انتصار المعنى
كنا نعتقد منذ قرون خلت أن الميثيولوجيا، كمرحلة من مراحل البشرية، قد انتهت وخبا ألقها، لكن على ما يبدو أن هذا الاعتقاد محض وهم، لأننا نحياها في واقعنا العربي. أكاد أن أرى أن اعظم ميثيولوجيا منذ بدء الخليقة إلى حد هذه اللحظة هو هذا الربيع العربي الذي ظفرنا منه بأدوار هزلية على ركح المسرح الدولي.
لم يكن جلجامش بمغامرته البطولية أشد بطولة من الشهيد محمد البوعزيزي. ولم تكن انتفاضة المهمشين والمنبوذين والمحرومين مماحكة أو تسلية أو رهانا فجاً على الاستئثار بعشبة الأبدية. الخروج إلى الشارع لم يكن محايثا لخروج النص عن أدبيته، فلم يكن الخروج إلى الساحات مناطا بنص ما. كانت عربة البوعزيزي وحدها النص الذي تلقفه الصحفي في القناة الفضائية، والسياسي المتابع عبر الأثير، ليخطب فينا أو ليزج بالحدث في مرمى أطروحته. في حضم هذه الميثيولوجيا التي انبنت على مقولة (فن موت الواقع) نكتب لنهدم قداساتهم ونلقي بتعاليمهم في سلال النفايات.نكتب لنعيد إلى الأشجار خضرتها، وللينابيع مياهها، وللنجوم أنوارها، وللحياة مذاق عذريتها الأولى.لسنا أبناء السماء كما يشاع، ولا أنبياء ولا شياطين ولا الهة ولا ملائكة، إنما بشر جبلوا من طين الحلم. بشر باجنحة نورانية لا تحلق إلا عاليا وبعيدا في كل اسم وكل شئ وكل فاصلة. نكتب لنذكر القتلة المرتزقة من الساسة الحمقى والكتاب الكتبة . القصيدة ليست للتسلية والتنزه. ليست ألبوم صور، ولا ديكورا من علامات وإشارات. ليست ثلاجة موتى أو قبرا معلقا في السماء بدبوس أو مسمار. القصيدة تكمن فيما يمحى منها. نكتب بالممحاة، بالمشرط، لا لكي ننال رضاهم فنظفر بالتهاويل والتصفيق والزغاريد، بل لنلعن ونلقى الإقصاء والنسيان والاهمال والشتائم المباركة. أن تكون شاعرا هو أن تخلع قلبك باستمرار وتطعمه لفقراء العالم، الذين لا بد أن يزحفوا من الأرض قاطبة في اتجاه وول ستريت. لان الخطاب الجمالي يتراجع على وقع أظلاف الخطاب السياسي الذي يحتكر القبح المتجلي في اشكال من الحروب التي لا تحصى. ههنا ينهض الخطاب الشعري الجمالي لينتصر للمعنى في زمن الانهيارات الكبرى، للقيم العظمى ينهض، لا ليمتدح أو ليخطب في الناس، وإنما ليكشف ويعري ويفضح. ينهض ليشعل الظلام ويسحب البساط من تحت أقدام المرتزقة من فقهاء ورؤساء وساسة ومنظمات. الشعر لا ينتصر الا للانسان وقضاياه.