الأرشيفانيّة الجديدة
يُشكّل النّقد الثّقافيّ من خلال حضوره اللافت عربيًّا وعالميًّا علامةً بارزةً في سياقات النّقد الحديث، ويُقام أود النّقد الثّقافيّ وفقًا لهذا المنظور على جملة من المقولات التأسيسيّة التي تتمثل في نسقيّة النصوص، ومراوغتها، وسلطة التاريخ، وانبعاث المؤلّف من مرقده… إلخ، وهي مقولات لا نُدحة أمام النّاقد المُختلف من الإفادة من ممكناتها في رحلته المعرفيّة الشائكة في شعاب النصوص ووهادها، بغيةَ الكشف عن أنساق هذه النّصوص، ومن ثمّ القبض على تمثيلاتها الثقافيّة.
إذا كان المنشغلون بالنقد الثقافيّ مشرق العالم ومغربه قد شكّلوا نمطًا قرائيًا (Receiving Mode) خاصًا بهم فإنّ يوسف عليمات يتمثّل عبر مشروعه الممتدّ من (2004 إلى الآن) صوتًا نقديًا متفرِّدًا، ذلك أنّه ظلّ مشغولًا بسؤالات المنهج والمنهجيّة، أو قل: مُكتويًا بنارها، حتى استطاع أنْ يؤسّس لنفسه مسارًا قرائيًّا، يعرَفُ به كلاهما، أقصد: المشروع والنّاقد.
ولذا وتأسيسًا على ذلك فإنّ النقد الثقافيّ مثّل لدى يوسف عليمات ممارسةً أو نشاطًا منهجيًّا عابرًا للتخصصات، إذ يمكن من خلال الاتكاء على مقولاته المنهجيّة قراءة الأدب العربيّ، شعره ونثره، طريفه وتليده، من منظور مغاير يؤسّس لمفهوم قراءة الاختلاف أو اختلاف القراءة، التي تكون ناسخةً تنسخُ القراءات السابقة للنّصّ، وتجدد في نُهُجِ تلقّيه، ولعلّ ذلك يتجلى في تواليفه المختلفة:
• جماليّات التّحليل الثقافي: الشّعر الجاهلي نموذجًا، 2004.
• النّسق الثقافيّ: قراءة ثقافيّة في أنساق الشعر العربي القديم، 2009.
• النّقد النسقيّ: تمثلات النسق في الشعر الجاهلي، 2015.
• ثقافة النّسق: تجلّيات الأرشيف في الشّعر العربيّ القديم، 2021.
إنّ عليمات أثّل من خلال هذه الكتب منهجًا/مناهج يمكن الاستعانة بها في مناوشة النّصّ الشّعريّ القديم، بوصفه وثيقة أيديولوجيّة، وبِنية متوتّرة، ونصًا ثقافيًّا، ولا محيصَ من القول: إنّ عليمات بوصفه ناقدًا مجدّدًا ومختلفًا في الآن عينه انبرى ليكون في طليعة الذين أقبلوا على تلقّي النّقد الثّقافيّ: تنظيرًا وتطبيقيًا وترجمةً؛ ممّا أسهم في تبلور مشروعه النّقديّ الخاصّ، بصورة تحوّل خلالها مشروعه إلى مدرسة نقديّة، تحلّقتْ حولها زمرٌ من الباحثين، الذين حاولوا من خلال أطاريح جامعيّة وبحوث ومقالات ومراجعات علميّة استلهام مقولات القراءة التي شادها عليمات، فضلا عن الانبراء لقراءة مشروعه كذلك من منظور نقديّ فاحص، وإخضاعه لمبضع النقد والمساءلة المنهجية في إطار ممارسة نقديّة تنتسبُ إلى نقد النقد.
وفي هذا السّياق انتهت هذه القراءات جميعها إلى أنّ أطروحات يوسف عليمات في النّقد الثّقافيّ تتكشف عن تجليات ذات ناقدة مختلفة، تمتلكُ حضورًا طاغيًا، وتكرّس معنى الأصالة في طرحها النّقديّ الجاد، ذلك أنّ أطروحاته استلهمت وتسلتهم، والحال هذه، مفاهيم مختلفة كالقراءة المنتجة، والقراءة النّسقيّة، والقراءة المختلفة، التي لهج عليمات بمحاولة توطينها في السّياق النّقديّ العربيّ، بصورة جعلت مشروعه تمثيلا للحظة فارقة في تاريخ النّظريّة النقديّة العربيّة المعاصرة.
