جنود يختنقون في الغواصات
ذئاب
كادَ لنا الموتُ
واختطفْنا أرواحَنا من يديه
بشراسةِ العشيقات.
أخذْنا أجسادَنا عُنوةً من ظلامِ البئر،
سحبْناها بصوتِ المحبوب،
نبّهْنا الهواء،
راقبْنا الطوفانَ وهو قادم،
اقتتلْنا
والسفينةُ مخروقةٌ من كلِّ صوب.
لن أضعَ رأسي
بين قبورِ الغرقى
النائمينَ في سريرِ الماء.
أجرُّ جثتي وأنفخُ فيها،
لن أغفو
قربَ هذه العشبةِ المسمومة،
لن أدعَ الرمادَ يشلُّ كلماتي،
أعرفُ هذا السُّمَّ البطيء؛
صحراءَ تتلوَّى وتبثُّهُ في دمِنا.
سأقفُ على سطحِ البيت
أهشُّ الليل
أعدُكم
أني صاحٍ
ولن أتركَ الذئابَ تقتربُ يا عيالي.
سُمّ
كلمةٌ لم أستطع لفْظَها؛
كلماتٌ كثيرة تدافعتْ على لساني،
كلماتٌ تقافزتْ من يدي،
كلماتٌ تخلّصتُ من شرِّها
ولم أزل أتلوَّى.
أحذفُ كلماتٍ وأمحو أخرى
وموضعُ الألم ينتفخ؛
مثلَ رضّةٍ للتو،
ربما لو تركتُ الكتابةَ على الكمبيوتر،
لو عدتُ للقلمِ والورق
وخططتُ الكلمات،
أحفرُ الصفحاتِ حفراً
مثلما كنتُ صغيراً؛
ينحتُ شتيمتَهُ للعالم على جدارِ المدرسة.
كلمةٌ لم أستطع لفْظَها؛
سمَّمَتْنِي.
عُيُونٌ فَارِغَةٌ
أكثرْنا من الخشب في كلامِنا،
احتطبنا منابتَ صوتِه
واستدعينا الشجرةَ مرارا
لتهدئةِ سرِّ بنيها.
تغاضينا عن معانيه وهو يجف،
وعن لوعته وهو يذهب من جمرٍ
إلى رماد.
توهّمَ الريحَ؛
يدَه،
وظنَّ الشمسَ بستاناً يناديه،
يتقطّع صريرُ الباب،
يخفت
كلّما طرَأ المنشار على بالِه.
قلبناه في نار،
سقفنا به أيامِنا،
بريناه،
ركزناه في الأسرّةِ والنوافذِ والليل.
أكثرْنا عليه من النسيان
واعتكرَ حنينُهُ في عُقَدٍ
تجفُّ وتهوي،
تاركةً عيوناً فارغة للتلصّص.
لم نجرؤ على تخيّلِ المسامير
ولو بالإشارة،
وعلى علوِّ الطرقات التي ملأتْ البيت
غطّينا أفواهَنا عند مرورِ الفأس.
رَقْصَةٌ
كان عليَّ أن أرقص،
كان على أحدٍ أن يرقص؛
لنفهمَ ما يجري.
لم ينفعِ الكلامُ
ولا الصوتُ يصل؛
تسقطُ الكلماتُ
وتتبدّد.
كان عليَّ أن أرقص،
كان على أحدٍ أن يقفَ
ويرفعَ الموسيقى فوقَ كتفيه
ويدورَ في اتّجاهِ الشمس
كلما نزلت.
كان على الألمِ أن يترجّل
على السعادةِ أن تعضَّ الجسد
والخوف يفيض؛
ضاقت بنا الحياة.
تريّثْ
تريّثْ قليلاً
ولا تقفْ،
دَعْ ظلَّكَ يسبقُكَ وقتَ الخوف
ويتبعُكَ في الشوق.
تريّثْ واربطْ على قلبِك
تريّثْ وأرخِ عُرفَ حصانِك
تريّثْ ليمضِ بك المركبُ سكرانَ
ولا تقفزْ إلى ساحلٍ غيرِ مصابٍ بالدوار.
