في التجربة الشعرية
أكتب الشعر، لأنه كان الأقرب في التعبير تبعا لكثافته عن أزمتي الشخصية، وعن أفكار وأحاسيس شديدة التداخل والغموض، بجانب التعبير عن الأفكار الواضحة الهيكلية، التي لا تحتاج لمجهود لمعرفتها عن النفس، بسبب توارثها داخل السياق الشعري والأدبي بشكل عام. كان “الداخل” في حاجة لطريقة في التعبير عنه، مرتبطة بغموضه، فكان الشعر، في بدايته الشخصية، عبارة عن فوران لهذا الداخل، لا يجد طريقه إلا من خلاله، كثافته، وأحيانا سورياليته، وأحيانا هذا القالب الشعري الذي يحفظ هذا الداخل من الانفراط المجاني، فكان الشعر وعاء للحفاظ عليه وتبنيه له.
ربما كانت هذه طريقة تعبيري، بالشعر، عن الأزمة الشخصية في بداية وعيي بها، ولكن بعد ذلك دخلت أشكال وسياقات أخرى، أضيفت إلى مفهومي: الداخل، والأزمة. بدأت التسجيل، شعريا، بشكل ما لسرد الحياة اليومية، وبالتأكيد على اللافت منه، وبدأت القصيدة تتباعد قليلا عن فكرة الداخل والأزمة، وتتجه نحو المشهدية التي تقف فيها الصورة وتحجب المعنى، أو تضعه في سياق تأويلي متسع، ولكنه ربما غير دقيق، أو جماليته مؤقتة. ربما الفائدة من هذه الطريقة أنها أدخلت صياغات وأساليب لهذا السرد اليومي، وأوجدت شكلا للتعبير عنها. ثم عاد، مرة أخرى، هذا “الداخل” ليظهر في شكل جديد، ربما بعيدا عن مفهوم “الأزمة الشخصية”، ومتماسا مع مفهوم “أزمة الحياة والموت”، وكيفية التعبير عنها. فالتمرد الذي ظهر في كتاباتي الأولى، وكان هدفه النيل من مجموعة من السلطات المباشرة، عاد في دواويني الأخيرة ليظهر، دون أن يوجه لسلطة بعينها، كون التمرد، أصلا، لم ينشأ سياسيا في بدايته، بارتباطه بمواجهة سلطة محددة، ولكن في اتخاد موقف من الحياة، من الوجود، من السأم، من أشياء كثيرة، شديدة القوة والتأثير على حياتنا، ولكنها لا تظهر لأنها تقف وراء سلطات مادية، أو مجانية، تستهلك حياة الكتابة.
بين الرحلتين، وقد وصلتُ للستين، ربما اكتسبت الطريقة التي أعبر بها عن هذه السلطات الخفية، والواضحة أيضا، والمشتركة مع الكثير من الناس، عن سلطة الحياة نفسها، وكيف يكون لحياتنا قيمة، أو كيف نجد هذه القيمة بينما الموت يقف أمامنا، وكيف يكون النسيان أداة لليقظة، وكيف نثق بالكتابة أو “الأسلوب”، وهناك حواجز سلطوية قد أزيلت من تلقاء نفسها بالتقدم في العمر، فظهرت الحياة عارية من السلطات، أو من هيكلها، وتحولت لسطح بحر شديد الاتساع، لا يمكن أن تأخذ موقفا فيه، إلا بالغرق، أو التماهي مع هذا الاتساع. المقاومة هنا هي كيف تحدد مكانا دون آخر، وموقفا دون آخر، وسط هذه المعرفة الكلية. وكيف تفصل بين ذاتك وذات الكون الذي تتماهى معه، الكون الحقيقي والكون المعرفي، معا.
أعتقد أن مفهوم الرحلة الشعرية، أو رحلة الكتابة بشكل عام، لا يعني “الانفصال”، ولكن “التوحد” مع ذات كلية. ولكن أيضا هذه الذات الكلية قد تمت صياغتها أو سرقتها في هيكل سياسي، ولها حضور آخر يجب أن تبحث عنه، لتصل إليه، وتحدد الموقع، والتخلي الذي ستقوم به، من أجل هذا التماهي. إنها رحلة بدأت بالفردية، وانتهت بشكل ما ضد الفردية، وليست ضد الفرد. ضد الانفصال، لأنه أيضا تم صوغه سياسيا، فبدا ذا قيمة، ولكن دون جمال.
