من المعروف جيدا أنه يوجد أكثر من مئة تعريف للثقافة، وعليه يتعين علينا بادئ ذي بدء أن نحدد ما نقصده نحن بهذا المفهوم تفاديا للبس من جهة وحتى نبلور على ضوء هذا التحديد، من جهة أخرى، تصوّرنا للانعكاسات الثقافية ذات الصلة بمطالب التغيير التي أعرب عنها الحراك الجماهيري السلمي العربي سنة 2011، وتبعاتها على الوعي العربي اليوم.
وعليه نوضح أن الثقافة بالنسبة إلينا لا تنحصر في أنشطة نوعية ذات طبيعة غير بيولوجية يقوم بها أفراد قلائل من ذوي القدرات الخاصة في المجتمع ينتجون على هذا الأساس فنونا ومعارف وأفكارا وابتكارات، بل هي أيضا وعي جماعي له خصوصيته وتأثيره ونتائجه، يتحقق اجتماعيا على مستوى السلوك الفردي والجماعي، وعلى مختلف مستويات الحياة داخل المجتمع، في السياسة والأخلاق وفي مختلف المعاملات. هذا لا يعني أن الثقافة هي بالضرورة واحدة في المجتمع أو تؤسس لوعي واحد، ولا بأنها تتسم بطابع البساطة، فالظواهر أيّا كانت، كما يشير إلى ذلك باشلار عن حق، تتميز جميعها بالتعقيد، فما بالك بالثقافة التي هي في بعد هام منها نتاج تراكمات وموروث تاريخي شعوري ولا شعوري يضرب عمقه -بدرجات تتفاوت حسب الأمم- في تاريخ المجتمع بشتى تجليات هذا التاريخ وخصوصياته وتجاربه ومخلفاته، تضاف إليه، وفق ديناميكية ثقافة المجتمع المعني، خبرات ومكتسبات الحاضر، ليشكل كل ذلك الشخصية الفردية النمطية السائدة وكذا وعي الأفراد داخل الجماعة وسلوكهم داخلها. على أن هذا لا يعني بأن الثقافة تفعل فعلها في الأفراد وتحدد وعيهم وسلوكهم دائما على نسق واحد، بل يمكن القول بأنها تؤثر فيهم وفق استعداداتهم الفردية وأوضاعهم الاجتماعية والطبقية، مثلما أن الوضعيات الاجتماعية والخصوصيات الفردية تؤثر بدورها في وعي الأفراد وفي سلوكهم وكذا على الجماعات وعلى الثقافة ككل، مما يضفي على الثقافة طابع الديناميكية.
ولكن الثقافة وإن تميزت بطابع التعقيد ككل ظاهرة اجتماعية، كما سبق وأن أوضحنا، إلا أنه يغلب عليها في ذات الوقت نمط عام يظهر في مختلف الأنشطة والمستويات داخل المجتمع، وهو نمط ذو مسئولية كبيرة في تحديد فعالية وخصوصية المجتمع ككل، وكذا في رسم وعي وسلوك الأفراد، وذلك على مختلف المستويات والأصعدة.
خيبة الوعي
وككل حدث تاريخي كبير لا يمكن للحراك الجماهيري الذي ارتبط بالربيع العربي ألا يخلّف أثره على الوعي بغض النظر عن نوعية هذا الوعي وطبيعته، إلى جانب أنه ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار كون هذا الحراك قد انتهى إلى ضده، أعني إلى ظهور ثورة مضادة، مدمرة، ساحقة، حالت دون أن يحقق الحراك الشعبي أهدافه التي قام من أجلها، ذلك أن عامل الزمن يلعب ولا شك دورا مهما في تكريس القيم الجديدة أو على العكس العزوف عنها. وهذا العامل الزمني لم يتوفر لمسعى التغيير كما أوضحنا، وكما يمكن أن نستدلّ على ذلك مثلا بما جرى في مصر، حيث تم إجهاض التجربة بعد عام واحد من حكم جاء إثر انتخابات حرة ونزيهة لأول مرة في تاريخ البلد.