تكتم كلاماً يتدافعُ
وتكزُّ على أسنانِك لينتظم،
فتريّثْ قليلاً
الغضبُ كنزُكَ فلا تبذلْهُ على لئيم.
لولا الغضبُ ما وطأتَ حافياً
ولولاهُ ما عبرت،
أنضجَكَ الغضبُ
وسوّاكَ
فتريّثْ.
ليتنا استطعنا
ليتنا استطعنا
تأويلَ أحجارِنا
ولم يكن الرحى تفسيرَنا الوحيد.
ليتنا أطعنا
نفرةَ الجسد وصراحتَهُ الجارحة
عوضاً عن تركِ الصمتِ يدفنُنا
بمسحاتِهِ الصلفة وضحكتِهِ الكتومة.
دون انتباهٍ ربّينا قططاً بين أيامِنا
ودفنَّا عنايتَنا معها،
عناكبَ خصصنا بها الشقوقَ وهي تتّسعُ
وزوايا الأسقفِ وهي تميل.
ليتنا استطعنا
أن نختصرَ تطلّبَنا
ونبسطَ راحاتِنا بما سرقناهُ من جيوبنا،
أخطاء صغيرة قرصت أفخاذَنا وازرقّتْ
مثلَ نقطةِ الحقد،
بنينا فوقَها سدوداً ومتاريسَ
لئلا يعبرَ اللطفَ ولا ينبتَ الكلام.
ليتنا ما أطعنا شرورَ أنفسنا
واقتتلنا مبكرين.
أَرْوَاحُ الغَرْقَى
تخطيط: حسين جمعان
اِتبعيني أيّتها السفنُ الغارقة
يا صيّادين؛ تعلّقوا برماحِكم المربوطة
يا بحّارةً هاربينَ من عشيقاتِهم في كل مرفأ
يا جنودا ًيختنقونَ في غوّاصاتٍ سريّة
يا كلَّ المفقودين
هل ترونَ الحوتَ الأزرق
والحيتان تتبعه
تعلقوا بهم
ولن تضيعَ أرواحُكم
لن تشيخَ هائمةً في أعماق الرعب
قبيلتي وهي تجنحُ على شواطئ القارات
ليس انتحارا جماعيا كما يُدعَى
نحن الحيتان المكلّفين بكنسِ أرواح الغرقَى
وإطلاق سراحِها على ضفافِ المحيطات.
أسدُّها بظهري
ظهري على الحائط
مذ كنتُ طفلا
يرقبُ اللَّعِبَ
ويُزجَرُ عنه.
ظهري على السور
أحملُ أرجلَ الهاربينَ من المدرسة.
ظهري إلى الجدار
مثلُ صورةِ الجد
حامي العائلةِ في الشتات.
ما أسندُهُ بظهري ليس الخوف
ولا أن تنطبقَ الأرضُ بالسماء لو تزحزحت
ولم أشدّ قامتي الحدباءَ مطالعاً ألعاب العالم،
كنتُ أحرصُ على وقوفي هناك كي أسدَّ
فوّهةَ الجحيم.
أَعْنَاقُ الغَرَقِ
عنقُ المنارة
تعلو وتضيقُ بصيحاتِ الغرقى
تفطنُ السفنُ الراسية
متململةً في الموانئ
تتخبّطُها المياه.
صفيرُ البواخر
مداخنُها تحنُّ وتدنو
من بلادٍ هجرَها البحّارة
تركوا فيها نخيلَهم ومواشيهم
وأولاداً يلوّحونَ لهم بالمناديل.
براميلُ مملوءةٌ بالهواءِ والزفرات
تلعبُ فوقَ الموج
يطلقُها بحّارةٌ متمرّسون
عوناً محتملاً
في سبيل غرقى محتملين.
نفيرُ سربِ الإوّز
أرواحٌ تائهة
سهامٌ طائشة
تثقبُ الضباب.
على الساحل
يرتمي الغرق
منهكاً
بعنقِهِ الطويل.
حُلْمُ النَّعَامِ
الفزعُ
ريشتي،
السماءُ
والبحرُ يقتسمانِ بيضتي،
كلُّ هذي الأجنحةِ ولا أطير،
كلُّ هذه الرقبة
ولا أغني.
