أرقُ المَثّال
لكي تختفي في اللوحة
لكي تذهب في اللوحة عليك أن تتركها، قبلاً، تذهب فيك
لكي تمدّ اللوحة إليك يدها، فلا بد أن تكون أنت عاريا
توهّجْ وانتظر إلى أن يخرج البخار من دمك، ثم قف على بابها، وإﻻ فإنها لن تفتح لك، ولن تكون ألوانها أبدا في استقبالك، ولن تخطو باتجاهك أو تسيل فيك
وإﻻ فإنها لن تدع الظلال تمشي فيك، لن تدع الضوء يشعّ بشدّة في كهوفك ومغاراتك
لكي تطلّ اللوحة لك بوجهها، عليك أن تعرف كيف تنادي اﻷحمر باسمه وكيف تنادي اﻷصفر باسمه اﻷخضر واﻷزرق واﻷبيض
لكي تختفي في اللوحة، عليك أن تضع عينيك بين يديها، أن تترك روحك لها وتمضي، أن تدع لها أمر اختيار ثيابك، وأن تثق بها حين تقتلع فمك وتضع لك فماً غيره، فماً آخَرَ تراه هي مناسبا لك..
لكي تأكل من اللوحة وتتنزّه فيها، عليك أن تكون شجرة خضراء وفي عزّ موسمك.
ذهبَ القرطُ بنجمتِهِ بعيداً
ولستُ في برتقاليٍّ يفيض بسوائله ويعدّد صفاته
ولست أدحرج الفم الذي فيه فلا يصل إلى كلماته..
لست فيه ولا فيما يهيّجه فيطغَى،
لست في ناره ولا في فخّاره ينسجه قميصاً ويسيل فيه..
ولم أكن في حباله يصرمها ضوؤه
فيُنضِج وجهاً على جمره ويسوّيه،
فما من عتبةٍ لهذي العين توقِف نظرتها عليها وما من متّكأ تستريح عليه اﻷصابع من انطوائها..
فقد ذهب القرط بنجمته بعيدا عنه
وذهبت القلادة بلمعتها لئلا تكون في مطال برتقاليٍّ عريق يراكمُ متاعَه ويرفعه.
أرقصُ
أرقص وأرقص
ﻷن يدي وأصابعي تريد ذلك
وﻷن شعري يجد خُصَله هناك
ﻷن الضوء فيَّ، يُحدِث نوافذه في جسدي ويريد أن يخرج
ﻷني أستدير وأنير في ثيابي
وﻷني أصبح خيوطا سابحة ومضيئة فيها
أرقص وأرقص ﻷن قدمي تعثر على أختها..
تذهب معها إلى نهر النظرة المعلقة، النظرة الغائمة
أرقص وأرقص ﻷني أراني في ضوء الرنّة واضحا
وﻷن حروفي تصبح كبيرة
أرقص حيث ﻻ سرّ يبقى في رئتي
فيسدّ على أنفاسي الطريق،
وحيث أعضائي تصير فماً ولساناً
أرقص كلما تاقت نفسي التي تقيم فيّ، نفسي اللامعة إلى ذلك
أرقص كلما ضاقت نفسي بجدرانها
وأرادت أن تخرج وتتمشّى..
وكلما أراد جسدي أن يروي حكايته،
وأن يسميّ طائره باسمه.
لنجرّبْ أن نفكَّ عقدةَ لسانِ الجسد
لنجرّب أن نرقص مرّة
لنجرّب أن نفتح الجسد ولو مرّة
لنجرّب أن نرفع أستاره
أن نفكَّ عقدة لسانه
نصغي إليه ذاك الجسد
هي مرّة؛
نُخرِجه منه
هي مرّة نحرثه فيها..
مرّة نخصّب كلّ قطعة فيه ويزهر
لنجرّب مرّة أن نرفعه من صورته..
يزيح ألوانه ويصعد
مرّة نعرّضه للهواء وللشمس
هي مرّة نمرّر أكفَّنا على رأس شجرته.. مرّة نداعب فيها خصلات شعره، نثني أغصانه قليلا ثم نتركها لتضوع روحه
لم ﻻ نتركه لو مرّة يتفتّح
مرّة واحدة نصبّه ونُفرِغ آنيته منه.
لنُخرِج مرآته من سرّته أو من كتفه.. لنخرجها من نظرته أومن بين أصابعه متراصّة أو منفرجة؛ لنُخرِجها له كي يرى نفسه..
كي يزيل ما تراكم فوفه، ما تجمّع فيه..
لنُخرِج أسماءه وصمته منه..
