للذهاب إلى عمله:
– احمل مطريّتك يا ولدي، فإنّ السماء تُمطر شعرا.
إنها تخاف على أفكاره البيضاء، التي غسلتها بالصابون جيدا، ومسحت عنها تكاميشها بالمكواة، من أن يبلّلها الشعرُ، ويحوّلها أفكارا مجعّدة، ستحوّل هيئة ابنها الأنيق، إلى هيئة صعلوك، لا يصلح للعمل في الإدارات.
حتى الحكومات البراغماتية المنضبطة، تحرص على إبعاد مواطنيها على مصادر الشعر، أكثر من حرصها على إبعادهم عن مروّجي الأفيون. هي تعرف أنّ مؤثرات الأفيون يمكن علاجها بالحقن المهدّئة والعلاج النفسيّ، لكن مؤثرات الشعر لا علاج لها أبدا.
إنّ المواطن المصاب بالشعر، تظهر عليه أعراض التأمّل في الأشياء الزرقاء الغامضة، عوض التأمل في ملفات الحسابات البنكية، وهو يحرص على اكتشاف ما تحت فساتين البنات، أكثر من حرصه على اكتشاف الكواكب الأخرى، ولو عاتبته على ذلك، فسيسكتك بطلقة من مسدس الاستعارات الذي يثبّته على أذنه. وسيقول لك: إنّ السفر إلى ليلى، لا يعادله السفر إلى كواكب الكون.
كبار المفكرين في العالم بمن فيهم الحمار، يعرفون أنّ كلام الشاعر صحيح، فالأموال الطائلة التي صُرفت على بناء مشروع الرحلة إلى القمر، كانت تكفي لإطعام سكان الكرة الأرضية ربع قرن من الزّمن. وفي النهاية: ماذا جنى الإنسان من هذه الرحلة؟ إنها لم تكن سوى استعراض زائد أمام أخيه، الذي يلعب أمام بيته بصواريخه الصغيرة.
من غرائب هذا الإنسان، أنه يفكّر في إعمار الكواكب الأخرى، وهو يخرّب كوكبه.
هل رأيت إنسانا يخرّب بيته، ويعمّر بيوت الآخرين؟
لا أتصوّر أنّ الشاعر ضدّ الحلم بالكواكب الأخرى، بل إنّ التهم القديمة التي كانت تتعلق به، أنه كثير الحلم بالأقمار والنجوم، لكنّ الشاعر يحبّ ليلى وإليزا أكثر من حبه لنيبتون والمرّيخ، وهو يرى، أنه من العيب أن يصرف الإنسان أطنانا من الذّهب لأجل السفر إلى كوكب رمادي، بينما ليلى تنام بلا غطاء في الجنوب، وإليزا حزينة في الشمال، لأنها طلبت من حبيبها باقة ورد، وهو منشغل عنها بإدارة حديقته.
أتصوّر أنّ الإنسان سيواصل هروبه من الشعر، هروب العاشق من حبّه القديم، وفي هروبه سيخترع لنفسه شعرا آخر، يتلاءم مع رغباته وهواجسه الجديدة.