ثلاث ملاحظات في الكتابة
I
جالسا في حديقتها أتأمل أشجارها. كما لو أنني لم أعشها. حياتي التي تدير شؤون حديقتها مثل امرأة مسنّة. لقد اكتشفت أنها مضت من غير أن تحملني معها. تركتني في انتظارها. قل إنني أوهمت نفسي بأن حياتي هي المسؤولة عن كل تلك الانتظارات التي اكتشفت متأخرا بأنها لم تكن مجدية. كان الزمن ضدي. هناك من حرضه لكي يكون عدوي. كان الزمن يقع بين نهارين لم تخرج الشمس فيهما من مخدع الدجاج، بين ليلتين هيأ لي فيهما الأرق كرسيا على الشاطئ. سأملأ سلته فاكهة لأحدثه عن أرق ما في إرثي من حكايات. أنا وحيد في قعر الكأس. ما معنى أن تكون وحيدا؟ الوحدة. لقد قررت في لحظة تأمل عظيم أن لا أكون إلا معي. شيء أشبه بالمعصية. معصية ذلك الإرث الذي لا يزال ساكنا في عتمة صندوق خشبي صغير كانت جدتي نشمية تخرجه بين حين وآخر من خزانة ثيابها لتتأمل محتوياته: مشط خشبي، مرآة صغيرة بمقبض وإطار من الفضة، مفتاح لباب، ربما يكون الآن موجودا في الجنة، أربعة أكواب صغيرة بصحونها التي زينت بصورة الملك غازي وصور صغيرة تأكسدت أجزاء منها. سأمحو من عينيها دمعتين لأرى البحر المجاور من خلالهما. هل كانت جدتي وحيدة؟ تلتفت إليّ وتبتسم معتذرة. تحاول كفها أن تمحو الأجزاء التي تأكسدت من الصور. تستعيد المشهد كاملا. هناك فصول تتعثر بتحولاتها في سنة عشوائية. لم يكن الربيع جاهزا لاستقبال كل هذا العدد من الأشجار. تبتسم لأنها تدرك أنني سأكون سعيدا حين أرثها، لأروي حكايتها. بدءا من نهار لم يقع بعد، نهار بعيد، مادته ظلال سعف النخيل في الطريق إلى النهر، حيث يستقبل السيد في ضريحه النسوة القادمات بالحناء وأغصان الآس وأطفالهن.
تغمض عينيها على مشهد قدمين حافيتين. “كان أبوك يتبعني. بقدمين حافيتين يدوس على العشب بقوة ليخيف الأفعى المختبئة في الطين. لا تفارق نظرته الأرض لذلك فقد كان يرتطم بجذوع النخيل. في كل مرة يصرخ فيها التفت إليه فأجده محتضنا جذعا. وكانت الأفعى تضحك. ينصت إلى كركراتها فيضرب العشب بقدميه غاضبا. لم تكن الأفاعي المسكينة لتخيف أحدا” في ما بعد أدركت أن الخوف كان يومها مادة حياة. يُحسب المرء إنسانا نسبة إلى حجم الخوف الذي يشعر به. كانت جدتي خائفة مما حدث وليس مما يمكن أن يحدث. كان الماضي بالنسبة إليها خزانة المعاني الممكنة كلها. ما يحدث فعلا أنها كانت تجر ذلك الماضي لتضعه في المتر المربع الذي تعثر عليه في نهاية سفرها. ما نسميه المستقبل لم يكن له وجود في ذهنها. تقف هناك لتتأمل أشباحا. تبكي وتضحك، تنصت وتتكلم، تسعد وتحزن، ترضى وتثور في سلسلة متلاحقة من الانفعالات التي هي خلاصة لقاءاتها السرية بتلك الأشباح. دائما يلذ لها أن تقول لي “لنبدأ الحكاية من أولها”. لا أتذكر أن واحدة من حكاياتها قد وصلت إلى نهايتها. لقد تعلمت أن النهايات يمكن إرجاؤها إلى الأبد. حين نصل إلى النهاية فهذا معناه أننا قد ضجرنا وقررنا أن نضع حدا ليأسنا. “أعدك بحمامة إن بقيت صامتا في انتظار ما سيفعله أخي بعد أن تسللت أفاعي الماء إلى زورقه” أصمت ولكنها تترك أخاها في محنته لتقول “كان خلف قد غادر قريته تاركا خمسة أولاد وامرأته وقد قيل يومها إنه وصل إلى الجزيرة التي لم يعد منها. هناك وراء الضباب، في أقاصي المياه جنة لا يصل إليها إلا الصالحون. خرج رجال القرية بحثا عن خلف” ما إن أغفو حتى يحل خلف محل الأخ الذي تركته جدتي ليواجه مصيره بنفسه.
لم تكن جدتي تروي، بل كانت تعيش.
سأقلدها بعد أربعين سنة.