هَبْ لي سبباً واحداً
لأرفعَ رأسي من البئر؛
قالت النعامة.
قِيَامَةٌ مُؤَجَّلَةٌ
أمشي على الأرض
لا أشعر بخطوي
كأنما تمحوني العتمة،
طفلاي يلعبان يتناديان راكضين:
“هيا إلى سطح الكوكب”.
انتبهتُ
وعدت كائنا فضائيا
يقفز بين المجرات
يطلق صيحات مبهمة
صوب كواكب غارقة في ظلام.
أسهر على عتبة الليل
لأحمي بيتي من النيازك المتلاطمة
في دروب الفضاء
وأحيانا تسقط مذنبات
وتنطفئ بلا أثر،
أستدير مسرعا إلى شمس تعرّيني
من غبار النجوم،
في المهب تتكشف أحقادي الصغيرة
مثل كوكب تلفه عاصفة
تزمجر منذ قرون،
كوكب يكنس المجرة من الأجرام الشريرة،
يفتّت غضبي ويتطاير من شهبي
رماد يلوب نحو الثقوب،
وعلى دويّ انفجارات
تتوعد الكون صدمة الفناء.
أراها موشكة
علاماتها في الأعالي
تُعدّ على حمم هادئة
تطبخها أيدي مردة مهرة
تخلط مقاديرها منذ الأزل.
توشك أن تقوم
أسمع وقع دويّها في الخارج
وقعا يعلو ببطء ويقترب
أصحو وحيدا
مرعوبا في غرفة الكون المظلمة،
أبحث
في أركانها عن مخابئ وأسلحة،
متعجلا
مرتكبا الحماقات والحروب
أصوّب وأكتب
لأؤجّل قيامتها.
ذَرِيعَةُ العَبَثِ
كنا نلوم الطبيعة
ونتدارك زللها الفادح؛
كلما دفن الآباء والأمهات صغارهم،
كنا نعيب عليها
أخطاءها المتفرّقة في الكون،
حتى رأينا الأطفال نائمين.
نائمون وحدهم في الموت
فأيقنّا أن الله موجود
ولم تكن الطبيعة إلا ذريعة واهية
لكل هذا العبث.
مَخَاوِفُ
أكتبُها كاملةً ولا أداريها،
أُفلِتُ خرزَها يرنُّ على البلاط،
وأجزمُ أنها عثرتي كلما نهضت،
أنفضُ ثوبي،
أفركُ يدي،
أقشّرُ لحائي مثلَ شجرةٍ تتعرّى في غابةٍ
كثيفة،
وأصرّحُ بمخاوفي لئلا تقع؛
أصرخُ بها عاليا
كي لا تغافلَني وتكبر.
حَصَاتِي
بسرعة؛
أريد كتابة قصيدة
عن حصاة،
صغيرة ومصقولة،
تدور كلما استدرت
وتجذبني لو نسيت.
بسرعة خاطفة،
أريد معاينة نيزك مطفأ يتبعني
ولا يراه غيري
بسرعة؛
قبل سقوط الفكرة
قبل أن يلتفت أحد
ويرى مكاني شاغرا
تلك الحصاة
تحفر راحة قدمي
وتوجع أيامي.
أحيانا
أظنها قطعة من مشقة الطريق،
وأحيانا أعتبرها عظمة ناتئة من جسدي
تنخز الأرض
ودائما
آخذها معي
في غفلة من الناس.
بدّلت أحذية كثيرة
ونعالا
ولم تتخل عني
رحلتي شاقّة
وطويلة
وحصاتي تشقّ دربها.
دائما أعد الليل
أن أتوقف
أفلش حذائي مثل صدفة
أنبش حصاته بإبهامي
أقذفه مرة واحدة،
أسير حافيا
وأمحو أثري.
لكنها
حصاتي
لا مدفونة
ولا عابرة،
هناك
أينما وطأت
حصاتي
هي الأرض.
من مجموعة قيد النشر بعنوان ” ما أجمل أخطائي”