وتنمازُ القراءة الثقافيّة التي أسّس لها عليمات في مشروعه الممتدّ بوعي يكاد يكون مفردًا بين المنشغلين بالنقد الثّقافيّ، وأمارات هذه الوعي تتجلى في تبنّيه مقولة كرنفالية الدّراسات الثّقافيّة (cultural studies carnival) التي تنهض على فكرة مركزيّة مؤداها وجوب الإفادة من المنجز النّقديّ الذي أنجزه النّقّاد المنتمون إلى المدرسيات النقديّة المختلفة، وعلماء الأنثروبولوجيا، والفلاسفة، فضلا عن الانفتاح المنهجيّ الضّابط على ممكنات النّقد الأدبيّ.
عليمات والنّصّ والأرشيفانيّة
لعلّ اللافت للنظر في سيرورة هذا المشروع العلميّ الناجز عند عُليمات أنّه قد بدى مسكونًا بهواجس التسآل والتجريب، أي إعادة إخصاب مناهج النظر في الأدب العربيّ بأطروحات جديدة ومختلفة، ويمكن رصد ملامح هذا العمل/التجديديّ في كتابه الأخير، “ثقافة النّسق: تجلّيات الأرشيف في الشّعر العربيّ القديم، دار الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 2021″، إذ يؤسّس عليمات في هذا الكتاب عبر خمسة فصول لمفهوم نقديّ جديد، يقترحه عليمات، ويؤسّس له، وهو مصطلح الأرشيفانيّة (Archivanism).
وإذا كان النّصّ يمثّل بنى جماليّة كما يتبدّى في منظور البنيويين، ومتشظية عند التفكيكيين، وإشاريّات دالّة في المدرسيّات السّيميائيّة، فإنّه من منظور عليمات بنية أرشيفيّة، أو أرشيف نسقيّ بعبارة عليمات، ذلك أنّه يمثل أرشيف الذات الشّاعرة، المصابة بحمّى الأرشفة كما يشير إلى ذلك جاك دريدا، فالنّصّ بوصفه أرشيفًا طقسٌ من طقوس البقاء والخلود، التي يدفع بها المبدع/الشّاعر عن نفسه وروحه غوائل الزمن، وقانون المحو والاندثار، وللأنساق كذلك وفقًا لهذا المنطلق أنظمته الخاصة “فالنسق، إذن، له ثقافته، وله أرشيفه الموارب أو ذاكرته المركزيّة في البنى النصيّة؛ إنّه نظام يملك استراتيجيّة/استراتيجيّات العبور نحو المضمر والمسكوت عنه في أنظمة الخطاب التاريخي، والأيديولوجي، والثّقافيّ، والجماليّ، والمعرفيّ، بغية الكشف وتأسيس المخاتل والمفارِق”(ص9).
وفي هذا السياق يجيء هذا الكتاب في تنوير عنوانه: أرشيف النّسق ونسق الأرشيف: مفارقات الأرشيف (ص ص 7 – 16)، وخمسة فصول: الفصل الأوّل: شعريّات التوتر: تمثّلات الزمن في قصيدة عبد يغوث الحارثي (ص ص 17 – 46)، والفصل الثاني: مفارقات الهامش: قراءة في نونية قريط بن أنيف (ص ص 47 – 76)، والفصل الثالث: بلاغة الحجاج في النّصّ الشّعريّ: دالية الراعي النّميريّ نموذجًا (ص ص 77 – 106)، والفصل الرابع: جدليّات النّصّ النّسويّ: دراسة نسقيّة في شعر علية بنت المهدي (ص ص107 – 140)، والفصل الخامس: تحوّلات التابع: قراءة في قصيدة المتنبي واحرّ قلباه (ص ص 141 – 176)، وخاتمة عنوانها: من النص إلى الأرشيف/انيّة (ص ص 177 – 180).
ولا ريب أنّ هذا الكتاب ينمازُ بفرادة منهجية تتأتى من محاولة عليمات استثمار عدد من المفاهيم النّقديّة، التي تطرحها الدّراسات الثقافيّة، والمدرسيّات النقدية الغربية، ومن ثم جعلها لحمة هذا الكتاب وسداه، ومن هذه المفاهيم التي تنتمي إلى مدرسيات نقدية مختلفة: الهامش، والمفارقة، والتابع، والزمن القلق أو الزمنية المتوترة، والحجاجية أو بلاغة الحجاج، والأنساق المخاتلة .