سأروي لنفسي الحكاية التي لم أعشها كما لو أنني عشتها وفي الوقت نفسه أتخلى عن التفكير في الوصول إلى نهاياتها، مدعيا أن هناك حكاية أخرى قد فرضت نفسها عليّ حين اعترضت طريقي، وهذا ما يحدث معي فعلا. ألهي نفسي بما سيقع، من غير أن ألتفت لما وقع وقد صار حدثا مشكوكا في وقوعه. لذلك فأنا أسأل نفسي دائما “ترى هل وقع فعلا ما كنت أظنه قد وقع؟” سأروي لكم هذه الحكاية: على ضفة القناة التي تخترق البلدة التي أقيم فيها، هنالك مصطبة خشبية اعتدت أن أجلس عليها كلما أتيحت لي فرصة المرور قريبا منها. غالبا ما يمر بي أناس مسنون، نساء يمشين بكلابهن، حوامل يدفعن عربات أطفال. لم أر في ذلك الممر الذي يفصل بين الشريط الأخضر الذي أجلس على واحدة من مصاطبه وبين القناة شابا أو شابة يوما ما. أطفال المدارس لا يمرّون أيضا. لذلك كنت تقريبا أشبه بالكائن غير مرئي، بالرغم من أنني كنت أجلس تحت الشمس. لا أحد ممن يمرون دفعه الفضول إلى النظر إليّ. ذات مرة فيما كنت أتجه إلى مصطبتي التي كنت أجدها فارغة دائما، رأيت شابا يصغرني بعشرين سنة تقريبا قد سبقني إليها. جلس ذلك الشاب على طرف المصطبة الأيمن ورفع يده باحترام مشيرا إليّ بأن أجلس على الجهة اليسرى من المصطبة. الأمر الذي أثار دهشتي. فهل كان ذلك الشاب ينتظرني؟ ثم من أين له أن يعرف أنني لن أجلس على مصطبة أخرى؟ حين جلست مندهشا لم يلتفت إليّ الشاب بل ظلّ ينظر إلى مياه القناة كما لو أنني لم أكن موجودا إلى جانبه. كما لو أنه لم يقترح عليّ الجلوس إلى جانبه. جانبيا صرت أنظر إلى وجهه فذكرني بوجه أعرفه، وجه له ملامح لطالما تأملتها. أكاد أقول إنني على دراية بتلك الملامح كما لو أنني رسمتها أو تخيّلتها مرسومة في الماضي. غير أنني لم أتذكر لمن كان ذلك الوجه. أعرفه جيدا. تكاد صورته تفلت من الليل الذي تراكمت صفحاته في خيالي. ذلك الوجه رأيته كثيرا. أحتاج إلى محراث لأقلب صفحة الأرض. احتاج إلى إبرة لأنقب في قطعة الخبز. صارت العجلات تتحرك في ذاكرتي من غير أن تنجح في السير. كانت تدور في مكانها. حركت يدي في مختلف الجهات من أجل أن أثير انتباهه ليلتفت إليه فأرى وجهه مستديرا، غير أن ذلك الشاب ظل لاهيا عنّي وهو ينظر بتأمل عميق إلى النوارس التي صارت تضرب المياه بأجنحتها كما لو أنها جنت فرحا. بعد وقت لا أعرف أكان طويلا أم قصيرا نهض ذلك الشاب ومشى بعيدا عنّي، غادرني من غير أن يقول لي كلمة وداع. لقد فاجأني بقيامه فلم أقل شيئا. كانت مشيته قد أعمت عيني وكممت فمي. كان لديّ ما أقوله لذلك الشاب، ما أودّ النظر إليه منه. أثناء حيرة أحوالي وارتباكي كان الشاب قد اختفى وعرفت أنني قد خسرت واحدة من أعظم الفرص النادرة، التي كان من شأنها أن تهبني معرفة بحياتي السابقة.
تخطيط: حسين جمعان
قبل عشرين سنة تركت ذلك الشاب جالسا على أريكة خضراء، من خلفه كانت ستارة وردية شفافة تهتز بسبب هواء المروحة. لم أقل له كلمة وداع واحدة. كنت قد حزمت حقيبتي ووضعتها قريبا من الباب بعد أن يئست من إقناعه بالسفر معي. بعناد ثور كان مصرا على البقاء. “وطني” أو “بلادي” الواحدة تلو الأخرى. حاولت إقناعه أن ياء التملك لم تعد له، ولم يعد يليق به أن يكرر ما يقوله البلهاء والمعتوهون والمساكين وقليلو الحيلة. لم ينفع (خير البلاد ما حملتك). لم تقنعه فكرة أن بلاد الله واسعة. “إذا كنت أنا أهرب وأنت تهرب وأصدقاؤنا يهربون، فهذا يعني أننا نترك البلاد للأوغاد” “لنتركها لهم. ما الذي تبقى منها؟ في القريب العاجل سنكتشف أننا كنا فائضين في هذه البلاد الطاردة” في المستوى المخفيّ من الحقيقة فإن ما كان يخيفه كان يخيفني أنا أيضا. سأفقد المكان الذي هو من حقّي لأكون رقما، مجرد رقم في كل مكان أذهب إليه. “سأكون مواطنا” “ولكن المواطنة ليست الأصل” “معك حق. سأستعيد كرامتي” “وستفقدها، كونك لاجئا. لن تربح إلا الشفقة” في السنتيمتر الأخير لن يغلبني. كانت حقيبتي تلامس الباب وجواز سفري في جيب معطفي وكان مشهد بيتي يؤلمني. أنقذتني الساعة حين دقت. الخامسة فجرا. موعد حضور السائق الذي سيقلني إلى عمان. على عجل حملت حقيبتي وفتحت الباب ولم ألتفت. لقد انسحبت من النشيد كله. في تلك اللحظة صرت الأغنية التي تبحث عن كلماتها المنسية. لم أحمل معي حجرا من شارع الموكب ببابل، ولا دمية سومرية ولا خنما أسطوانيا. كان ثغاء الخراف المطيعة قد ملأ جسمي قرفا واشمئزازا.
لم أقل له وداعا. قبل أن يرتقي المؤذن سلالم الملوية، قبل أن يخرج الديك رأسه من القن، قبل السلام الجمهوري والنشيد الوطني، قبل سورتي الفاتحة والإخلاص خرجت وأنا أنظر إلى السماء باستماتة رجل يؤمن أن الله سيكون معه. فجأة أرى صاحبي، بعد عشرين سنة وهو كما تركته على الأريكة الخضراء. لم يكبر يوما واحدا. ولا ظهرت تجعيدة واحدة تحت العين على الأقل. بظهر مستقيم مشى وبساقين قويتين وذراعين تحتفيان بالهواء. لم أر ظهره من قبل. لم أنصت إلى وقع قدميه وهما تضربان الأرض بثقة.
في الطريق إلى البيت انحرف خيالي بي إلى الحكاية ونسيت خسارتي.
