شاعر خارج البيان الشعري
عن عمر يُناهز الثمانين عامًا، رحل عن عالمنا الشاعر العراقي البارز حسب الشيخ جعفر (1942 – 2022)، تاركًا خلفه أعمالاً شعريّة جعلته في مكانة متفردة بين أقرانه من الشّعراء العرب قاطبة، وليس فقط مجايليه، فهو صاحب تجربة شعريّة فريدة، تتميّزُ بالأصالة والتجديد في الوقت ذاته؛ أصالة بقاموسه اللُّغوي واستعاراته التي تنهل من التراثِ تارة، وصور الواقع القارّ الذي عاشه في غربته أو بعد عودته تارّة ثانية، وأيضًا باستخدامه بكثرة للمفردات المعجميّة في قصائده، وهو ما كان يدفعه لكتابة هوامش شارحة ومُفسِّرة للكثير من معاني الكلمات.
أما التجديد فبما ابتكره مِن أساليب جديدة في القصيدة على مستوى الشكل بخلق جماليات جديدة للقصيدة، تختلف عن تلك التي كانت سائدة، بل وتتميّز بخصوصيتها حتى ولو رفدت من آخرين. ويظهر ولعه بالتجريب – بصورة أوضح – في الأوزان والتفعيلات، وكتابة السونيت، وتطويره لقصيدة النثر مما جعل كتاباته الشعريّة قريبة من فنون السّرد، كالقصة القصيرة على سبيل المثال، وأيضًا باتجاهه إلى كتابة قصيدة التدوير التي هي كتابة بصريّة بامتياز، عبر الاهتمام بالتشكيل البنائي للكلمات، واستثمار عناصر السرد والدراما والبنائي الحكائي، وهو ما خلق – حسب علي حسن الفوّاز – إمكانية “انفتاح نصوصه على مجاورات كتابيّة أخرى.. يختلطُ فيها الأسطوري، والسّحري والتاريخيّ والطبيعيّ والحكائيّ والحلمي والإيهامي، والفيتشي الجنوني والمرأة التي يُعدّد إيقاع حضورها النفسيّ والحسيّ والأيقوني” (حسب الشيخ جعفر: الشاعر في متحفه الشخصي، جريدة القدس العربي، بتاريخ 20 فبراير 2022).
وتقديرًا لمكانة هذه القامة الشعرية وقيمتها خصصت مجلة “الجديد” في عددها الـ85 الصادر في شباط/ فبراير 2022 ملفًا بعنون “قارة سابعة” وهو مُستقى من قصيدته الشهيرة التي احتواها ديوان “الطائر الخشبي” (1972). اشتمل الملف على دراسات نقدية، وشهادات عن الشاعر من نقاد، وأصدقاء مقربين لازموا التجربة الشعرية، بالإضافة إلى قصائد جديدة لم تُنشر من قبل، ويُحْمَدُ للملف أنه جاء احتفاء بتجربة الشاعر الفريدة والاستثنائية في حياته على عكس ما يحدث في أوساطنا الثقافيّة، أن يتمّ الاحتفاء بالمبدع بعد رحيله وكأننا تذكرنا فجأة – مع موته – أنه كان بيننا.
جاءت المقاربات النقديّة في محوريْن الأوّل أشبه بشهادات عن الشّاعر وتجربته من خلال تقاطعات حياتيّة وشعريّة بين الشّاعر الكبير وأصدقائه، على نحو ما جاءت مقاربة الشّاعر على جعفر العلّاق التي وُسِمت بعنوان “كأنّه يمشي على هواء وثير”، وشهادة فاروق يوسف “القارة السّابعة حسب الشيخ جعفر”، في حين جاءت مقاربة الدكتور حاتم الصكر “القبض على الأزمنة في دائرة القصيدة”، أشبه بقراءة لتجربة الشاعر نقديًّا؛ بغية التوقف على بعض الخصائص والسِّمات التي تَتّسمُ بها قصيدته، وهو ما شاطره فيه الناقد حسن الخاقاني بما أظهره من تقنيات “الدراما وتعدُّد الأصوات” في قصيدته الشّعريّة.
أما القراءة الأخيرة فكانت مِن نصيب الناقدة العراقية نادية هناوي، التي حملت عنوان “تدوير الشعر عند حسب الشيخ جعفر من منطور نقدي جديد”، وهي أشبه بنقد النقد، إذْ أوقفت دراستها على قراءة لما كتبه الدكتور خالد على مصطفى عن تجربة حسب الشيخ جعفر في كتابه “شعراء خارج البيان الشعري” الذي صدر بعد رحيله عام 2020، في محاولة لإعادة قراءة التّجربة من خلال منظور نقدي جديد، بعيدًا عن الكلاسيكيّة التي اتّسم بها طرح الدكتور خالد.
