نزال غير مثير
في أوقات كثيرة، وفي لحظات دقيقة، بعمر زمن كامل، لا تبدو الحياة أكثر من نزال غير مثير مع شبح، لا نراه حقاً، ولكننا نشم رائحة أفعاله الكبريتية التي تدمع العيون وتزكم الأنوف. نزال غير متكافئ مع وهْم خالد أو يراد له الخلود، لأسباب يعجز الغالبية عن فهمها، ولكنه مصرّ على تجديد ودفع مبررات لنفسه ودون توقف، من أجل إحالة حياة كل فرد إلى معركة متجددة، دون السماح للغالبية بالتوقف والتساؤل، مع صموئيل بكيت، “لماذا أفعل أيّ شيء؟”، بل إن الغالبية تتهرب من مواجهة هذا السؤال الملح واستبداله، تحت دعوى حب الحياة والتفاؤل بالمستقبل، التي يحرض عليها نهم الاتفاق البورجوازي (يجب أن أفعل كل شيء لأن الحياة معركة)… معركة مع من ولماذا؟ لماذا على الحياة أن تكون معركة ولصالح من في النهاية، النهاية البعيدة والقصوى، نهاية ما بعد الموت؟ أمن أجل نشوة آلهة المعابد التي لا تتدخل لإزاحة حجر عن طريق فرد لتحميه من التعثر؟ أمن أجل آلهة معابد مكتفية بذاتها وبكمالها، ولا يضيف أو ينقص كفاح الإنسان من كمالها ونشوتها بذاتها؟ ما هذا العبث؟ هل أنا وأنت لعبة بيد آلهة متبطلة، أحدثت كل هذا العبث الطفولي من أجل أن تمنّ علينا بنعيم رضاها في النهاية أو تحرقنا في جحيم ملتهب، في حالة غضبها؟
الإنسان أكبر بذاته وعقله من أن يصدق هذا!
آلهة المعابد تريد مني أن أكدح وهي المتفضلة، وأنا أرى أن لا جدوى من أن أكدح بلا طائل، في حياة تنتهي بموت مهين، أتحول فيه، كأي كلب أو بقرة نافقين، إلى مجرد جيفة.
أنا ذات لها كيان، يعاملني الآخرون على أساسه ومن خلاله، إذن يجب أن أكتفي من خلال هذه الذات وعبرها ومن داخلها؛ والأهم أن أجد المعنى والهدف، معنى وجودي وهدفه، فيها، في داخل كيانها كذات لكياني المستقل والمكتفي بذاته.
تصر الأديان على أن ثمة مغزى وهدفا لخلق الإنسان، وإحساس الإنسان يقول شيئاً آخر، وخاصة في ساعات ضجره ويأسه، بل وفي ساعات ما بعد فراغه من ممارسة “دسامة” الحياة، طعام جيد وممارسة الجنس، إذ يجد نفسه، بعد بلوغه قمة الجبل وجلوسه على أعلى صخوره، فارغا ويواجه هوة الفراغ التي تفصله عن حالة السلام والحرية اللتين يتوق إلى أن يكون فيهما، ولم توفّرهما له دسامة المعيش اليومي فيهمس لنفسه أو يصرخ فيها: أهذا الذي وجدت من أجله، أن أصل قمة الجبل، كي لا أجد غير كومة من الحجارة لأرميها إلى الأسفل الذي صعدت منه؟ ماذا سأصطاد بحجارة متدحرجة إلى أسفل، لم أطق وجودي فيه، ولا تسكنه غير قطعان من المخلوقات التي تود بلوغ قمة الحجارة هذه؟ في تلك اللحظة سأحس، كريلكه، عندما قال “من سيسمعني إذا صرخت بين مجموعة من الملائكة؟”، مع فارق أني سأصرخ بين قطعان تدس رؤوسها في المعالف، ولا تريد سماع شيء غير كلمات المديح، في أنها تأكل جيداً، وهذا أقصى ما متوفر لها وأقصى ما يجب أن تفعله؛ ولو كان هذا يحدث في عالم مسالم وطيب السريرة، ويعامل مخلوقاته برأفة، لكان ممكن التعايش مع الأمر ربما، إلا أن العالم من حولنا “ليس غير عديم المبالاة بمتطلباتنا، وهو أيضا شديد الخبث”، كما يختصر الأمر صموئيل بكيت، فهماً وتفكيراً في جميع كتبه.