صار لديّ ما أرويه لزوجتي. سنتسلّى بخبر، لو انهمكنا سنوات في البحث عنه لما استطعنا استخراجه طازجا. سأقول لها “حدث وأن التقيت بالشخص الذي كنته قبل عشرين سنة. ذلك الشخص الحالم الذي تركته في بيتنا مصرّا على البقاء في الوطن. هل تذكرينه؟” تذكره جيدا، وتلومني لأنني كنته. كنت المستسلم لبلاهة أفكاره وفوضى خياله. لم تعد اليوم تتحدث عن الزمن الضائع. لقد تساوت قوتا الندم: بين ما كنّا عليه وما نحن فيه. “لن أندم على ما خسرت ولن أندم لأنني لم أربح”، من وجهة نظرها فإن المعادلة تقيم خارج ميزان الربح والخسارة. لم تعد تلك البلاد تصلح للعيش. فكرة ساذجة غير أنها تلخّص علاقة الإنسان بالأرض التي يقيم عليها. لن يكون في إمكاني أن أجبرها أن تكون وطنا وهي التي فشلت في أن يكون مأوى آمنا بالنسبة إلى الملايين. ستكون تلك البلاد محض مساحة على الخارطة العالمية. نقطة ضوئية عمياء تعذب أثناء الطيران. من فرانكفورت إلى أبو ظبي قال الطيار “نحن الآن فوق العراق” سأصبر على جملته التي تمر في ثانية، غير أن العراق طويل إلى يوم القيامة. إلى يوم يبعثون. تمر ساعة ولا يزال العراق تحتنا. تعذبني فكرة أن أراه من فوق كما لو أنه عبارة عن يابسة تحجبها الغيوم. أردت أن أقول لجارتي الآسيوية “انظري تحت. وطني هناك” ترددت. ما معنى جملتي؟ ما المناسبة؟ لتكن بلادك تحت، كل بلدان الدنيا تحت. ما الفرق وما المدهش؟ ما من خبر مفاجئ. بالنسبة إلينا، نحن الاثنين تبدو الحكاية مختلفة.
بالنسبة إليّ فقد كان هناك شعر كثير في الحكاية.
لن يرسم أحد أحدا. وقف فيلاسكز في مرسمه وكانت الطفلة الأميرة تلهو. هل علينا أن نصدق أنها جاءت لتُرسم؟ لتكون موضوعا للوحة؟ في عصر فيلاسكز لم يكن هناك مواطنون. لا فيلاسكز ولا الأميرة. غير أن الرسام الأسباني رسم بقوة الجمال. لا خيانة. البلاد التي جمعتهما، فيلاسكز والأميرة لا تزال موجودة. غير أن البلاد التي جمعتني بذلك الشاب لم تعد موجودة. لقد هربت من صورتها أولا. ومن ثم هربت من معانيها. سيضحكون علينا مرة أخرى: بلاد ما بين النهرين. موطن الحضارات. نبع الملل والنحل. آخر امبراطوريات العرب والمسلمين. بيت الحكمة حيث التقت اللغات واستعادت بابل مكانتها عاصمة للعالم. ولكن الصورة تخون المعنى. المعنى يخون الصورة. ما من جسد للّفظ، وما لفظ للجسد. لقد صرنا كما لو أننا نؤلف معاجم لما يمحى. أرى الصورة على الجدار وحين ألتفت عنها تختفي. أما أن تنسى الجدار وأما أن ترى في الجدار ثغرة، هي في حقيقتها نوع من الأمل. عليك أن تكون متفائلا. يا لقسوة ذلك التفاؤل. رخامة هي شاهدة قبر تقرأ من جهتين: ولد ميتا ومات قبل أن يولد. أيهما نصدق؟
“جلست في حديقتك” أقول لجدتي. كانت سينما النصر الصيفي تعرض أفلاما. “كاوبوي؟” تتساءل جدتي. لم تر جدتي فيلما واحدا، غير أنها تعرف أخبار ناتالي وود وكلوديا كاردينالي وجينا لولا بريجيدا ومارلين مونرو وصوفيا لورين وبريجيت باردو. بالنسبة إليها كنّ نساء واقعيات خارج عتمة السينما. “لكل واحدة منهن حكاية لم تروها بعد” كانت تقول لعمي صبري الذي كان متحمسا لرواية قصة الفيلم الذي رآه قبل ساعتين. بعد سنوات قلت لسيدة رأيتها للتو في إحدى القاعات الفنية بدمشق “كأنّي أرى كلوديا كاردينالي” ابتسمت السيدة مسحورة بالتعبير، غير أن خيالي وقد أسرته تلك السيدة التفت فجأة إلى المكان الذي تجلس فيه جدتي وصار يتودد إليها. “هل ترين حفيدك؟ إنه يقلدك”. انتبهت السيدة الدمشقية إلى أني كنت مشغولا عنها، فتركتني مرتبكة. في مواقع كثيرة خذلتني جدتي. لا تزال تقنياتها تأسرني حين أكتب. ولكنها تفسد عليّ محاولاتي حين أرغب في العيش، وحيدا كما أنا. كما أرى نفسي في المرآة، رجلا مسنا لا يصدق صورته في المرآة. جدتي تضحك. “لا تزال صغيرا” سأقول لها إنك تقصدين الشاب الذي بقي هناك ولم يغادر البلد. تضحك أكثر “هذه لعبتي. لن تكون ماهرا أكثر مني في استخراج أشكالها. كنتَ هناك ميتا وأراك الآن هنا حيا. هذا خبر عظيم بالنسبة إليّ. أنت كما أراك طيبا ووديعا وصالحا لكي تكون حفيدي”.
لم أخبرها بأنني أصبحت كاتبا. ستقول لي “أكتب فيلما لكلوديا كاردينالي”.
خدعتني جدتي نشمية.