محاولة “الجديد” هي واحدة من المحاولات القليلة التي تَتَبّعَتْ تجربة الشاعر على الرغم من ثراء هذه التجربة، وتعدُّدها على مستوى الشّعر أو النّثر؛ فالمعروف أن إتقانه لكتابة قصيدة النثر، قاده إلى كتابة أشكال سردية مختلفة، فأصدر في هذا الشأن “الريح تمحو والرمال تتذكر” (1996)، و”ربما هي رقصة لا غير” (2013)، و”نينا بتروفنا – مَن أيقظ الحسناء النائمة” (2014، دار المدى)، ومذكرات عن مرحلة الدراسة في موسكو صدرت بعنوان “رماد الدرويش” (1986).
وقد أهدى المكتبة الشعرية العديد من الأعمال مثل “نخلة الله” 1969، «الطائر الخشبي» 1972، «زيارة السيّدة السومريّة» 1974، «عبر الحائط في المرآة» 1977، «وجيء بالنبيين والشهداء»، «في مثل حنو الزوبعة» 1988، و«أعمدة سمرقند» 1989، و«كران البور»، و«الفراشة والعكاز»، و«تواطؤًا مع الزرقة» و«رباعيات العُزلة الطيبة»، بالإضافة إلى ترجماته عن الروسيّة.
أسئلة النقد
أتخذ من هذه المقاربات الأربع النقديّة على اختلاف توجهها النقديّ، ومنطلقاتها، نموذجًا لاستقراء الدرس النقدي، ومعرفة اتجاهاته وهو يسعى إلى تقييم تجربة شعرية جماليًّا وفنيًّا، عبر نموذج حسب الشيخ جعفر، ومحاولة النقاد تحليل هذه التجربة، واستكشاف الظواهر الفنيّة وصوغها نقديًّا وفق مكونات النقاد (الكلاسيكيّة: خالد مصطفى علي، حداثية: نادية هناوي، حاتم الصكر، حسن الخاقاني)، ووفق رؤية الشاعر – الناقد كما في قراءة (على جعفر العلاق، وفاروق يوسف)، وقد سعيا في مقاربتيهما إلى ربط الجمالي بالمعيشي.
تستدعي تجربة حسب الشيخ جعفر الشعرية وعلاقتها بالنقد، مراجعة لوظيفة النقد، الذي يغفل أسماء مهمّة، أو يكتفي بترديد مقولات سابقة دون اختبار حقيقي لصدق هذه المقولات على التجربة الشّعريّة، وهو الأمر الذي يتّفق فيه جعفر العلّاق مع نادية هناوي، ويشيران إلى أن تجربة الشّاعر لم تأخذ حقها في النقد، وإن كان العلّاق يستثني المرحلة الأولى، التي – حسب قوله – حظيت بعناية نقديّة مقبولة، وهو ما لم يحدث لاحقًا، ويجتهد العلّاق في تفسير هذا، واضعًا ثلاثة تخمينات: الأول والثاني يتصلان بطبيعة النقد وتوجهات البوصلة التي قد تركز على نمط شعري دون آخر، وهو ما يشير إلى دور السياق الثقافي وانحيازاته.
أما الثالث فيعود إلى مؤشرات أيديولوجيّة تدفع بعض النقاد إلى تشمّم قصائد حسب الشيخ جعفر الأولى، لا بحثًا عن جمالياتها العاليّة، بل عمّا يُوقظ فيهم شهواتهم العقائديّة المخبوءة! في إشارة إلى التوجهات السياسيّة أو الحزبيّة التي تدفع بالانحياز إلى شاعر دون آخر.
أما الدكتورة نادية هناوي فطرحت في مقدمة دراستها أسئلة مشروعة تنطبق على تجربة حسب الشيخ جعفر(وعلى آخرين)، أهملهم النقد أو غضّ الطرف عن ابتكاراتهم واكتفى بالتركيز على جزئيات لا تمثّل أهمية كبيرة ضمن تجربة الشّاعر الكليّة، لذا نراها تتساءل في مرارة مشوبة بحزن دفين: هل أدى النقد الأدبي وظيفته في قراءة تجربة الشّاعر متجردة وموضوعيّة؟ بالطبع الجواب لا، والسّبب يتجسّد – في رأيها – في أسباب عديدة منها “في برم نقادنا بعضهم من الآخر أو تنافسهم فيما بينهم أو قد يكون السبب محصورًا في هذا التراجع الواضح في مستويات البحث الأكاديمي الذي جعل التكرار أمرًا يقابله الاستسهال واللامبالاة، أو ربما السّبب كامن في أنّ مهمّة الناقد الجديد تغيّرت إذْ لم تَعُد الغاية تتجلّى في نقد بِنائي يهتمُّ بدواخل النُّصوص وتفسيرها، بل صارت الغاية الجري وراء النقد الانطباعي الذي هو نقد ترضيات وإخوانيات وتحبيب وترغيب وتطبيل وتهويل وتقريب وتهوين من دون تمييز لمبدع عن غيره، إما طمعًا في الكسب أو من أجل بلوغ موقع أو الظفر بشهرة تؤهل صاحبها أن ينال ما ليس له”. ويمكن أن أضيف انصراف النقد الأكاديمي إلى الأبحاث الخاصة بالترقيات، فانعزل النقاد في بروجهم العاجية، دون أن يقدموا الدور المطلوب منهم كمثقفين.