ويأتي اجتراح عليمات لمفهوم الأرشيفانيّة اجتراحًا مصطلحيًّا يتكشّف عن وعي نقديّ يحمله النّاقد بين جنبيه، ولمّا يزل يهجسُ به، يحاوره، ويطوّره، ويسائله، وهو وعي مرتبط بالطبع بضرورات تأسيس نظرية نقديّة عربيّة، يخرج بها النقد العربيّ من التيه الذي طغى كما عبّر عن ذلك عبدالعزيز حمّودة في كتابه المهمّ “الخروج من التيه: دراسة في سلطة النّصّ، 2004”.
وفي هذا السياق فلا مندوحة من القول: إنّ دراسات الأرشيف (Archive Studies) تمثّل حقلا معرفيًّا دشّنه الفيلسوف الفرنسيّ التفكيكيّ جاك دريدا في كتابه التأسيسي الموسوم بـ”حمّى الأرشيف الفرويديّ”، على اعتبار أنّ الأرشفة والأرشيف عمل يُشبه أن يكون إنسانيًا بوصفه مرتبطًا بالذات الإنسانيّة التي تلوذ بكتابة أرشيفها الخاص.
ولعلّ على المرء أنّ يقرر في البدء أنّ نظرية الأرشيف (Archive Theory) نظرية عابرة للتخصصات، أي أنّها تدخل وتتداخل في حقول معرفيّة كثيرة، فلقد تصارع النقاد والفلاسفة وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والجغرافيون وعلماء السياسة وغيرهم حول معنى كلمة “أرشيف”، وفي هذا السياق لا فكاك من استعداء قولة دريدا الرائجة “حسنًا، بخصوص الأرشيف، لم ينجح فرويد أبدًا في تشكيل أيّ شيء يستأهلُ أن يُسمّى مفهومًا”.
وعليه فإن الأرشيف وفقًا لرؤية علميات يمثل مرتكزًا رئيسًا من مرتكزات نظريّة النقد الثقافي التي تطرح أسئلة الأرشيف على الدوام، وتحاول أنْ تفحص أدب الهامش، ومكوناته الأرشيفيّة، وهو ما حاول عليمات أن يؤسس له في كتابه هذا على اعتبار أنّ الكون ينتظم في أرشيفين؛ أرشيف مركزيّ، بلاطيّ، سُلطويّ، وأرشيف هامشيّ، تصنعه الأصوات المقهورة، المنتمية إلى الأطراف، ولذا فإنّ العمل الأرشيفيّ كما يخلص إلى ذلك يوسف عليمات هو عمل “يضمر الأصوات الأقلوية ذلك أنّ أحد أهم مظاهر الصراع بين ثقافة الهيمنة والأقليات يكمنُ في محاولة استعادة وساطة الممارسات الثقافيّة التي تستمرّ في حركيّتها لتتموضع بوصفها معطىً مؤسساتيًا” (ص 13).
إنّ قراءة عليمات لتجلّيات الأرشيف في هذه القصائد التي انتخبها في كتابها هذا وما انتهت إليه هذا القراءات يرتبط بمعنى الانكشاف/التّعرف (Recongnition)، الذي طرحه أرسطو، بمعنى أنّ أطروحات عليمات تمثل لدى قارئها لحظة كشف وتنوير، وكسرٍ لآفاق التوقّع؛ ذلك أنّ هذه القراءات العميقة تهزّ معارف القارئ ومعتقداته هزًا شديدًا، بما تطرحه من حفر معرفيّ ينفتح على فضاءات المحتمل واللامتوقع.
ففي الفصل الأول: (شعريّات التوتر: تمثلات الزمن في قصيدة عبد يغوث الحارثيّ، ص ص 17 – 46) تمثل قصيدة عبد يغوث نصًّا أرشيفيًّا، أرشفَ من خلاله عبد يغوث لتجربته الذاتية القلقة التي عانت من إشكاليّات الوجود والمصير أثناء معاناتها من محنة الأسر.
وفي الفصل الثاني: (مفارقات الهامش: قراءة في نونية قريط بن أنيف، ص ص 47 – 76) تجيء نونية قريط بن أنيف لتكوّن أرشيفًا نابضًا بتوترات الهامشيّة والإقصاء، إذ تجلّي هذه القصيدة مفارقات الهامش/الشاعر في لحظة انفصاله المأساويّة عن القبيلة، في ظلال صدمته الفاجعة انهيار قانونها وتقاليدها الرصينة.