لماذا توقع علينا الحياة كل هذا السوء عبر دورتها؟ من السيء في طرفي المعادلة: دورة الحياة أم الإنسان؟ مفكر مثل صموئيل بكيت سيجيب دون تردد: دورة الحياة، لأن الإنسان أعجز من أن يخلق ما يفعله بنفسه فيها؛ وهي – الحياة – تقود حربا قهرية ضده لأسباب غير مبررة وغير مفهومة. وبقوله، بكيت، “أنت على الأرض، لا علاج لذلك” يكون قد أطر المشكلة بأدق صور التعبير التي تتيحها اللغة: إمكانياتنا المتاحة أعجز من أن تجد ولو جزءا من الحل لمشكلة وجودنا غير الهادف أو غير المبرر.
الحياة قاسية جداً، والغريب أن أغلب محاولات إيجاد النظام، التي قدمها الفلاسفة المفكرون، قد زادت من قسوة الحياة بتنظيماتها هذه، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فمحاولة تنظيم أمر مادي في شؤون الحياة، أنتج، عرضياً، نوعاً من الضرر النفسي أو الروحي أو العاطفي على الإنسان، وكان أكبر أنواع الضرر الذي خلقه هو ذاك الذي فصل الإنسان عن فطرته أو نبذها، وصادر حريته النابعة من تلك الفطرة أو اللاحقة لها.
وبرأيي فإن مقولة صموئيل بكيت “لم يعد ثمة ما يمكن فعله” تعني في ما تعنيه، أن النظام قد صادر حرية الإنسان، التي هي مصدر إرادة الفعل فيه؛ وإنّ إمعان النظام في قولبة حياة الإنسان وإرادته، أحاله إلى جزء من كل للحركة الميكانيكية للنظام، أو سلّمه لنوع من الانصياع اللاإرادي، الذي لم يعد له معه ما يمكنه فعله برغبته الخاصة (إرادته الذاتية الصرف).
وتتمثل المشكلة في أنصع صورها، وخاصة في مرحلة الربع الأخير من القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة، مرحلة التقدم التكنولوجي المهولة، في أن كل هذا التقدم العلمي لم يساهم إلا في تعقيد الأمور على الإنسان في حريته، في كونه لم يساهم في عملية انعتاق الإنسان من محدوديته، بل زاده عبودية لأنظمة هذا التقدم وحوله إلى مجرد مقلد لدور الخلد الذي يجب أن يحافظ على عماه لتحافظ عجلة التقدم اللاهادفة على دورانها، خدمة لمصالح، الطبقات البورجوازية، بكافة صور تمثلاتها ومراكزها، سياسية واقتصادية ومعبدية، والتي لا تستيقظ عناصرها إلا على أسرّة الموت، في المستشفيات الخاصة والمتقدمة في خدماتها لتقول: أوه، اللعنة! ها أنا أموت بنفس الطريقة الغبية التي مات بها غيري ممن حرمتهم حتى أن يموتوا على سرير نظيف، كهذا السرير الذي أموت عليه.. لقد أمضيت عمري في ملاحقة الجميع لأسرق منهم لحظة الصفاء وأن يكونوا أنفسهم وذواتهم المستقلة، وها أنا أحرم منها بنفس الطريقة، دون أن يلوث الآخرون أيديهم بجريمة حرماني منها.