في الحقيقة المقاربات الأربع التي تناولت تجربة الشّاعر، هي الأخرى كانت جزئية، اقتصرت في أغلبها على قصيدة واحدة هي “قارة سابعة”، أو تناولت ظاهرة واحدة تمثّلها شعره، وهي التدوير أو استخلاص سمات محدّدة كنزوع قصيدته نحو الدرامية وتعدّد الأصوات، دون الوقوف على التجربة في كليتها، واستجلاء التحولات الفنية والشكليّة التي مرّت بها القصيدة الحسبيّة، وكذلك المؤثرات التي أسهمت في تشكيلها وصبغها، على مستوى علاقة الشاعر بما هو ثقافي وسياسي وأيديولوجي، أو على مستوى ما هو ذاتي حيث ميل الشاعر إلى العزلة والانطواء وتأثير هذا على تجربته وسبغها بأجواء نفسيّة وذاتيّة خاصّة. كل هذا مُفْتقَد في المقاربات، كما سعت المقاربات – دون قصد- إلى التشكيك في ريادته للقصيدة المدوّرة، بالبحث عن أصولها عربيًّا وغربيًّا.
ثمّة معنى مُستقى من افتقار التجربة الثريّة لنقد يكافئها ثراءً واستكشافًا لجماليات القصيدة، ودلالتها، يتمثّل في أن النقد – في وضعه الرّاهن – لا يهتمُّ إلّا بالجزئيات، والظواهر اللافتة ولا يبحث عن استخراج صورة كليّة أو رؤية العالم في شعره، لما يريده الشّاعر أو ما تبتغيه القصيدة على المستوى الجمالي والفني أيضًا. كما أن التعامل مع تجربة الشّاعر لم يتأتَ وفقًا للمناهج النّقدية الحديثة – على الرغم من استلماح أصداء طفيفة أو استدعاء مصطلحات نقديّة على استحياء – في البحث عن المكوّنات الصُّغرى والكبرى للقصيدة، وصولاً إلى الدلالات والمعاني الظاهرة والمضمرة التي لا يُعلن عنها النّص مباشرة، وإنما يكشف عنها التأويل الذي لم يُمارَس على التجربة في جزئيتها أو كليتها.
هكذا وضعت تجربة الشّاعر النقد في اختبار حقيقي وطرحت تساؤلات مُحقّة في الكثير منها، عن أسباب اهتمام النقد ببعض الشعراء، وإغفال أصحاب التجارب الحقيقيّة والمميّزة على حساب الأقل مكانة وقيمة، والأهم من هذا وذاك، هو كيفية القراءة، ومنهجياتها وهو ما سوف أتوقف عنده في السّطور التالية.
الشعر والشاعر
يُقدِّم الشّاعر العراقيّ على جعفر العلّاق – عبر علاقته الوثيقة شعريًّا وحياتيًّا – شهادته عن الشّاعر حسب الشيخ جعفر، وتتراوح الشّهادة بين الشّخصي والفني، إذْ لا يتوانى عن الكشف عن الخصائص المميزة لشعره، باحثًا عن مظانها الأساسيّة وروافدها، فيبدأ مقاربته/شهادته باعترافه أنه التقى حسب الشيخ جعفر على صفحات مجلة الآداب دون جزم بتأريخ هذا اللقاء هل في بداية الستينات أم في منتصفها؟
فيصف تجربة حسب الشيخ جعفر، مع انتمائها الجيلي إلى جيل الستينات إلا أنها بعيدة وقريبة في الآن ذاته عنهم، أمّا عن سماته الشخصيّة فيصفه بأنّه في حالة عجلة مِن أمره وكأنّه “يهرب من خطر داهم، فضولي يفرض نفسه على جلسته” كما أنه “ممتلئ بذاته المرفوضة، والمنقطع إلى تجربته انقطاعًا لا نظير له”.
يُقدّم العلّاق صورة مقرَّبة عن الشّاعر المعزول عن النّاس بحكم علاقته به عبر لقاءات تمت في منتديات أدبيّة وشعريّة، ومن هذه اللّقاءات يستخلص بعض السّمات التي تسم شخصيته، منها أنّه مُتماهٍ مَع ذاته إلى حدّ الالتصاق والذوبان، فـ”لا يكون في منتهى نصاعته إلّا حين يكون وجهًا لوجه مَع ذاته، فالذّات هي نديمه الدّائم في أيّ وَضع، كان وَحيدًا أم في جلسة حاشدة، حيث الذّات مُلبَّدة بالألم والذكرى”، وعندما يكون خارج الشعر فلا يكون هذا الكائن الشعري – حسب وصف العلاق – “على رَسْلِه، فلا تراه إلّا مُسرعًا في مشيته شَارِدًا مُنحني الرأْس تقريبًا، خَفيف الخُطوات وكأنّه يمشي على هواءٍ وثيرٍ”.