أما في الفصل الثالث: (بلاغة الحجاج في النص الشّعريّ: دالية الراعي النميري نموذجًا، ص ص 77 – 106)، فإن دالية الراعي النميريّ، تمثل نصًّا لأرشيف الحجاج، الذي يلوذ بها الراعي النميري في سبيل مواجهة سياسات الإلغاء والإقصاء، التي تمارسها عليه السّلطة المركزيّة، بحجج رصينة، وإشارات نسقيّة فاعلة.
وفي الفصل الرابع: (جدليّات النص النسويّ: دراسة نسقيّة في شعر عليّة بنت المهدي، ص ص 107 – 140)، كشفت قصائد عليّة بنت المهدي عن تجليات أرشيف الذات المتمردة، التي اتخذت من القصيدة أرشيفًا لممارسة عنف الأرشفة ضد السلطة المركزيّة/الذكوريّة، التي تعاملت مع الشاعرة من منظور السُّلطة الأبويّة .
وفي الفصل الخامس: (تحولات التابع: قراءة في قصيدة المتنبي واحرّ قلباه، ص ص 141 – 176)، تغدو ميمية المتنبي نصًّا يمثل مخاتلات الأرشيف وتحولات التابع/الشاعر، فالشّاعر وفقًا لهذا العمل الأرشيفي/القصيدة، يجلّي صورة الذات الممتلئة، التي تكسر قانون التبعية والاضطهاد، وتمارس على السُّلطة ضربًا من المخاتلة والمراوغة.
عليمات من الأرشيفانيّة إلى الأرشيفانية الجديدة
وبناءً على السّابق يمكنُ القول إنّ عليمات وهو يؤسّس في هذا الكتاب لمفهوم الأرشيفانيّة يستولد في ظنّي منهجًا جديًدا، يتكِئ هذا المنهج إلى المفاهيم الكبرى التي تنبني على أُسٍّ منها الدّراسات الأرشيفيّة، فضلا عن الدّراسات النّقديّة والنّقد الثّقافيّ، بيد أنّ عليمات ليس واقعًا في إسارها، إذ أنه يجعل من أطروحته المركزيّة في هذا الكتاب قريبة من فكرة الإبداع/الابتداع لا على مثال سابق، الأمر الذي يحفّز على إمكانية أنْ يوسم مشروعه في هذا الكتاب في ظلال جِدته ونزعته التّجديدية بالأرشيفانية الجديدة التي يؤسس لها عليمات، وهو يعي ما يفعل جيّدًا، ليفسح المراح أمام الناقد/النقد العربي في ظلال إفادته من هذا الكتاب من مناوشة “أرشيفات نسقيّة لا حصر لها في الشّعر والسّرد في أيّ زمن؛ ذلك أنّ السُّلطة والسُّلطة المضادّة حاضرتان، فعليًّا، في البنى النّصيّة، وفي عملية الرّد الكتابي؛ فثمة أرشيفات تراثيّة، وبلاغيّة، ونقديّة، وكولونياليّة، وقد تكون هذه الأرشيفات موسومة أيضا: أرشيف الصعلكة، وأرشيف الهجنة، وأرشيف الاستشراق، وأرشيف الطبقة..” (ص180).
إنّ عليمات يمثّل أحدَ الباحثين القلائل الذين أخلصوا لنظريّة من نظريّات النّقد الحديث، فما برحوا يُؤصّلون لها ويُساجلونها، ويدرسون النّصوص وفقًا لمنظوراتها، فالأرشيفانيّة أو الأرشيفانية الجديدة في ظلال النّقد الثّقافيّ والدّراسات الثّقافيّة تَمثّلُ لديه بوصفها منهجًا تفاعليّا مركّبا أداة مختلفة في مناوشة النّصوص، ومحاولة سَبْرها، والنّفاذ إلى بِناها العميقة، فقد برهن عليمات من خلال هذا الكتاب على بُطلان القول القارّ الذي مؤداه أنّ الأوّل ما ترك للآخر شيئًا، وأكدّ أن النّصّ حمّال أوجه، وأنّ كلّ قراءة جديدة للّنصّ هي قراءة مُمكنة في ظلال مفهوم خيبة التلقي، فالنّصّ بنيةً منفتحةً على عدد لامحدودٍ من محاولات التّلقّي والتّأويل.