لنمسكه بين طرفي السبّابة واﻻبهام ثم نفتحهما إلى آخرهما..
نتأمّل ألوانَهُ خفّتَه..
لنسمحْ له مرّة أن يُخرِج مرآته؛ قبل أن تنكسر وإلى اﻷبد.
تشابَهَ علينا الضوء
ﻻ نحن للمعةِ شعرٍ أو سوادِه وﻻ ﻻنسدالِه في الدهشةِ أو الذهول،
مثل ذكرى عميقة متوّجة بألوان مسافتنا..
ﻻ نحن لحُمرةِ شفةٍ أو جمرِ بشرة
وﻻ تقتلُنا اللهفةُ لجفنٍ بعيد أحكمَ علينا وحدتَنا، أو جبينٍ تركَنا في هدأته
ونحن ﻻ يشقُّنا الحنين أيضاً إلى سوارٍ يجعلنا في مأمنٍ من غوائلَ معصمٍ أو شهقةِ أزرقَ ﻻمعٍ في أظافر
نحن ننطوي بشدّة على حنينٍ غائر يلدغُنا في الزند وفي الكتف والذراع، وفيما يزيّن الرقبة ويفتحُها علينا،
نحن نعوي في حنينٍ مشغولٍ ومنقوشٍ ومتّقد؛ تشابَهَ فيه علينا الضوء.
الضوءُ يُعمِلُ في طينتِك أصابعَهُ
تخطيط: حسين جمعان
تشرقين وتتّسعين وتمتدّين
تضيئين أذرعك وتوقدين انفراجاتِ أصابعك..
تنثنين فتنثني معك أثوابك، تلجأ إليك ملتصقةً بك.
تتركين مسافة بينك وبين غصنك وتغادرينه، ليدرك الضوء اﻻنثناء الشديد لركبتيك.
الكلمات ﻻ تطالك وﻻ تقترب من قوس جذعك الذاهب في خفّة انحناءته، فتبقى معلّقة وراءك.
ابتسامتك وجدتْ فمك مفتوحا فطارت، وجدتْ شفتيك ممهّدتين فدرجت..
وجدتْ نظرتك الشاخصة تنفر بحدّة من عينيك فوقفت عليها، شرِبت وارتوت.
الضوء يُعمِل في طينتك أصابعه، ويرى.
تهبُّ اﻻبتسامةُ حاملةً أسنانَها
لن تتعثّر اﻻبتسامة بهواءٍ أو فكرة
لن يصدّها ضوء
لن يعلِقَ ثوبُ اﻻبتسامة بكلامٍ كثير أوقليل، فيؤخرها عن الوصول إلى دمنا تعقد سحرَها فيه
ولن يهدّئ من خطوها البارق انفراجُ المكان
ولن يبطّئها ما بقي من كلاٍم عالق في الهواء منذ زمن قربب أو بعيد
ولن يحجب شيئا منها
لن يقف في وجه اﻻبتسامة شجرة أو غصن أو عتاب
لن يخفت ضوؤها جرّاءَ عيونٍ تبتسم هي أيضا
لن تتأثر بظلِّ وجنتينِ تلتمعانِ هما أيضا
ستمضي اﻻبتسامة في طريقها ولن يصرفها عنه غُرّةٌ مشاغبة..
ستهبّ اﻻبتسامة حاملة أسنانها وتصعد مستغلّة انفراجة الشفتين،
مستغلّة انثناء أصابعَ مدبّبةٍ داخلَ فصوص خواتمها..
مستغلّة غفلةَ طلاء أظافر أحمر وهناءة ثوب أسود ﻻذَ بعبورها وتركَ نسيجه مُبعثرا في ساحتها..
مستغلّة كمونَ معدنِ ساعةٍ داخلَ جُحْرِ الكُم
ستظهر اﻻبتسامة رغم الزجاج الذي يشفّ تماما والذي حَرَصَ أن يظهر مبتسما هو أيضا وكي ﻻ يفوته ظهور اﻻبتسامة الكامل..
ستظهر اﻻبتسامة رغم اطمئنان الظلال إلى أن اﻷشياء ستمرّ حتما؛ ﻷن ابتسامة مملوءة.. فتحت بأسنانها مكانا ترك مكانه وبرز مُشرَعاً على شفتيه.
متاعُ النظرة
سيترك لكِ الهواء حيّزا كبيرا كي تضعي نظرتكِ عليه
وسيفسح الضوء مكانا ﻻ بأس به، تدسّين فيه أصابعك..