لذا ابتعد برحابة صدر عن الزخم الحياتي وآثر الوحدة كي يُصْقِلَ قصيدته وتجربته معًا، وكما يقول العلّاق إنّه “انصرف إلى تجربته الشّعريّة بقسوةٍ وحرصٍ كبيريْن” لا لشي إلا كي “يُربّي قصيدته، ويُنمّي نسيجها، ويَرقْب مَساراتهـا بِحَذرٍ فـذٍّ. هذا مِن جهة، ومن جهة أُخرى كان يلتـمّ على ذاته، التمام المقرور أمام ناره الصغيرة وهي تهمس في موقده الوحيـد. كان يسعى، على الدوام، إلى مبتغاه الحميم، أعني إلى داخله الخاص جدًّا”.
ويشير العلّاق إلى خصوصية علاقته بالتراث، فالتفاته إلى التراث كان بطريقة شديدة الخفاء في الغالب، كما يشيد بدور الذّاكرة الّتي مَتحَ منها؛ فهي تُمثّل مُعظم البطانة الوجدانيّة والمعرفيّة أو السّرديّة للكثير من قصائد الشّاعر، وكذلك يبدو في بعض شعره وكأنه المعادل الضدّي للواقع المعيش الذي يمتدُّ خَارج نُصوصه، فبعد عودته من موسكو إلى بغداد، كان يترك في الكثير من قصائده أبواب ذاكرته مُشرّعة على الجهات كلها؛ الأمكنة والأزمنة، والأساطير والتقاليد الشعبيّة”. وينتهي العلاق في نهاية شهادته/مقالته إلى تقييم تجربة الشاعر الكليّة، التي تضعنا أمام شاعر من طراز فريد خاص، ترك أثرًا عميقًا في المشهد الشعري العراقي والعربي.
يميل فاروق يوسف في شهادته “القارة السابعة حسب الشيخ جعفر” إلى تحليل التناصات في تجربة الشّاعر، دون أن يشير صراحة إلى ذلك، فهو يتحدّث عن تأثّر حسب الشيخ جعفر بالآخرين، في تأكيد لما ذكره هارولد بلوم (1930 – 2019) في “قلق التأثير” (1973) عن “عدم استقرار النصوص الأدبيّة، وأنها متولِّدة من نصوص سابقة”، وهو ما عبرت عنه الناقدة الفرنسيّة البلغارية جوليا كريستفيا (1941 -…) بمصطلح أكثر تحديدًا وجرأة “التناص”.
فيشير فاروق يوسف إلى تأثّر حسب الشيخ جعفر بالسياب (1926 – 1964)، الذي ظهر تأثيره لا في حسب الشيخ جعفر فقط، وإنما في جيل من الشعراء الستينيين باعتباره “الممثّل الحداثوي الأعلى في تلك المرحلة لكثير من الشّعراء الشّباب لا مِن جهة تحرّره من المعايير الشّعرية التقليديّة فحسب، بل وأيضا من جهة انفتاحه على التّجارب الشّعرية العالميّة”.
ومن ثمّ يُقدِّم فاروق يوسف الكثير من الشّواهد منذ ديوان حسب الشيخ جعفر الأوّل “نخلة الله” (1969) على التأثر بالسياب، خاصّة في المفردات، وإن كان يؤكّد على أن هذا التأثير السيابي في تجربته الشّعرية، لم يمنع مِن أن يكون “صوت حسب الشعري أقوى من أن يكون مجرد صدى لصوت السياب”. مرحلة التأثّر التي كانت باديَّةً في الديوان الأوّل “نخلة الله”، أخذت في الأفول مع الديوان الثاني “الطائر الخشبي” الذي ظهر فيه حسب الشيخ جعفر مُختلفًا في “عمارة الصور والأفكار والأشياء والأفكار بكل تقنياتها كانت مستقلة تمامًا”، فظهر – حسب قول فاروق يوسف – وكأنّه شاعر آخر “تجتمع فيه كلُّ المتناقضات؛ فهو هادئ وعنيف، حميمي ونافر، غنائي وصارم، واضح وغامض”، الاستثناء الوحيد هو استمرار عنصر السّرد الذي جَمعه بالسياب. وإن كان نجا حسب الشيخ من فخ السياب، وكانتْ له طريقته في السّرد المختلِفة، من جهة استجابته لتأثير رواية اللاوعي أو الحوار الداخلي كما جاء عند وليم فوكنر (1897 – 1962) في روايته “الصخب والعنف” (1929)، والإنكليزية فرجينا وولف (1882 – 1941) في معظم أعمالها.
ويجزم فاروق يوسف في موضع آخر على تأثُّر الشيخ جعفر في قارته السّابعة بمارسيل بروست (1871 – 1922) في بحثه عن الزمن الضائع (نُشر الجزء الأول عام 1913، واستغرق كتابة الثلاثية 14 عامًا)، حيث ثمّة إشارات داخل القصيدة – كما يقول – “تحيلنا إلى جُمل أساسيّة وردت في سباعية بروست”.