صارت واقعية حين تعلّق الأمر بمصيري. سيكون عليّ أن أذهب إلى هوليوود كما لو أني نورمان ميلر لأكتب سيناريو فيلم مصمم على قياس جسد كاردينالي، لأنها المرأة الوحيدة في الأرض التي في إمكانها أن تهب المرأة معنى أن تكون موجودة باعتبارها أنثى. واقعية جدتي تمس الأرض. تلاحق القدمين. الأنوثة كما لو أنها لم تكن من قبل. ستريك تلك المرأة المجال الحيوي للأنوثة. يمكنني أن أتخيل واقعيتها وهي تطيح بي. “معا سنكون هناك” تقول لي وهي التي لم تر فيلما واحدا في حياتها. كانت تتخيل حياتها مصورة على شاشة السينما. كانت كلوديا كردينالي هي جدتي الحالمة.
II
“عش حياتك”. لا أتذكر من هو أول مَن قالها لي. في أوقات كثيرة كنت لا أشعر بقيمة تلك النصيحة. أو بالأحرى لم أكن أعرف كيف يمكن أن يعيش المرء حياته بالمعنى الذي تنطوي عليه النصيحة. في دورة الانهماك اليومي بتفاصيل العيش ينسى المرء أين تقع حياته. هل هي مجموعة الخيوط التي يتشكل منها نسيج أفعاله وأقواله، صداقاته وعداواته، حالات الصفاء والنكد مجتمعة، جولاته بين المدن والغابات ولحظات تأمله الساكنة أم أن حياته تقع في مكان منعزل، وحيدة تتأمل ما يقوم به؟
كنت جالسا في غرفة الانتظار بالمركز الصحي حين رأيت امرأة أجنبية ترتدي ثيابا رياضية تقترب من جاري وتلقي عليه بالعربية السورية تحية جافة، رد عليها الرجل بجفاء من غير أن يظهر حماسة لاستئناف حديث انقطع. ومن غير مقدمات صارت المرأة تهذي وهي تشكو أحوال الغربة والعزلة التي تعيشها فلم أتابعها، غير أنّ أذني التقطت جملة واحدة كانت بمثابة خلاصة كل الهلع الذي تعيشه تلك المرأة. قالت “كلما أقف على شرفة البيت أفكر بالقفز منها. يوما ما سأفعلها” يوما ما ستقفز تلك المرأة الرياضية من الشرفة، لتغادر حياتها التي لم تعشها. وهي لا تعرف أنها ستكون يومها وحيدة أكثر مما توقع.
“لم تعش تلك المرأة حياتها كما يجب” جملة ميسّرة نقولها ونمشي. الجثة على الرصيف. لقد رأينا عشرات الجثث على الأرصفة. شاشة التلفزيون لا تكف عن تزويدنا بمئات الصور لبشر تحوّلوا إلى جثث مجهولة بالنسبة إلى كل الجالسين في بيوتهم المطمئنة في انتظار النعاس. أولئك البشر، أتراهم لم ينتصحوا فلم يعيشوا حياتهم أم أن القدر لم يهيّئ لهم من يقدم لهم تلك النصيحة المجانية؟ لقد عاشوا حيواتهم مضطرين، عاجزين عن اتخاذ القرار الذي من شأنه أن يحسم موقفهم من حياة لا تستحق العيش: القفز من الشرفات. تخيلت عملا لم يرسمه البلجيكي رينيه ماغريت. حشود من الناس تقفز من الشرفات والنوافذ، من غير أن تصل إلى الأرض. لقد رسمهم من قبل بقبّعات ومظلات وسط الفضاء. في لوحتي المتخيلة سيرسمهم وهم يتجهون إلى الأرض. لن يكون فعل التحليق مقصودا لذاته.
هذه المرة لن يكونوا ملائكة.
لا تحتاج تلك المرأة إلى من يخفف عنها عبء ما تعيشه، بل إلى من يحثها على تنفيذ خطتها. سيكون عليها أن تعيش التجربة كاملة. الفصل الأهم من حياتها. تلك هي مأثرتها الوحيدة التي ستذكر بها. في البلدة المجاورة لبلدتي وقف شاب أمام قطار ليؤكد أنه قد عاش حياته كلها ولم يبق لديه ما يفعله سوى أن يغلق الباب بعنف. ولكن لا أحد في إمكانه أن يكون على يقين كامل من أنه قد عاش حياته مثلما هي تماما. “عشنا ما تيسّر منها” نقول باستسلام يشوبه قدر من العناد. كان بابلو نيرودا ذكيا كالعادة حين اختار عبارة “أشهد أنني قد عشت” عنوانا لمذكراته. لم يكن هناك شاهد آخر. نيرودا هو الشاهد الوحيد على أن الشاعر التشيلي قد عاش حياته حقا.
ربما عاشها من خلال الشعر. من خلال السياسة ربما. علينا أن نخفف عن الحب ضجره فنقول إن الرجل عاش حياته عاشقا. كتب قصائد عظيمة، كانت المرأة موضوعها. غير أن الحياة كانت دائما أقل صخبا من الشعر والسياسة وحتى الغزل. الحياة في مكان آخر. آهة رامبو الشقي وهي تنزلق مثل ضربة ملعقة على صحن فارغ. كل هذا الدويّ من أجل حياة لم يعشها أحد.
في مدينة تاريخية اسمها بغداد التقيت ذات نهار برجل تاريخي هو الآخر. كانت مقهى البرلمان تعج بالزبائن وكان الرجل سعيدا بكل ذلك الإهمال الذي يُحاط به. “لا أحد يعرفني. ما أسعدني” كان يرتدي بدلة أنيقة تعود إلى عقد الأربعينات. “قابلت هتلر وأنا أرتديها” قال لي بعد أن رأى نظرتي وهي تنزلق على بدلته التي لا تذكّر بالأزمنة السعيدة. تخيلت صوته القديم يوم كان يظن أن العالم كله صار يتثاءب ضجرا من الحرب. “لقد عشت حياتي باعتبارها خطوة قادمة. تزوجت نساء كثيرات وأنجبت ما لا يُحصى من الأولاد والبنات وشربت أغلى أنواع النبيذ وكان الكافيار مزتي ونمت في أرقى الفنادق، غير أنني كنت أنتظر اللحظة التي يمكنني فيها أن أعيش حياتي. الكون نائم بين صيحتي ديك” كان ذلك الديك يجلس إلى جانبي وهو ينظر إلى واجهة جامع الحيدرخانة بضجر.