ولكن حضر السؤال بقوة، هذا الاتحاد بهذه الذات الكونية كيف يكون دون تخل عن الأسلوبية، هل باستخدام صيغة السؤال، هل بتوجيه الأسئلة لكون، ربما يتم صوغه، من خلال الكتابة، بشكل جديد. هل بإغفال الثقافة/المعرفة التي تقف بينك وبين الكون، وترى نفسك “آدم”، ولكن بسوء نية معرفي؟
أعتقد أن جدية أيّ مشروع شعري، هو أن يترك النقطة التي بدأ منها. لا يعني هذا أن يتقاطع معها، فهي عبارة عن كتلة شعورية نيئة، جزء من جوهر خالد، كونها كانت تأتي بالنار والنور من داخلها؛ ولكن أن يدور حولها ويوسعها، ليكشف المساحة المظلمة من حولها، والتي لم تظهر من قبل، يكشف التقاطعات العديدة، وربما، في رحلته، يضيء جزءا من هذه التقاطعات، ودوائرها المعرفية والشعورية، لتبدأ في الظهور دوائر أخرى. ففكرة “المشروع”، ليس في أنه رحلة فقط، ولكنه بداية دائمة، لأن مساحة الكشف تظهِر هذا الاتساع الذي يسير فيه الشعر، أو المعرفة. والشعر جزء من هذ المعرفة للحياة، مثل أيّ أدوات علمية أخرى.
أحيانا نصدق بأن “الداخل” يمكن أن يسع الكون، ربما، ولكن ربما يسع الكون في لحظة ما، يسع الله في لحظة ما، يسع أيّ شيء في لحظة ما. هذا الاتساع والتمدد اللحظيان هو التماهي الذي أقصده، الذي يحدث أثناء الكتابة، والذي يكون حوله فراغ عدمي. مجرة مضيئة وسط ظلام تام. كل منا يكتشف مجرته، رحلته، مشروعه. لا أعتقد أن آخر إنسان في الحياة سيكتشف أو سيضيء، أو أن الشعر يمكن أن يثبت جوهرا خالدا، بل سيصمت، لأن إما أن الطرق تشابهت بشكل مخيف، أو ضاقت بشكل يخنق أيّ صوت للتعبير.
أعتقد أن أيّ عمل فني، أدبي، شعري، يعتبر مشروعا، لأنه ليس هناك سر سيُكتشف في النهاية، ولكن تماسات وتوسيع من مساحة تأويل الحياة، وهي الرحلة الأهم، أو الممكنة: توسيع مساحة التمثيل، حتى الوصول للوهم، ثم العودة، وأيضا توسيع من مساحة “الفرد”، حتى يلامس ويتماهى مع الكون أو الجماعة.
في كلتا الحالتين هناك قوسان حاضران: الوهم والحقيقة، الفرد والجماعة. فمفهوم “المشروع”، أو الخلق الذاتي، سابق علينا وليس لنا إلا أن نضع إضاءات دقيقة داخل مفهومه التاريخي، لأن الغموض سابق علينا، والحياة نفسها سابقة علينا، حتى ولو خرجت من نقطة محددة، لقد فاتنا التأسيس، هي حاضرة فقط في الذهن، في المخيلة، لكي يبدأ منها الخيال عمله، أو يبدأ منها تاريخ التمثيل، أو المشاريع بالمعنى الاكتشافي. لقد امتلأت غرفة الكون بالكثير من الكراكيب. فأخذنا على عاتقنا أن نكشف ما بها، لا أن نكشف سرها، بجدية أو بسخرية، ونجعلها محتملة، أو نتغذى على بئر صغير للغاية يمدها بالحياة، ونعتبره هو الحياة نفسها، فقط لكي نعيش، ونشعر بالجدوى، فنحن جزء من أدوات الحياة، وكراكيبها أيضا.
ربما الشعرية، أو المشروع الشعري، هي في قلب هذه الحقائق والأوهام. فالجميع يمتلك، وله الحق في امتلاك، هذا المشروع. الشعر يقع في قلب كل هذا، ورفيق لكل التحولات، بداية من الثقة حتى الغرق، حتى النسيان، كان سطحه عاكسا لكل هذه التحولات، ولا غيره يمكن أن يعكس، لأنه غامض، وليس له نقطة بداية محددة مثل الكون، وشديد التحول والتغير والمراوغة، وله القدرة على أن يكشف هذا الكون القديم المختزن فينا، الذي يسبق ميلادنا نفسه، وله القدرة، ليس على اكتشاف السر، ولكن على التماس مع مناطق شعورية، في الذاكرة، شديدة الخصوبة، وبداخلها تعيش أجزاء من قصتنا وقصة الحياة، معا.