على الرغم من أن فاروق يوسف يتفق مع حاتم الصكر ونادية هناوي والعلّاق في اعتبار أن حسب الشيخ جعفر لم يكن سبّاقًا في التدوير الذي ظهر بصورة واضحة في قصيدته “القارة السّابعة”، وأن هناك من سبقه، ويشير فاروق يوسف – في ذلك – إلى خليل خوري، إلّا أنّه في نفس الوقت، يمنح نص الشيخ جعفر المدوّر خصوصيّة تفرقه عن سابقيه “بمحافظته على شكل القصيدة الحديثة من جهة، ومن جهة أخرى فقد ساهم الشكل النثري في تشجيع الشّاعر على الاستجابة لرغبته في أن يروي”، ولهذا لا يتردد يوسف في وصف القصيدة “القارة السّابعة” بأنها “أشبه باليوميات التي تطمح إلى أن تكون رواية”.
القصيدة المدوّرة
في دراسة حاتم الصكر التي جاءت بعنوان “القبض على الأزمنة في دائرة القصيدة” ثمة التفات إلى تقنيات القصيدة عنده، بنسبها إلى تجربة الشّعر الحرّ، وهو ما يتأكّد من “تعالق أبرز المؤثرات في نصّه: ذاكرة ومخيّلة تعملان بتدافع وتقابل وتوال أحيانا”. ويتخذ الصكر من جملة قالها حسب الشيخ جعفر في إحدى الحوارات عن تعدّد الأزمنة والارتحالات على مستوى الحقيقة، كدليل على تعدُّدها على مستوى القصيدة، ولا يتوانَى من الكشف عن سمات التجربة الشعريّة التي أهمها هي تمازج الثقافات دون عقدة أو شعور بالنقص أو الخوف من المثاقفة مع الآخر، والسّفر الحرّ عبر الأزمنة والأمكنة امتدادًا من اعتقاده بالمواطنة الإنسانيّة والعيش في أزمنة مُتعدِّدة يسترجعها إنسانيًّا بإحساس حضاري يتخطّى حواجز الانتماءات الهوياتيّة الضّيقة، وهو ما أتاح له السّفر الحرّ عبر الأزمنة والأمكنة لاستكمال تجربته، فاقترض الرموز والأساطير محليا وعربيًّا وعالميًّا، ومن حضارات مختلفة، ثمّ العودة مِن هذه الأسفار إلى بؤر مكانيّة وزمانيّة لها في ذاكرته أثرها الرّاسخ في طفولته وصباه في قُرى على حافة الأهوار .
وعن تقنية التدوير التي هي ظاهرة لافتة في شعره، يرى الصكر أنها لا تتوقف عند المبرّر الفلسفي والفني والموضوعي للتدوير، بل “تكتفي بالاهتمام بالشكل السّطري، والإيقاع المتواصل في نظام التفعيلة، والمقطعية التي تتسم بها الكتابة بالتدوير.”
يؤكد الصكر على أن ثمة محاولات عديدة سبقت حسب الشيخ جعفر في التدوير، ومنها محاولة خليل الخوري (1836 – 1907) في نص “الشمس والنمل” عام 1958، وبالمثل هناك محاولة ليوسف الخال (1917 – 1987) في نص “الحور الأزلي” عام 1961، الفارق بين حسب الشّيخ جعفر ومن سبقوه أنّه ينطلق من قناعات فكريّة، تُجسّد فنيًّا وبتواتر واستمرار على الكتابة، في حين المحاولات السّابقة توقّف كُتّابُهَا عن تِكرار الكتابة. كما أنّ التدوير الشّعري عند حسب الشيخ جعفر قائم كلعبة فنيّة، على نحو ما أسماه هو بنفسه، وهذا اللّعب كما يخال الصكر وفقًا لتقييمه لتجربة حسب الشيخ جعفر “يفتح أمام الشاعر طُرقًا مُبتكّرة أغنت القصيدة الجديدة من جهة، وميّزت الشّاعر بخطابٍ فلسفي يبحثُ فيه جوهر التدوير من جوانبه الرؤيويّة”، ويستنتج الصّكر أن هذا كان دافعًا وراء عودته للغنائيات وإيقاعاتها في مرحلة تالية للقصيدة المدوّرة.
دون أحكام قيمة، وإنما بوعي نقدي يقول الصكر إن قصيدة “القارة السّابعة” تكتنفها عثرات المحاولات الأولى رغم إيقاعها الملحمي الذي يشي به طول القصيدة بمقطعيها. لا يكتفي بحكمه على جودة الصياغة من خلال قصيدة واحدة، وإنما يقوم بتجريب أكثر من قصيدة ليتعرف على آليات التدوير وهل وُفِّق الشّاعر فيه أم لا؟ على نحو اختياره قصيدتيْن من ديوان “الطائر الخشبي”، وهما الرباعيّة الأولى والرباعيّة الثانية، المكتوبتان عام 1970، بعد عام من قصيدة “القارة السابعة” فيقول إن الرباعيّة الأولى تتميّز بتدوير كامل على مستوى القصيدة، أما الرباعية الثانية فتتجسّد فيها رؤية حسب الشيخ جعفر للحضور الزماني والمكاني بلا حواجز أو فواصل.