كان عليّ أن أتذكر الشخص الذي قال لي ذات مرة “عش حياتك”.
تسقط فراشة من الغصن. “أتراها ماتت؟” ما هذا الدور التعيس الذي ألعبه في حياة الكائنات. شاهد موت كان يفكر قبل لحظات في الذهاب إلى بروناي ليسأل سلطانها “هل عشت حياتك؟”.
لو أنها أنصتت، تلك الحياة المسرعة مرة واحدة لما يمكن أن أقوله. لو أنها أبطأت قليلا من خطواتها لكنت أجلس بين قدميها مثل قنفذ. لو أنها تخلت عن الغصن لما ماتت الفراشة. سيضحك سلطان بروناي. بين القنفذ والفراشة هناك أكثر من حياة، في إمكانها أن ترى النور وتغادر بخفة. يتخطّى الأمر الموت المباشر. هناك من يؤمن أنّ حياته ما هي إلا مجموعة من الحيوات وليست مجرد حياة واحدة. أنا أتكاثر من خلالي. موهبتي الفريدة من نوعها هي التي تحفظ لي القدرة على البقاء في منأى عن المصائر العاثرة. سأنام وحيدا مثل ملك على سرير يقع قريبا من شرفة تطل على الجهة الأخرى من الكون. لا يابسة هناك. لا مياه. فقط الحياة باعتبارها إرثا إلاهيا. في ذلك الفراغ الكوني سأرى كائنات كثيرة، سيكون من الصعب عليّ العثور على صديقي القادم لتوّه من برلين. ببدلته الرمادية عينها أراه واقفا يعدل نظارته. سيقول لي “التقينا سابقا. أين؟ ذكّرني” لن يصدقني حين أخبره أننا التقينا في بغداد. بالنسبة إليه فإن التاريخ لا يُعاش مرتين. الحياة كذلك. “لقد كنتُ هناك ذات مرة، يومها لم تكن أنت مولودا، ولأن هتلر صديقي لم يصل إلى بغداد فإن نظريتك ليست سوى محض خيال”.
لم تكن حياتي إلا اختراعا.
سأصدق النظرية التي تقول إننا نضع خطوة خيالية بين خطوتين واقعيتين. قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. الخطوة الخفية التي لن تكون نافعة لأحد بعينها، ربما ستمشي بنا في المسافة التي سيكتمل من خلالها معنى الحياة. المتر الناقص الذي لا يعرف أحد أين يقع هو الذي يدفعني إلى البحث عن تلك الخطوة الفائضة. لا بأس. كانت لديّ حياة وأهملتها، تركتها في المطبخ، تحت منضدة الطعام، في الوقت الذي كنت فيه أودّ القفز من شرفة البيت. كنت أرغب في التحليق تشبها بكائنات ماغريت ولم أكن قد التقيت بعد المرأة السورية التي ترغب في القفز من شرفة بيتها، رغبة منها في استرجاع ما تبقّى لديها من شجاعة.
الآن في هذا البلد البارد الذي أقيم فيه يمكنني أن أرى في كل نشاط شتوي نوعا من الإلهام. كان ذلك الشاب الذي وقف أمام القطار باحثا عن الدفء، عجزت الإنسانية عن حمايته فسار بقدميه إلى المعجزة. سأتأمل البدر لكي أكون في نهاية كل شهر قمري نبيا. “كان كل شيء واضحا” قال سائق القطار “غير أن القطار لا يقف بيسر” كانت محاولة.
بالنسبة إلى سائق القطار فإن حدثا مؤسفا لن يعطّل مجرى حياته. هنالك فرق كبير بين أن يجلس المرء وراء مقود قطار وبين أن يقف أمام القطار. غير أن سائق القطار سيكون مضطرا إلى أن يأخذ ذلك الشاب إلى أحلامه. هناك حياة قد سحقتها عجلات القطار الذي كان يقوده. بطريقة أو بأخرى فإن معنى القاتل سيتحقق من خلاله. في اللحظة التي رأى عجزه عن إنقاذ حياة صار على سائق القطار أن يحمل على عاتقه عبء حياتين: حياته وحياة الشخص الذي قتله. سيلوم القدر لأنه اختاره لكي يكون قاتلا، لنقل شاهدا على القتل. ستهبه تلك الحياة التي سيعيشها بدلا من ذلك الشاب الكثير من الأسرار. “لمَ اخترتني شاهدا على موتك؟”.
ربما يسأل المرء حياته بالطريقة ذاتها “لمَ اخترتني لأعيشك؟”.
كنا اثنين دائما. أنا وحياتي. حياتي التي لم يعشها أحد سواي وهي في الوقت نفسه الحياة التي لم يعشها أحد. لقد تذكرت أن أحدا ما قال لي يوما ما “عش حياتك”، ولم أكن حتى تلك اللحظة أفكر إلا في الظلم الذي يمكن أن تنطوي عليه فكرة أن يحرم المرء من أن يعيش حياته. أمر طبيعي أن يعيش المرء حياته. ولكن على مستوى التنفيذ الواقعي لن يكون حقيقيا دائما. غالبا ما نحيا خارج الحياة التي قدّر لنا أن نحياها. لا تهمّني هنا المصائر المجانية، سأذهب إلى الجوهر. لقد تركت ورائي حياة طازجة، من غير أن أمد يدي إلى فاكهتها. هي حياتي التي لم أعشها.
كانت امرأة الشرفة لا تزال جالسة في مكانها فيما كان جاري قد اختفى.
“هل أنت يوناني؟” سألتني.
“لا. أنا عربي” أجبتها.
“إذن سمعتني وأنا أحدث الرجل الذي كان يجلس إلى جانبك عن رغبتي في القفز من الشرفة. طبعا أنا كنت أمزح. ولكن هل تشعر بالسعادة هنا؟”.
“أين؟”.
“في السويد”.