لكنّه فمك أمعن في إطباقته.. أمعن في حُمرته كي يقطع الطريق على لَهبك لئلا ينبثق؛ على نارك لئلا تندلع
لكنّه النسيج خبّأ نشيجه في تجاعيده وسمح لك أن تجمعي أعضاءك وتدخلي فيه أوصَى خيوطه بلون بشرتك.. أوصَى لونه أن يحرس قعدتك التي استندت إلى أصابعها، تدفن صرخاتها في قماش وتطرّزها فيه.. قماش هو الذريعة القصيرة ﻻ تكفي زرقته الواطئة ﻹخفاء وحدتكِ الكبيرة
فهل كان الشَّعر الذاهل يُسقِط كلّ ما كان يحبسه وينسى مفرقه مفتوحا، ممرّا للعابرين وطريقا وعرا يتكبّده الكلام ويتهاوى على امتداده..
فمتاعُ النظرة خفيف بإمكان جذوع الصمت الضخمة أن تحمله وتمشي به..
بإمكان الرماديِّ فيه أن يرفعه بإصبع واحدة
بإمكان الوجنة العزﻻء أن تسحبه مثل دمعة إلى عرائها
باستطاعة الجبين الوحيد خلف جلدته رفعُهُ كفراشة سوداء والسير طويلاً به دون كلل أو توقّف
متاعُ النظرة هيّن مثلُ يدٍ تحوكُ فراغَها الذي وقعت فجأة فيه وﻻ يحتاج إلى مشقّة.. وهو متاع الهاربين من كلامهم وصراخهم وحنينهم وأنينهم ودويّ ذاكرتهم، دحرجوا ما بقي لهم من أجسادهم وروائحهم.. لمحوا أقربَ أصابعَ عاريةٍ إليهم فقصدوها واستقرّوا فيها إلى حين.. انتبهوا إلى نظرة منعزلة فمشوا إليها.
في النظرةِ العالية
في النظرة يخبّئ الوجه كلَّ مدخراته، يغطيها بالتماعِ العين..
في النظرة يرمّم الوجه كلماته ثم يخرج منها ليقيم على قارعة الفم..
يترك متاعه من البخار والعرق ليتكبّد مشقّة الفم وانفراجته..
ﻻ بأس من خُصَل شعر تلتصق به، ﻻبأس من خصل أخرى تنفر منه؛ ففي ضوء الوجه الذي يخرج من نظرته، ذلك دائما أمرٌ متوقّع.
في النظرة العالية في النظرة الوعرة؛ ﻻ يَسلم الوجه عادة من وجنتين وﻻ يَسلم من جبين حتى وإن تشبّث بأنف أو تمسّك جيّدا بذقن.. وﻻ يكون بمأمن في زغب أعلى الشفتين؛ حيث يواصل هناك استظهار كل رغباته الشديدة بدأب.
أيّها الملاكُ كَبُرْتَ كثيراً
ماذا سنترك من أرواحنا،
على رخام هذي النظرة
ما الذي سنشرحه أو نكتبه على امتدادها من الرمل
هل نصنع صحراء أكثر صُفرة..
وأكثر اتّساعا منها لنا،
وهل باستطاعتنا رفْعُ سماء أعلى ذهوﻻ وأشدّ نصاعة منها
الشعر أخذَ منه الهواءُ ما شاء..
أخذ نصيبه كاملاً،
حُمرة الفم واﻷنف تُرِكَتْ لنا في الحقائب السوداء، فماذا سنفعل بها..
وهل كان الجبين، الذي هجر الشعر عنه، يصدّ ما يطرأ من غارات النحيب خلال ذلك..
وهل نقدر أن نصعده لنأخذ ولو قليلاً نومنا منه،
أو نرفع عن طريقه المؤدي إلينا، حجرَ اﻷرق.. وكيف سننحّيه؟
أيّها الملاكُ كَبُرْتَ كثيرا في معطفك.. وكَبُرَتْ يدُكَ في كُمِّه،
فارفعْ نظرتك عن طريقنا،
أيّها الملاك الضوء، ثمّة ما ينكسر فينا ويتداعَى في دمنا..
ثمّة أنقاض في الوجوه يسند بعضها بعضا ويواسيه، يداريه.. لم نعد قادرين على حملها أو إخفائها..
أيّها الملاك الضوء
نحن نريد أن نعبر إلى ربطة شَعرك، نلعب معها
فلا نستطيع
نريد أن نعبر إلينا دون أن نسقط في حيرتك.. فلا نقدر
لقد ضعْنا أيّها الملاك،
ضعنا،
وتمزّقْنا على امتداد لغتنا القاحلة.