ثمّ يستفيض الدكتور الصكر في ذكر الدوافع والمؤثّرات الفَاعِلة في تجربة كتابة المدوَّرات عند حسب الشيخ جعفر كالحنين واللّهفة المفرطة في الجمع بين الأمكنة التي عاشها عابرًا، وتلك التي أقام فيها حاضرًا. وأيضًا كرغبة في البحث عن موشور زمني ومكاني تنطلق منه القصيدة، وتدور في الزمان والمكان، وكذلك بحثًا عن شكل ما يكون حلاً لأزمة القصيدة الحرّة بعد أن تجاوز الستينيون كتابتها، واستداروا لأشكال أكثر حداثة، كما كانت حلاً للاتجاه إلى السّرد داخل القصيدة وتخفيف غنائيتها، وهو ما وفّره التدوير، وكذلك كان استجابة للمؤثّر الفلسفي التأمليّ الذي يميل له هو بطبعه، وهو ما يعترف به شخصيًّا بقوله إن دافعه للتدوير كان بسبب قراءاته لأعمال بروست وسارتر(1905 – 1980) ومسرحية “ما بعد السُّقوط” لأرثر ميلر (1915- 2005. كما لا يغفل تأثير الموسيقى والثقافة التي اكتسبها أثناء وجوده في موسكو، إضافة إلى تأثير شعر البند بهيئته السَّطرية وترابط تفعيلاته واستمرارية إيقاعه من المؤثرات في تجربة القصيدة المدوّرة وإن كان شكليًّا.
وعن تلقي هذه التجربة يقول إنّ قراءات المدوّرات جاءت بعيدة عن مقاربة المشتغلات الفلسفيّة للتجربة، وعلى مستوى النقد تمّ استقبالها بحذرٍ ودون استيعاب، فمن خلال المقاربات التي اضطلع عليها يكتشف أنّ القراءات اتّجهت إلى التمدّد السّطري في مدوّرات حسب الله جعفر، واستمراريّة الجملة الشِّعرية لكن دون تأويل مغزى الدوران الفنيّ والفكريّ، وما يتطلب جماليّا في القراءة، ويبرهن على هذا برفض نازك الملائكة (1923 – 2007) للتجربة في كتابيها “قضايا الشعر المعاصر” (1962)، وكتاب “سيكولوجية القافية ومقالات أخرى، والصّواب “سايكولوجيّة الشّعر ومقالات أخرى” (حسب طبعة كتابات نقدية الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية عدد 98، يناير 2000)، فيبدو أنه اختلط عليه الأمر، بينه وبين عنوان الفصل الثالث من القسم الأول “سايكولوجية القافية”. باعتبار الهيئة الخطيّة للقصيدة المدوّرة شبيهة بالنّثر في توزيع الأسطر وطريقة كتابتها، فتوزيع الأسطر (في رأي نازك) يفُقدها شرط الشعريّة.
يتناول حسن الخاقاني في مقاربته “الدراما وتعدّد الأصوات” في شعر حسب الشيخ جعفر، وتنطلق هذه المقاربات بحثًا عن أصداء الدّراما/أو المسرح في شعر حسب الشيخ جعفر، ويرى أنها ليست بعيدة عن أعماله، فقد وردت الكلمة بلفظها ودلالتها في قصيدته “السّيدة السُّومريّة في صالة الاستراحة”. وتردّد أَصداء الدّراما لا يقتصرُ على الكلمة، بل تطرد عَناصر أُخرى، مثل حضور الشخصيّة المسرحيّة، وتأثيرها البالغ في قصائده، وأحيانًا يأتي حضور الشخصية باهتًا في إحدى القصائد، وما يلبث أن يكتسب ثراء ودلالة في قصيدة أخرى، على نحو شخصية الكهل التي وردت في قصيدة “الزرقة الهامسة”، غامضة، وهو ما تطوّر في قصيدة أخرى.
كما يستفيد حسب الشيخ جعفر من تقنيات الأداء المسرحي، كتقنية العرض، أو الإلقاء المسرحي الذي يمكن أن يتولاه ممثل أو “كورس” بالإضافة إلى استعارته من تقنيات المسرح الحوار بين شخصيتيْن أو أكثر، والمونولوج حين يكون الحوار في ذهن الشخصيّة أو يكون حوار الشخصيّة مع نفسها، وبالمثل تعدُّد الأصوات، إذْ كان يبني قصيدته على هيئة أصوات (صوت أول، صوت ثان)، وأحيانًا يورد لفظة كُورس التي تدلّ على جوقة تعلو خشبة المسرح تُعلِّق على الأحداث أو الشخصيات وغيرها.
الميتا نقد
تدخل مقاربة نادية هناوي في باب نقد النقد أو الميتا نقد، أي مراجعة المكتوب النقدي بالاشتباك مع ما جاء به من قضايا إشكالية، ومحاولة تصويب ما جاء به من أخطاء إن شئنا الدقة، ففي مستهل مقاربتها تؤكد هناوي على أهمية تجربة حسب الشيخ جعفر، باعتبارها “تجربة حداثيّة مرموقة، نظرًا إلى تجديده في جنس قصيدة التفعيلة سواء بالتدوير أو بغيره، الأمر الذي أوصله إلى منطقة السّرد بكتابته لقصيدة النّثر ثمّ بكتابته للقصة القصيرة والرّواية”.