“لا يمكنني أن أحكم بيسر. الأمر يعتمد على معنى السعادة”.
لم تعجبها جملتي فزمّت شفتيها بطريقة مبتذلة. يبدو أنها كانت تمنع كلمات من الخروج من فمها. عادت لتقترب مني.
“ولا مرة فكرت بالقفز من الشرفة مثلا؟”.
“ولا مرة” ضحكت.
“عجيب”.
اقتربت مني أكثر وهمست “حضرتك خيالي بالتأكيد”.
“سأكون واقعيا من أجلك” أعجبها ردّي فجلست إلى جواري.
قالت “في البدء أعجبتني الحياة في هذا البلد. هدوء وعصافير وناس تمر بخفة وبحيرات وبطّ، غير أنني مع الوقت بدأت أفقد أعصابي. ما من شراكة. كل شيء ورقي. حتى في المقابلات الرسمية كنت لا أرى سوى الشفقة في عيون من تقابلني. ثم ما معنى أنك كلما ذهبت إلى لقاء رسمي تجد امرأة في انتظارك؟ أنا أكره أن أتحدث إلى النساء. لقد صرت أشعر بالسأم. كانت القرية في سوريا واسعة، أشعر أن السويد ضيقة”.
في تلك اللحظة ظهر طبيبي.
“سامحيني” قلت لها ومضيت.
III
“أغلق عينيك لترى”. كانت الموسيقى تنبعث من العشب خضراء. تعود يدي مبتلة كلما مددتها إلى العشب. أنصت إلى ياسر صافي وهو رسّام سوري. كان يحدثني عن أشياء تقع، من غير أن يكون لها معنى. أسأله عن المعنى الذي يفكر فيه. يتأمّلني بصمت وهي طريقته في الصداقة. كانت وحوشه لا تزال نائمة. “لقد أحضرتها لتوي. لم تنم منذ ليلتين. سيكون نومها متقطعا لأنها تشعر بالغربة”. سأنام إذن ومن حولي كائنات تحاول النوم. كائنات بريئة سيكون نومها متقطعا. لم يكن في إمكان صديقي أن يطردها. فهو يعرف أن لا بيت لها، لا في الشام وحدها، بل في العالم كله. كائنات تائهة، جزء عظيم من خبرتها في الحياة يكمن في ذلك التيه. لقد جعلته تلك الوحوش خادمها، بعد أن كان خالقها. “ولكنها ليست وحوشا إلا بالمعنى الاستعاري” يقول ياسر ضاحكا. “صدقني إنها أكثر رحمة منا”. يضيف. “في الصباح ستكون صديقها” وهذا ما حدث فعلا.
لقد حلمت بأنني استرجعت حياتي التي تركتها تتدحرج مثل قبعة في يوم عاصف.
كان عليّ أن أعيش حياتي وحيدا، باعتباري مالكها. وهذا ما لم يحدث.
“يتعلق الأمر بإعادة تأهيل كائنات لامرئية” قلت له مازحا. ولكن شيئا من هذا القبيل كان يحدث دائما. في الرسم كما في الحياة يبدو ياسر مسيطرا على توتّره ومن ثم على علاقته بتلك الكائنات المتوترة، شكلا ومضمونا. يصل ياسر إلى الصورة لا بحثا عن الفكرة بل تلذذا بما يمكن أن يعنيه العيش في فضاء تلك الفكرة. يلذ لياسر أن ينافس كائناته، يزاحمها، يكيد لها بل ويغرر بها أحيانا، لكن من غير أن يحرمها حرية الحركة. لهذا تبدو الصورة كما لو أنها مقطع من حياة، التقط فجأة، من غير أيّ تمهيد مسبق. هكذا يستخرج صديقي الرسام من البداهة حكايات لا تزال ناقصة. وستبقى كذلك، بعد أن تكون قد احتلّت مكانها على سطح اللوحة. فما لم يكتمل في الحياة لن يجد له في الرسم ما يعينه على الوصول إلى الكمال.
لم أغلق عيني، حسب نصيحته فيما كنت أتساءل: من أين يستخرج الرسام كائناته؟ ألقيت اللوم عليه بدلا من أن ألوم نفسي. أما كان حريا بي أن أسأل نفسي أولا. لقد عبدت طرقا بلهاث خطواتي الراكضة، ذهابا وإيابا، بين زمنين متخيلين. أمد يدي بيقين إلى دمية كنت قد رأيتها فتقبض يدي على هواء. ما من دمية. لا ينفع القول إنني رأيتها من قبل. وعليّ في الوقت نفسه أن أصدق أنني رأيتها. لا بد أن تكون تلك الدمية موجودة في مكان ما. لا تزال نظرتها تلتهم ما أضعه في صحنها. دمية تأكل.
تخطيط: حسين جمعان
“قطعة البازلت الناقصة تهزم الحدس.
“هل قلت الحدس؟”.
الحدس هو الذي يدفعنا إلى اختبار حواسنا مرة أخرى. سنخطئ الطريق ذهابا إلى بلد الأشباح. هناك تعيش الكائنات المهمشة، المحرومة، المضطهدة، المنسية، المعذبة مثلنا تماما. أصدقاؤنا في النفي، غير أنهم كانوا أذكى منا حين اختاروا أن يختفوا. يومها انتهت الشفقة. ربما الألم لا يزال يسري في تلك الأجساد الشفافة. سيقال إنك تستقصي أحوال أرواح هائمة. منذ فجر الخليقة كان هناك هواء تعبئه الطبيعة بالآهات والهمسات المغدورة والتأوهات المأخوذة بنغمها المعذب. الإصبع الذي يشير إلى الخطأ في الحواس. كانت هناك يوما ما حقيقة مثالية. أعتقد أن الوحوش الصغيرة ليست راضية عمّا يفعله صديقي بها. صحيح أنه لا يرغب في ترويضها، غير أنه يضعها في جنات بديلة. أتخيل لو أنها نجحت يوما في اصطياد صديقي، ما يتيسر لها اصطياده منه، لما وضعته في حديقة مسيجة، من أجل أن يكون موضوع فرجة. شرفها الحربي يحتّم عليها أن تلتهمه، فيكون حينها نوعا من الذكرى.