إلا أنه لا بد من التوضيح في ذات الوقت بأن ما يغيّر الوعي ويجدده ليس بالضرورة هو الثورة، بل ربما الصحيح هو أن حدوث تغيّر سابق في الوعي، تحت تأثير عوامل وظروف معينة، شرط تمهيدي ضروري لحدوث الثورة أو الانتفاضة أو أيّ حراك آخر من هذا القبيل، فالوعي هو الذي ينتج الانتفاضة والاحتجاج والثورة، وليس العكس، لكن هذه الأخيرة إذا ما قيّض لها النجاح والاستمرار وجسدت قيمها التي قامت في سبيلها، فإن ذلك سيؤدي إلى توسيع قيم الوعي الجديد أو تكريسها وتعميق تشبّع الناس بها، فإذا ما انحرفت عنها أو لم تحقق ما وعدت به أو اصطدمت بثورة مضادة أو قمع شديد أو تحولت إلى فوضى أو حرب أهلية، كما حدث لجلّ ثورات الربيع العربي للأسف، فقد ينقلب الوعي إلى ضده، متحولا إلى وعي مضاد ومُحبَط.
وهذا ما حدث في الحقيقة لثورات الربيع العربي إذا ما احتكمنا مثلا إلى استطلاعات الرأي العام العربي التي قام بإنجازها “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”. فقد أظهر استطلاع أنجزه هذا المركز سنة 2012-2013 حول مدى سلبية أو إيجابية الثورات العربية بأن61 بالمئة من المواطنين العرب المستطلعة آراؤهم كانوا يعتبرونها إيجابية، مما يعني أن أغلبية معتبرة من الرأي العام العربي كان متعاطفا آنذاك مع الحراكالجماهيري الذي شمل في تلك الفترة العديد من البلدان العربية.
لكن نفس المركز في استطلاع مماثل يتعلق بتقييم ثورات الربيع العربي يظهر بأن نسبة من صاروا يُقيِّمونها تقييما إيجابيا قد انحدرت إلى مستوى 34 بالمئة سنة 2015، بمعنى أن أغلبية المواطنين العرب باتوا يديرون ظهورهم لثورات 2011، (59 بالمئة صاروا يعتبرونها سلبية). وليس من الصعوبة بمكان بطبيعة الحال تفسير هذا التراجع وهذا النكوص، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحروب الأهلية العربية التي أعقبت هذه الثورات في سوريا وليبيا واليمن وما حدث في مصر من استفحال الفوضى وانتشار العنف والقمع. كل ذلك يفسِّر هذا الانقلاب في الوعي وهذا التراجع في تقييم تجربة الربيع العربي، الشيء الذي يعني أن الوعي في هذه المنطقة أصبح اليوم أقل ثورية مما كان عليه قبل خمس سنوات. وليس هذا بشيء يبعث على الحيرة أوالدهشة فالوعي قبل الثورة وأثناءها وبعدها ليس هو نفسه دائما.
والحقيقة أن إحدى استراتيجيات الثورة المضادة لإحباط مسعى التغيير والتحول نحو الديمقراطية هو خلق الأرضية المناسبة لإيجاد الوعي المضاد، فكان خلق فوضى مستمرة كما حدث ذلك في مصر طوال سنة من حكم جاء عن طريق انتخابات حرة ونزيهة كان بالإمكان الإطاحة به في الأخير بالطرق الديمقراطية، بسبب تهاوي شعبيته، لو لم يكن الهدف الحقيقي من الإطاحة هو إجهاض العملية الديمقراطية برمتها. نفس السيناريو تم التحضير له، وفشل نسبيا وبأعجوبة، في تونس قصد خلق وعي مُحبَط ومضاد للثورة أو تحريف هذه الأخيرة على الأقل عن الأهداف التي قامت من أجلها. ولا شك أن تفاقم الظاهرة الإرهابية، وإن كان أحد أسبابها يتمثل في فشل التحول السلمي نحو الديمقراطية، وفي عوامل أخرى بلا شك، قد حدث أيضا نتيجة السعي الممنهج إلى شيطنة الحراك المطالب بالتغيير وتشويه صورته في وعي الناس بجرّه إلى الظهور في نهاية المطاف كمصدر للفتنة والاقتتال والقضاء على الدولة، ومن ثمّ إيجاد وعي جماعي محافظ راضخ، يقوم على اختيار أهون الشَّرّين، أي الحكم القائم حتى ولو كان فاسدا وقمعيا وفاقدا للشرعية بدل الخوض في الفوضى واللاّأمن، وذلك على نحو يذكّر بما شرّع له بعض أسلافنا من فقهاء الحكام من خلال مبدئهم المعروف القائل “طاعةحاكم جائر خير من فتنة داخل الأمة”.