وتربط بين ثراء تجربة الشّاعر حسب الله جعفر، ونقد يكافئها في الوعي والأصالة، وتتأخذ من تجربة الناقد الدكتور خالد علي مصطفى، وخاصّة كتابه “شعراء خارج البيان الشعري” الذي صدر ببغداد عام 2020، وقد كان درس فيه التدوير في تجربة حسب الشيخ جعفر ضمن ثلاث تجارب من بينها تجربة حميد سعيد وتجربة سركون بولص.
قبل مراجعتها لما كتبه الدكتور خالد عن حسب الشيخ جعفر، تشير إلى أن نقوده تتسم بنزعة تراثية تمثلت في اهتمامه بدراسة موسيقى الشعر، ونقد الأوزان وإيقاعاتها وما يكتنفها من اعتلالات وما يرافقها من زحافات، وتردُّ هذه السّمة إلى طبيعته كشاعر ذي ذائقة معتدة بالقصيدة التقليديّة (العمود الشعري)، وهذه السّمات لها تبعاتها المهمّة في نقد ظاهرة التدوير عند حسب الشيخ جعفر.
تبدأ قراءتها لدراسة الدكتور خالد بالثناء على الملحوظة التي أبداها الناقد وهو يُحلّل ظاهرة التدوير حيث استذكر محطتيْن كان التقى فيهما بالشّاعر، وعلى الرغم من أنّه لم يتذكّر اسم القصيدة إلا أنه وصف مضمونها، وتأكيده على أهميتها في تجربة حسب الشيخ جعفر، وعلاقتها بالتحديث في القصيدة الحسبيّة. وبقدر ثنائها على هذه الملحوظة، إلّا أنّها ترى أن الناقد بقدر إعلانه عن أهمية هذه القصيدة التي ولدت ولادة طبيعة ومع هذا فقد ترك الكلام عنها وتحوّل إلى الكلام عن الشّاعر، وينتقل إلى المحطة الثانيّة التي تفصله عن المحطة الأُولى عشرون عامًا وفيها يكتب حسب الشيخ جعفر السونيت كتحوّل مَفصليّ، فطريقة تعبير الناقد عن هذا التحوّل تبدو للوهلة “الأولى تلقائيًّا وبسيطًا وبلا مركزيّة”، الغريب أنه مع ذكر هذه المعلومة في السابق، لكنه لم يأخذ بها في التحليل.
وكأن الشّاعر يرمي إلى أن يجعل التدوير كنتاج أو تبعيّة من تبعات تجريبه كتابة هذا النوع من السّونيت غربي النشأة، كما كان لولع الناقد بوصفه شاعرًا في المقام الأوّل بالأوزان وإيقاعها، أن صار التدوير بالنسبة إليه فرضية حاول إثباتها بأمرين “أولا سحب أولوية ابتداع التدوير من حسب وإثباتها لشعراء آخرين، وثانيا اعتبار قصيدة حسب ‘قارة سابعة’ هي أوّل قصيدة اعتمدت التدوير”.
كما تشير إلى مرجعيات الناقد الكلاسيكيّة المستمدّة من الإِرث النّقدي العربي، وتأثير هذا في أحكامه، حيث يُلمّحُ إلى مسألة التطبيع مستندًا إلى ابن قتيبة، على الرغم من امتلاك الشّاعر لموهبة (ذات دفق حيوي). وعن غلبة التدوير في شعر جعفر يرجعه الناقد إلى ثلاثة عوامل هي: أولاً أن شعر حسب الشيخ جعفر لم يتعرض لضغط أيديولوجي، وثانيًّا أن قصائده المدوّرة تتركز في بؤرتي الريف والمدينة، ويتأتى الأمر الثّالث مِن انصرافه الكليّ إلى القصيدة المدوّرة لتكون “القصيدة المدوّرة ظاهرة خاصّة في الشّعر العراقي الحديث بله العربي”، وتعتبر أنّ كلام الناقد يشير إلى أنّ “شعر حسب الشيخ جعفر في ما عدا ظاهرة التدوير ليس ذا أهمية، فهو مجرد عودة إلى أصول الشعر الحرّ المورد الشعري الذي هبطوا إليه من المكان الأرفع أو الذي صعدوا إليه”.
ومن ثم خرج الناقد بنتيجة حسب رأي هناوي، بأن لا أحقيّة لحسب الشيخ جعفر في أن يكون سبّاقًا في تدوير قصيدة التفعيلة بسبب قصيدة أدونيس “هذا هو اسمي” التي يرى الناقد أن تأثيرها واضح على حسب الشيخ جعفر، بل ودفعته نحو التدوير فبجملته “قصيدة أدونيس هذه هي التي أشعلت جمرة التدوير في شعر حسب الشيخ جعفر”.
