قلم الكاتب ومخيلة القارئ
ليس مصادفة أن يقدّم الروائي نصه الاستثنائي هذا بمقطع شعري لشاعرة أفغانية شابّة قتلها مسوخ طالبان “جسدي طازج مثل أوراق الحنّاء.. أخضر من الخارج لكنّه لحم نيئ من الداخل”، رحيلة موسكا، الشابّة الأفغانية المجهولة والمغتصبة والجميلة، التي استلّها الكاتب في حومة غوصه العميق في النصوص المكتوبة باللغة الفارسية، ربما وجدها تشبه إلى حدٍ كبير بطلاته المظلومات من بائعات الهوى الشابات في “الحيدرخانة”، قاع المدينة وخلاصة حياتها السرّية، حيث البيوت القديمة الآيلة للسقوط تحتضن بين جدرانها حطام الأحلام والأمنيات المُحبطة.
“خان الشّابندر” هي حكاية غانيات الكاتب الطيّبات اللواتي تحوّلن إلى ملائكة من فرط محبتهن وعفويتهن وبساطتهن المتناهية. قصصهن صادمة وشخصياتهن ضوئية كما لو كنّ سقطن من عربة الأحلام الصاعدة نحو السماء، كل واحدة منهن عالم قائم بذاته، يتفاوتن بالوعي والجمال ويتوّحدن في الحب، أحلامهن بسيطة للغاية، النجاة من الموت.
ولعل المقطع الاستهلالي القصير الذي يفتتح الكاتب فيه نصه، والمكتوب بلغة شاعرية خاصّة للغاية، يلخص فحوى الرواية كلها بشكل مكثف للغاية، يُمهد القاري ويعصف بذهنه ويوقظه ليكون مستعداً لما سيأتي من أحداث متتالية، كما لو كان وعيداً وحزمة نصائح فادحة توجهها “هند” بطلة الرواية، ليس للكاتب وحسب، بل للقارئ أيضاً، وهي تحدّثه عن البحث الواهم عن الكمال الذي سيفقد الحياة متعتها، “تلك الحياة التي أفقدتنا الوصايا متعتها”، أو “لن نعود كما كنا أبداً”، أو”الغرق في الحياة الفاسدة حيث يلتهم عقلك روحك”، هذه الإحالات الفلسفية البسيطة ستكون لاحقاً المُحرّك التحتاني لثيمة الرواية، وان لم يشعر بها القارئ بشكل مباشر، فالوصايا والحدود والعيب والتردّد والخجل والخوف، كلّها مفسدات للمتعة والحياة البسيطة والقصيرة أو العابرة، على الأقل من وجهة نظر “هند”، حتى يأتي تحذيرها الأخير الذي توجهه للكاتب أو العاشق أو بطل الرواية “علي” المسحور بجمالها وجمال عالمها، ومن خلاله إلى القارئ أيضاً..
“استعد واترك تخاذلك وجبنك وتهيأ لاحتراق روحك في كانون محبتنا الموجعة.. فبعد تلك الساعة لن تعود كما كنت ولن تعود الحياة كما عرفت”.. نعم، من وجهة نظري يتوجب على قارئ “خان الشّابندر” أن يستعد منذ البداية لاحتراق روحه وهو يوغل في عالم محمد حيّاوي الجديد الساحر هذا، كما لو كانت سلسلة طويلة ومتتابعة من الوجع والشغف والترقب والغموض.
بالتأكيد سيُكتب عن هذه الرواية الكثير لاحقاً، لا سيما عندما تُقرأ في العراق والعالم العربي، كما أمنّي النفس شخصياً بالعودة للكتابة عنها بشكل أكثر تفصيلاً في محاولة لاستنباط تقنياتها السّردية المُثيرة، وحتى ذلك الحين تبقى “خان الشّابندر” نموذجاً عميقاً للرواية العراقية الجديدة ما بعد التغيير المجتمعي والسياسي الكبير الذي حصل في العراق، وواحدة من أهم التجارب التي تجسد ملامح تلك الرواية.