إذن، المشكلة والعدوّ كانا في مكان ومنطقة آخرين، وليسا في المنطقة التي قاتلت فيها. لقد كانا في عجزي عن الإدراك، في عجزي ككيان ذاتي عن الرؤية، في تعقيد الأمر على نفسي إلى حد قلبي للطاولة على رأسي.. في عدم رؤيتي أن ثمة من سبقني لهذه الحياة وتربطني به صلات لم أفهمها، وأن هناك قوانين سبقت قوانيني، كان عليّ النظر فيها: قوانين الفطرة وجانب البلاهة الذي يتحكم فيها ويحكمها، كانقراض بعض فصائل الإنسان والحيوانات الأولى، لبلاهتها وسذاجة تكوينها (إنسان النياندرتال وحيوان الماموث والديناصور، التي لم تعرف حتى أن تخدم وجودها وتديم بقاءه وتطوره، فلذلك انقرضت لفرط غبائها وبلاهتها).. كما مازالت بعض فصائل الإنسان والحيوان التي يجب أن تنقرض لبلاهة تكوينها، كفصيلة الإنسان السياسي الذي تحكمه نزعة القوة وحبّ السيطرة، هذه الفصيلة التي تولد لتكون هكذا فقط، سياسيين حكاماً ومتحكمين، ولا تصلح لتكون شيئا آخر أو لتؤدي دوراً آخر، ومثله الإنسان العسكري الذي يولد ليكون قائداً يصنع ويقود الحروب التدميرية، وكذلك بعض أنواع الحشرات والحيوانات التي تولد لتسبب أو تنقل الأمراض القاتلة؛ وربما هذا ما يجعل من فكرة أفلاطون، في جمهوريته، (وربما هي الفكرة الأكثر صواباً من جميع ما طرح من أفكار تنظيمية)، وهي التي اقترح فيها تولي الفلاسفة للحكم ليمنعوا أصحاب نزعة السيطرة (سياسيين وعسكريين) من إلحاق المزيد من الإفساد في فطرة الكون..، وهي أيضا، الفكرة الأكثر صواباً من فكرة الرومانسيين، التي رأت في أن الإنسان لن يكون ذاته الحقيقية أو لن يرى حقيقتها والحقيقة الكلية، إلا إذا انتحر.
إن الأفكار المجردة وفلسفة التجريد، بلغتهما الباردة وغير المبالية، لم يقدما جهداً أكثر من تحويل الجوانب الذاتية والفطرية إلى أمراض ومضاضات، لأسباب سرعان ما أثبت الواقع عقمها وبلاهتها وبعدها عن واقع أن هذا وهكذا هو الوجود، وبكائنه المتميز، الإنسان، وإن ثمة الكثير من الفراغات العمياء التي تحكمه، وإن حياة كائنات هذا العالم يحكمها الحظ وحسن الطالع أو سوؤه وليس قوانين معقدة ورصينة لا يطالها الخطأ… وإنّ من الممكن، وهذا على سبيل التمثيل الساخر فقط، أنّ أجمل النساء وأكثرهن إثارة ممكن أن تقتل بنطحة من مجرد ثور هائج أو عضة كلب مريض، أو حادث دهس بسيارة قديمة ومتآكلة، لا يساوي ثمنها ثمن حقيبة اليد التي تحملها، بل وربما حتى الحذاء الذي تلبسه في قدميها، اللتين وقبل موتها بلحظات، كان أكبر وأعتى الرجال الذين يحكمون ويتحكمون بالعالم، يتمنى مجرد تقبيلهما ومص أصابعهما، تحت نوبة شهوة وسعار جنسي، لا يتوقع أغلب سكان الأرض أن تسيطر على ذلك الرمز الكبير والرجل العتيد! والسؤال عندها يتجسد في أكثر صوره مرارة ومباشرة: ماذا تبقى للحياة من معنى، وهذا أكثر أسئلة الفلسفة الوجودية إلحاحاً ومساساً بذاتية الإنسان وكينونته في جوهر فرديته وسلطته وهو السؤال الذي يجعلنا نتفهم ونستوعب سبب مقولة سارتر “الإنسان عاطفة غير ذات قيمة”.