لتتذكر أنها التهمت يوما إنسيا.
كل يوم نلتهم حيوات متعددة، كانت تجمح بأحلامها، مزودة برؤى غدها لنستولي من خلالها على طاقة متخيلة. (أوميغا 3) هو خلاصة أرواح هائمة، زيتها وأثيرها وعصارة خيالها. تبدو المطاعم البحرية مثل مجازر، تتكوم الكائنات البحرية في خزاناتها الزجاجية بأناقة تفصح عن إهمال مقصود لمعنى فكرة الخلق. هي ذي الوحوش المأسورة، ومن ثم الميتة وقد استسلمت لخيالنا. سيعيننا الحدس على ارتكاب المعصية. معصية أن نكون واقعيين فننظر بإنصاف إلى الحياة باعتبارها حقا لكل الكائنات.
القوقعة تغلق فمها على إصبعي. ما الخطأ لو أنها جرحتني قبل أن ألتهم محّارها؟
أصدق نصيحة صاحبي. أغلق عينيك لترى.
القوقعة عمياء، السمكة عمياء، الضفدع أعمى غير أن الموسيقى التي تنبعث من العشب ليست عمياء. إنها تجبرني على الاعتراف بأن الحقل واسع. البحر واسع. الصداقة واسعة. الأرض واسعة. كيف يمكننا أن نكون أسيري خطوات، لو سقطت أقدامنا عليها الآن لما اتسعت لها؟ لقد ضاقت الخطوات فيما كبرت أقدامنا. لقد كان لنا في لعبة الظل درس عميق، غير أننا لا نتعلم. ولكن صديقي الرسام يريد لوحوشه أن تحيا بدلا منه. لقد قرر أن يهبها لوعته، وهي زاده في حياة صار هو مادة عملياتها المختبرية.
حدثني صديق عراقي يقيم في أبو ظبي عن الرحمة. حينها تذكرت أن الله كتب على نفسه الرحمة. وبهذا نكون أقل. أدنى من أن نوصف بالرحمة. على الأقل من أن نتمكن منها. بالنسبة إلينا، نحن البشر فإن الرحمة ليست فعلا بطوليا فحسب، بل هي البطولة زائدا التنزه عنها، بمعنى التخلي. مسحة يد المسيح التي تشفي من الأمراض، الجبل الذي تصدع من غير أن يغادر مكانه، الخيط الذي يهب الزمن نسيجا واحدا، فلا يعود هناك سوى شكل واحد يتجلى من خلاله المستقبل. وهذا ما قاله صديقي الذي كان مختصا بالطب النفسي. بالنسبة إلى الإنسان الإيجابي ما من ماض، ما من حاضر. هناك المستقبل وحده. الرحمة هي مخ المستقبل. بشرط أن نكون إيجابيين. ولكننا ملأنا حياتنا ظلما يا صديقي. وإذا ما كان صديقي الرسام قد أنقذ بقايا وحوش هائمة حين أسرها فإننا لا نكف عن تأليف دعابات للتعبير عن تفردنا بالملكية. هناك إرث كوني هائل السعة يعاني بسبب بلاهتنا، خيالنا المريض بالقوة، ضعة أخلاقنا.
ولأن الطبيعة لا تزال تغدق علينا من نعمها وحسناتها فإن حواسنا لا تزال تنعم بالخيال. لن يكون هناك ربيع ماض، هناك دائما ربيع مقبل. الفصول لا تستنسخ أحوالها، كل فصل جديد له موهبته الخاصة في التجلي. في إمكان الرسم أن يكون كذلك. الكتابة في إمكانها كذلك. بهذا المعنى فإن المسافر، أيّ مسافر سيكون عليه أن لا يثقل نفسه بالحقائب، هناك دائما حقائب جديدة في انتظاره. عليّ هنا أن اعترف أن مفهوم حقيبة المسافر قد تعرّض هو الآخر لنوع خطير من الإزاحة. لقد صرت أجد في غرف الفنادق كل ما أحتاج إليه من مناشف وأدوات حلاقة ومعجون وفرشاة أسنان وخفّ بيتي ومساحيق لترطيب الجلد وتزييت الشعر، إضافة الى العدة التقليدية من أنواع الصابون. ولكن الوحوش الصغيرة التي استضافها ياسر صافي لا تفكر إلا في عزلتها.
تود تلك الوحوش أن تغلق عينيها لترى.
كنت أسبح في بحر من الجاز، حين تذكرت أن العالم قد تخطّاني. كان مزاجي الموسيقي نوعا من الفرار. “أنا حر في حياة لم يعشها أحد سواي” ولكن هل عشت تلك الحياة حقا؟ أتخيلها حين الكتابة. أنا ملكها وهي البريّة التي تسيل عليها تربيتي العاطفية. كان لديّ ما أفعله، من أجل أن يكون لحياتي معنى. بهذا المعنى فإن صديقي ياسر صار يأسر تلك الوحوش من أجل أن يكون لحياته وقع المعنى.
ولكن تلك الوحوش لم تكن إلا كذبة، اخترعتها أثناء الكتابة وصدقها الآخرون.
لدى ياسر صافي أصدقاء في عالم الغيب، هم مادته التصويرية. هذه هي الحقيقة.
ولكن ماذا عن حياتي؟ هل كانت متخمة بكائنات واقعية؟
هكذا بكل بساطة انتقل إلى حياتي.
