المركبات والطوفان
باكرًا جدًا، ومنذ محرقة دارفور السودانية، التي فتحت بصيرتنا على بشاعة العالم ولا عدله، ومنحتنا، بالتالي، طاقة شعرية أخرى. أدركنا أنه على الشاعر أن يبدّل صورته النمطية الشائعة، ليس عليه أن ينظر من ثقوب النافذة، واضعًا غُليونه المصقول بين شفتيه، معتمرًا قبعته المطرَّزة، مُحولًا قلبه وقلمه إلي وجهة أخرى بينما الوطن يأفُل وحديقة العالم تحترق: يُسحل الإنسان في وطنه، يتوه في الصحراء، يُقبر في يَباب اليابسة ويغمر، للأبد، في مياه البحر المالحة. رأى الشاعر (القُطيّات) المسكينة، بساكنيها الفقراء، تضرم في أتون النيران المتأججة.
لكن الشاعر وهو يرى رأس المدخنة من بعيد، لم تَعْشُ بصيرته الحاذقة، لأنه، ببساطة، يحدّق، كعادته، في أتون الحرائق القادمة مثل نبيّ أخير، ليكون شاهدًا على جريمة العالم وجرائم الوطن، مُدوّنًا بدمه آلامها وبشاعتها ومأساويتها، ما يجعله يغيّر لغته الشعرية، بكل قاموسها المثقل بالهزيمة والموت، إلى شعريات أخرى أكثر تورطًا في الحياة وإصرارًا على المغامرة: الحُريَّة.
لُغة الشاعر هي رأسماله الوطني والإنساني غير القابل لمزايدة الربح والخسارة. ليس ثمة خيار آخر: أن تكون في قصر الطاغية وهو يتهاوى، لأنه لا طغيان بعد الآن، على الأقل بصورته البشعة الحالية. أو أن تكون ضميرًا كليًا لا يحتمل سوى أن يكون شاعرًا حقيقيًا، بصوته الحر ولغته الحاشدة بالحياة.
لغة الشاعر هي موقفه الإنساني والأخير من الخراب الذي ينهش قلب الوطن ويحيق بأسوار العالم، موقفه من الحرب والتهجير وإفراغ الحياة من كونها حياة يجب أن تعاش.
الشاعر، آخر الأحياء في المدينة، من يمشي في طرقاتها الميتة ينادي بالحياة والحب والحرية.
مهمة الشاعر، وسط هذا الخراب الطويل، أن يكون شاعرًا وحسب.