ثلاث خطوات منفردة
"الثورة كلمة تحترق في أتون الشجاعة والكفاح عندما تصادفك هاته الكلمة يقشعر جسمك وتتذكر كل العظماء” (عبدالقادر الجزائري – أدهم خنجر – عبد الكريم الخطابي"…
وتجرفك ذاكرة الثورات من الثورة الإنجليزية عام 1689 إلى الثورة المصرية سنة 1919 مرورا بالثورة الفرنسية سنة 1789.
****
ولكن كم احتمال أن تواكب ثورة في حياتك رغم أن الشعوب براكين خامدة لا تعلم متى ترمي حممها.
رمى الشعب التونسي مقذوفاته 17 ديسمبر 2010/ 14 جانفي 2011 ووجدت نفسي وقد أصبحت شاهدة على العصر.
كنت في الثانوية العامة زمن الثورة مراهقة حالمة وقد ملأتني الفلسفة إلى حد النخاع خرجت في كل مظاهرة من الوقفة أمام قصر الحكومة إلى اعتصام الرحيل في باردو التحمت مع أبناء شعبي وملأني عشق الوطن.
****
عندما كان الرئيس السابق بن على في الحكم كان يتحكم في تونس اقتصاديا 3 عائلات “الطرابلسي”و “بن عياد” وبشكل ضئيل “بن يدر” وجميعها متصاهرة ولديها ميليشيات خاصة تتجسس على المواطنين وكانت تونس تستعد لاستقبال قاعدة الأفريكوم “القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا” ومقرها الجديد هو قاعدة سيدي حمد ببنزرت رغم نفي تونس وعدم نفي أو تأكيد الولايات المتحدة إلا أن هذه الخطوة لقيت رفضا قاطعا من المواطنين ولكن على المستوى المعيشي كانت المواد الأساسية تباع بسعر رخيص وكان الدينار التونسي مساو تقريبا لليورو.
في خضم تلك الأحداث عاد المطرودون إلى تونس وخرج المسجونون من معتقلاتهم وظهرت الحركة الإخوانية متمثلة في حركة النهضة الفارس المغوار الذي سيجعل تونس تزدهر أكثر وسيخلصنا من الفساد والمفسدين ولكن..
هل قدرنا نحن العرب أن تسرق منا ثورات أحلامنا؟
****
ومرت 10 سنوات تحت حكم الإخوان وسيلتهم في الحكم اللعب على الوازع الديني وغايتهم السيطرة على كل جوانب الدولة وجعلها تتلاشى والهدف هو البقاء حتى ولو حكموا أطلال وطن وتراجعت قدرة التونسي المعيشية ووصل الدينار إلى الحضيض ومن ثلاث عائلات تسلب قوت التونسيين إلى عدد لا يحصى من اللصوص.
ترى متى يحين للعرب الفصل بين الدين والسياسة؟
****
لم تعرف الشعوب الأوروبية الازدهار إلا حين فصلت السياسة عن الكنيسة في عصور النهضة بعد ما مارسته هاته الأخيرة على الشعوب من استبداد وجور على أرواحهم وأنفسهم وأموالهم.
إذ كانت الكنيسة تدّعي أن الله يحكم العالم من خلالها فأحلّت لنفسها السيطرة على الناس ونصبت نفسها فوق كل سلطة سياسية.
فلا وجود لنهضة حضارية للعالم العربي إلا إذ فصل الدين عن الدولة.
أليس حقا “الدين أفيون الشعوب” كما قال ماركس؟
****
لا يعني ذلك سيدي القارئ أنني ضد الدين بما هو صلة بين الإنسان والخالق ومحقق للطمأنينة النفسية ولكني ضد أن يتحول الدين إلى “تعاسة واقعية” فالحروب الدينية أو الحروب المقدسة التي عرفتها البشرية هي حروب مبررة من أساسها بسبب الاختلافات الدينية ووفقا لموسوعة الحروب من بين جميع الصراعات التاريخية المسجلة البالغ عددها 1763 صراعا كانت الاختلافات الدينية مسببة بشكل رئيسي في 123 صراعا.
وليس لبنان البلد ذو الحكم الطائفي ببعيد عنا وما شهده من حرب أهلية سياسية تحت غطاء ديني بغريب.
ألم يحن الوقت لثورة أخلاقية؟
****
ما يحتاجه العالم العربي أو بالأحرى العالم اليوم هو ثورة أخلاقية تقطع مع كل ما هو غير قيمي.
فالأزمات التي نشهدها الآن سواء في سوريا أو العراق أو فلسطين أو تونس أو ليبيا.. هو نتيجة تزاوج بين الأخونة السياسة وكل ما هو لا أخلاقي.
فالأخلاق بماهي دراسة معيارية للخير والشر تهتم بالقيم المثلى وتصل بالإنسان إلى الارتقاء عن السلوك الغريزي بمحض إرادته الحرة النابعة من ضميره ووعيه تتعارض تماما مع الأخونة السياسة للدين التي تجعل منه موضوعا ماديا بحتا قائما على منطق الكسب والخاسرة.
لذلك سيدي القارئ يجب ألاّ تكون سياسة في الدين ولا دين في السياسة.