يُخيل إليّ أن حياتي لم تصنع من مادة صلبة أو متجانسة. دائما كنت أقع على مواقع هشة، لا يمكنني إخفاؤها أو التغاضي عنها. وإذا ما حاولت ذلك فإن محاولتي كانت تأتي دائما متأخرة. وعلى مستوى آخر فإن التناقضات التي تنطوي عليها ذائقتي الجمالية كانت تصدم الآخرين (الغرباء طبعا) كما أتوقع. فعلى الرغم من شغفي بالموسيقى ذات المنحى الرفيع، الغامض والمتسامي، كما هو الحال في تعلقي بموسيقى باخ، فإن أغنية شعبية قادمة من ستينات العراق قد تطيح بخيلائي وتجعلني أبكي بعمق. وكما أرى فإن حياتي ظلت تمد بصيرتها في تلك الطرق المتشعبة التي كنت أمشي فيها طوعا، بل بشعور عظيم من النشوة. حتى الكائنات التي ارتبطت بها من خلال صداقات، هي في حقيقتها خزائن عاطفية وفكرية غاصة بالرؤى، كانت لا تتسم بالاستقرار الفكري المبنيّ على أساس الإيمان العقائدي المتين.
كان هناك يأس، قوامه شعور عميق بعد الانتماء.
لم أكن أميل إلى أن أكون ابن مرحلة بعينها. وإذا ما كان قد قُدّر لي أن أظهر أدبيا في مرحلة السبعينات من القرن الماضي، فأنا في قرارة نفسي لم أكن النموذج المثالي الذي يمكن أن يكون ممثلا لتلك المرحلة. كنت أفكر بطريقة أكثر تعقيدا بسبب شكوكي في إمكانية الفرد، أيّ فرد أن يكون مرآة لعصره. لقد كانت هناك ثغرات، ما إن أضع يدي عليها حتى أشعر أني قد غادرت زمني، وصرت أتنفس هواء زمن آخر. ولم يكن الارتباط بالمكان ليشكل لي هاجسا مقلقا. في سن مبكرة أخُذت بسحر السفر، فصرت أفرش خارطة أوروبا على المنضدة وأغمض عيني ثم أسُقط إصبعي على موقع في الخارطة، ليكون ذلك الموقع محطتي الأولى في سفرة تستغرق شهرين. غير أنني لسبب أجهله الآن لم أقرر البقاء في أوروبا يومها. الآن لا يمكنني تقييم ذلك القرار. فأنا بحكم تقدمي في السن لم أعد ذلك الشاب الذي ربما قد أخطأ في تقديراته. بالنسبة إليه فقد كان العالم ممكنا ومفتوحا ولم يكن العراق جزيرة معزولة كما صار عليه الحال بعد سنوات قليلة.
كانت الوحوش لا تزال نائمة.
نقرة على جدار الصندوق الخشبي كانت كافية لإطلاق تلك الوحوش إلى الشارع. ولكنها لم تبق هناك. لم تبق في الشارع، بل ذهبت إلى المطبخ لتقيم في صحون الطعام. في كل وجبة يتناولها المرء كان هناك وحش يتسلل إلى معدته. لقد امتلأت أجسادنا بالوحوش. كل خلية من خلايا الجسد تعهدت بتربية وحش صغير إلى أن يبلغ أشده. صار جسد العراقي معملا لإنتاج الوحوش الكاسرة. لم يكن الوقت ليسمح بالأنسنة. الحذر يفسد الحواس. كان التلفت قد صنع معجما بلاغيا اختزل اللغة في مجموعة محدودة من الإشارات. على قاب قوسين أو أدنى من الفقر الخيالي والعاطفي كنا نقف. إلى أن استجاب العالم لدعاء الوحوش فوقع الحصار عام 1991 ولن ينتهي إلى أن تقوم الساعة.
كانت حياتي خشبة رطبة حاولت أن تطفو فوق سطح مستنقع تقيم الوحوش في أعماقه حفلاتها اليومية. لقد حاولت النوم في انتظار أن ينجلي الكابوس، ولكن الزمن كان يمر بطيئا. “قال كم لبثتم” لم تعد أدوات القياس صالحة لكي تنبئ بالحقيقة. بل إن الحقيقة نفسها لم تكن إلا ثغاء خروف ظل طريقه إلى المجزرة. كان هناك من حولنا نداء قيامي يصرخ (عدنا وعادوا). مَن هم؟ لا بل مَن نحن؟ كانت الملحمة تجترح معجزاتها بعيدا عن ذلك النوع من السؤال صورا لقتلى يشبهونني. كان ذلك زمن الأمّهات. سأنتظرك إلى أن يظهر المهدي. تقول الأم وهي تنظر إلى صورة تأكسدت جوانبها.
الأمّهات لم يتأخرن، نحن تأخرنا.
كان هناك سباق بين الأمّهات وبين المدافع. وهنا وقع الخطأ التاريخي. لأن الأمّهات لم يبكين فقد علت أصوات المدافع، وحين كفت المدافع عن الثرثرة توقع العالم أن يتصاعد صراخ الأمّهات. غير أن الأمّهات وقد دهشن بصمت الكون كان لهن رأي آخر. سيظهر الإمام الغائب محاطا بأبنائهن الغائبين. وقفن بين نجمتين، في الدمعة التي تخضع الذئب في ليله الموحش. الصورة من غير فكرتها تكفي. كانت حياتي تمر في محيط تلك الصورة لتكون حياة أخرى. لا يكفي أن أقول “لقد نسيت” لأتحقق من أنني سأكون الآخر الذي أحلم أن أكونه. صحيح أن ذاكرتي قد تهدمت. محيت سطور لتحل محلها سطور جديدة، غير أن خفقة جناحي فراشة في إمكانها أن تظهر كل ما اندرس من السطور الخفية. بهذا المعنى فإنني لا أتذكر لأنني أرغب في التذكر، أو لأن ذاكرتي قوية، بل لأن خيال الكتابة صار يملي عليّ ذكريات عاشها إنسان، بالصدفة كنت أنا ذلك الإنسان. الكتابة هي التي تتذكر، مثلما الألم هو الذي يتخيل.
أتذكر أنني كتبت قصائدي الأولى في دفتر صغير.
ذات سفرة نسيت ذلك الدفتر في قطار.
ومن يومها وأنا أحلم بأن قصائدي التي لم يقرأها أحد لا تزال تسافر.