وترى هناوي أنّ الناقد أتعب نفسه في البحث وهو يُفتش في نصوص مجايلين لجعفر وسابقيه عن مصدر التدوير، فقصيدة التدوير كما ترى “ليستْ اشتغالاً حسبيًا خاصًا، بل هو أمر عرفه الشعراء وله جذور ضاربة في شعرنا القديم والحديث، كما هو ظاهر عند الشيخ جلال الحنفي ومصطفى جمال الدين، وحاضر أيضًا عند أحمد باكثير في ترجمته مسرحية لشكسبير، وعند يوسف الخال”.
وتتساءل هناوي مظهرة التناقض الذي بدا عليه الناقد خالد في تحليلاته بقولها “إذا كان الناقد مقتنعًا بأنّ قصيدة ‘القارة السّابعة’ التي نشرها حسب الشيخ جعفر في مجلة الكلمة العدد الثاني 1969، هي أوّل شعر حسب المدوّر تأثرًا بقصيدة أدونيس، فلماذا – إذن – بحث عن قصائد نشرت قبل 1963 أي قبل نشر قصيدة ‘المرفأ المقفر’ عام 1962؟”، وتنتهي بأنه “لا إجابة، سوى أن الناقد نسي أمر قصيدة ‘المرفأ المقفر’ كأوّل نصٍ قرأه لحسب الشيخ جعفر، وكان حريًّا به أن يقف عند هذه القصيدة ويحلّلها بوصفها أوّل الشاهدين على أن لحسب فيها تميزًا فنيًّا”.
ومن ملاحظاتها على تناقضات الناقد، تقول إن الناقد من قبل قد توصل إلى “أن التدوير ألغى إيقاع السطر الوزني وأحلّ بدله إيقاع الجملة، أي أن نظام التدوير مرهون بالمستوى الدلالي وليس بالمستوى الصوتي، فإنه سيشغل نفسه بتفنيد هذا التحصيل عند حسب أيضا”.
لم يكتفِ الناقد بدراسة التدوير في قصيدة “القارة السّابعة” على مستوى العروض، باحثًا عن أسطر مرتبطة دلاليًّا بما بعدها، وكأنّه يبحث عن هشاشة التدوير عبر الوقوع على جملة مستقلة دلاليًّا لكنها متصلة إيقاعيًّا، وهو ما يعني أن إيقاعها يحتاج إلى أن يكتمل تفعيليًّا بالجملة بعدها، ويأتي تساؤل هناوي “هل تمكن الناقد من إثبات هذا الأمر؟” بمثابة التشكيك في قدراته.
محاولة البحث عن جمل مُستقلّة دلاليًّا أرّقت الناقد، فبحث عنها في قصيدتي “الرباعيّة” و”زيارة السيدة السومرية”، عندئذ كما تقول هناوي “وجد أن الإيقاع فيها متصل وأن التدوير يقوم على تنوّع إيقاعي – سمّاه وهو بصدد أدونيس – ‘الإيقاع النثري’، وانتهى بذلك إلى وسم قصيدة حسب الشيخ جعفر بالتصادم الصّوري والانتقالات المفاجئة ووضع العجائبي مع المألوف والاستقرار على بناء القصيدة على بحر واحد فضلا عن اتّباع شعر حسب للأصول التي استند إليها إليوت”.
وعندما وجد الناقد أنّ محصلات دراسة التدوير مخيبة لأفق التوقع، انتقل من دراسة الإيقاع إلى دراسة الأسلوب، ومن المسائل الأسلوبيّة التي درسها الناقد، إلى المفارقة في قصيدة “الرباعيّة الثالثة: وموقع المرأة في قصائد “قارة سابعة، الرباعيات الثلاث، وهبوط أبي نواس” وحلّل ما فيها من توظيف لتقنية القناع، لكن الغريب – حسب قول هناوي – أنه “عاد إلى دراسة الإيقاع وتحولاته في البحر الواحد، أو بالانتقال من بحر إلى بحر”.
وتأخذ على الناقد عدم المنهجية، بعودته إلى دراسة الإيقاع في حديثه عن مسائل أسلوبية، فكان الأجدى أن تتم دراسة المفارقة والقناع ضمن مبحث الإيقاع، نظرًا لما فيهما من سمات صوتيّة ناجمة عن التحول الدلالي”.
كما تلاحظ التناقض في منهجيته، فهو يقرُّ بشيءٍ ثمّ يأتي بنقيضه، فهو كما تقول يعترف بأن “القصيدة المدوَّرة ذات إيقاع قريب من النّثر الغِنائي”، فإنه في تحليل أسطر بعض قصائد ديوان “زيارة السيدة السومرية” ينفي ما تقدم.
كان لهذه التناقضات التي وقع فيها الناقد أثرها في الرؤية الكليّة لقصيدة التدوير عند حسب الشيخ جعفر، بأن طريقته في التدوير ظلت وقفًا عليه، بغض النظر عن مرجعياتها ومن ثمّ “لم تستطع أن تجاريها تجارب أخرى”.