مقاومة
قرأت على حائط جملة تشبثت بأطراف قلبي “أن تخلق يعني أن تقاوم” بحثت ولكني لم أعرف من قالها ربما شخص ما كتبها في لحظة نزال مع الحياة.
وتساءلت كم شخصا كتبت عليه المقاومة؟ كم شخصا انتصر وكم عدد الذين رفعوا الراية البيضاء معلنين الهزيمة؟
لو بحثنا في التاريخ مكمن أسرار الإنسان لوجدنا عدد لا يحصى من المقاومين منهم من ذكر وآخرون سقطوا تحت أطلال الزمن وحده الوقت من قابلهم وتعرف عليهم.
****
كثيرا ما أحسد الوقت وكثيرا ما أغضب منه لا بل يزعجني فمقاومتنا أمامه فاشلة مهما ركضنا خلفه أفلت منا كتسرب الرمال من بين الأصابع.
****
سأتحدث عن أولئك المقاومين الذين جرفتهم الذاكرة إلى قاع الزمن ولم تسمع بهم أو غالبا لم تلاحظهم هم بالآلاف لا بل بالملايين يمرون بجانبك كل يوم أو ربما كنت أنت يا قارئي منهم.
****
لن أحدثك عن “يوسف وهبي” أو “أوسكار هوكر” بل عن فنان مشرد يبحث عن مسرح يحمله مآسيه وآماله يحلم بدقات الحياة الثلاث وخبت ناره قبل أن يسمعها.
لن أخبرك عن الليبي “عمر المختار” أو التونسي “الدغباجي” بل عن أولئك الذين دفنوا تحت الألم دون أسماء أو شواهد قبور.
لن أذكر لك تاريخ الحروب بل سأذكّرك بأولئك اللاجئين الذين ما عرف لهم عنوان.
لن أسرد لك أسماء المجاعات بل سأسرد لك عن الذين يجوعون بالخفاء تحت ستار الفقر.
و لن أقص عليك خبر”تشي غيفارا” أو “غاندي” بل عن أولئك الذين قتلوا داخل زنازين معتمة والتهمة كلمة حرة.
أرأيت يا قارئي، حتى التاريخ يختار أبناءه المفضلين. أما أنا وأنت سننسى كليلة باردة في شتاء دافئ.
أحجية الإنسان
فكرت مطولا ماذا أكتب بحثت ولم أجد أفضل منا نحن كموضوع. الإنسان هذا الكائن العجيب الذي تعتمل في داخله كل أضداد الوجود. هل مازلنا نستحق كلمة إنسان؟
عندما درست “فوكو” منذ سنوات بنظرة الحالم شعرت بانزعاج طفلة سعيدة بنسيم الحياة.
كيف يعلن وفاة الإنسان!؟ تلك الذات السامية على التشيّؤ! ولكن بعد سنوات من الموضوعية الفكرية أصبح جزء كبير مني يعلن موت الإنسانية. فهل هناك ارتباط بين التطور المعرفي وفقد الإنسان لأحاسيسه؟
لو قارنا الفن والأدب بين الماضي والحاضر لاكتشفنا هوة عميقة بين المعرفة والشعور. فهل نجد اليوم من يكتب برقة “جاين أوستن” أو “جبران خليل جبران” أو من يغني مثل “أم كلثوم ” و”جاك بريل”.
كأن الكلمة والمحبة بدآ بالتلاشي أمام سطوة وسائل التواصل الحديثة. فكيف نحب من خلف شاشة؟ ونعشق بضربة زر!
حتى الذكريات فقدت قيمتها في الماضي يحفر الإنسان أفراحه وأتراحه في طيات عقله ويفتح بابه كلما اشتاق لذكرى أو شخص.
اليوم نلغي حلاوة اختزال الذاكرة البصرية ونعوضها بأخذ صورة حتى عذوبة التأمل فقدناها.
من منا مازال يتذكر أن ينظر إلى جمال السماء ويتأمل إشعاع نجومها؟
عندما تشاهد فيلم الأزمنة الحديثة الصادر في منتصف الثلاثينات للعملاق “تشارلي تشابلن” تدرك أننا لسنا سوى استنساخ لشخصيته في الفيلم، نقبع تحت مجرفة التكرار ووطأة المكننة التي أراها انعكاسا لوسائل التواصل الاجتماعي اليوم.
فهل ظل للإنسان شيء لم يفقده؟
إذ كان للإنسان جزء لم يفقده فهو جانبه الدموي الذي ازداد ضراوة فكلما تطور الإنسان زادة رغبته أكثر فأكثر في السيطرة وتعطش للمزيد من الهيمنة وبدأت طبول الحرب بالعزف داخل روحه.
فمن الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية هل الإنسانية في هدنة من أجل سلام مع النفس أولا؟
إن كان الإنسان مازال إلى اليوم يرفض الاختلاف بينه وبين الآخر في اللون أو العرق أو الدين فكيف يمكننا أن نتحدث عن هدنة إنسانية فكل الحروب نشأت بسبب رفض الاهتراف بالاختلاف، وشيوع التعصب، من حرب 1814 إلى حرب 2021.
حتى أكون متشائلة، على طريقة إميل حبيبي، فالإنسان بما هو هذه الذات الخلاقة المتعالية فهو قادر على اجترار بقايا إنسانيته حتى ولو بدأت تتلاشى فلطالما كان في جعبته المزيد.