وقد أظهر استطلاع “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” المذكور آنفا، في طبعته الخاصة بالعام 2015، أن الوعي العام العربي، بالنسبة إلى المواطنين غير المنخرطين في الصراعات العربية المسلحة القائمة، قد أصبح بالفعل أكثر محافظة، والأصح أكثر رضوخا، كما يدل على ذلك كون المستجوبين، حسب الاستطلاع المذكور، يضعون في مقدمة اهتماماتهم وذلك لسنتين متتاليتين “الأمن والأمان باعتباره أهم مشكلة تواجه بلدانهم”، وذلك قبل المشكلة الاقتصادية ذاتها، وأيضا كما يدل على ذلك ارتفاع نسبة التقييم السلبي للثورات، الذي سبق وأن أشرنا إليه، بالرغم من أن تقدير المواطنين للوضع السياسي في بلدانهم حسب نفس مؤشر عام 2015 هو في آن واحد أكثر سلبية منه في الأعوام السابقة (52 بالمئة يقيمونه تقييما سلبيا مقابل 43 بالمئة ممنينظرون إليه نظرة إيجابية).
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن استراتيجية الثورة المضادة أو المحافِظة القائمة في إحدى أدواتها الأساسية على قلب الوعي الثوري إلى ضده من خلال تشويه صورة الثورة، وذلك بربطها بالعنف والفوضى والاقتتال، بجعل بلدان هذه الثورات وأوطانها ومجتمعاتها تدفع ثمنا باهظا إلى درجة إعادة النظر في جدوى الثورة والتشكيك في شرعيتها، لم تنجح فقط، بل إن الثمن الباهظ المدفوع قد تحول إلى أداة كبح أيّ وعي ثوري يريد تكرار تجربة السعي إلى التغيير عن طريق الضغط الجماهيري في مناطق أخرى من العالم العربي. هكذا أدى إذن حراك 2011 إلى نشأة “الوعي” بمدى خطورة الأسلوب الثوري في التغيير في بلدان ذات أنظمة بوليسية واستبدادية كالأنظمة العربية، ناهيك إذا ما تحول إلى نزاع داخلي مسلح.
والحقيقة أن المدى المجنون لتشبث الأنظمة العربية بحكمها واستعدادها للقضاء على شعوبها وعلى تدمير أوطانها من أجل الحفاظ على حكمها كان صدمة كبيرة للوعي العربي. لقد كان ذلك كشفا مروّعا حقا وغريبا وغير متوقع، وفريدا من نوعه في التشبث بالحكم في القرن الحادي والعشرين أماطت اللثام عنه ثورات 2011، بالرغم من أن ارتباط طابع الدموية بالاستبداد واستهتاره بحياة الإنسان وكرامته، قد تجلّى في أكثر من مناسبة قبل هذا التاريخ في الفضاء العربي. غير أن أحد مقاصد القمع والعنف الدمويين غير المسبوقين اللذين أعقبا الانتصار الحالي للثورة المضادة، كان يرمي أيضا ولا يزال، إلى إعادة غرس ثقافة الخوف التي ارتبطت دائما بالحكم العربي والتي تبدو أنها أحد لوازمه، والتي كان قد انتصر عليها الحراك الشعبي لسنة 2011.
الوعي الإصلاحي
لكن بالرغم من كل ما سبق ذكره، ينبغي التوضيح في ذات الوقت بأن وضع الثورات العربية موضع تساؤل ومراجعة لا يعني التشكيك في أهدافها وفي القيم التي قامت من أجلها، بل فقط في طريق تحقيقها، أعني في الأسلوب الثوري لتحقيق التغيير نحو الديمقراطية وما يرتبط بها من مطالب متعلقة بحقوق الإنسان وكرامته ومعيشته. فقد بين نفس استطلاع مؤشر 2015 الذي أجراه “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” أن 79 بالمئة من الرأي العام العربي يرى بأن النظام الديمقراطي التعددي هو نظام ملائم للتطبيق في بلدانهم. وهو موقف يتماشى مع رفض أغلبية هذا الرأي العام للأنظمة الشمولية بمختلف أنواعها، إذ توافق ما بين 61 بالمئة إلى 75 بالمئة من المستجوبين على اعتبار أنظمة الحكم السلطوي أو نظام الأحزاب الإسلامية فقط، أو تلك التي تقوم على الشريعة الإسلامية وعلى نظام الأحزاب الدينية، هي أنظمة غير ملائمة للتطبيق في بلدانهم.
وهذا يعني أن مطلب التحول نحو الديمقراطية لا زال قائما في الوعي العربي وبأن المآل المأساوي لثورات 2011 لم يأت على هذا الحلم، وبأن الأنظمة الشمولية العربية التي لا تزال قائمة أو التي أعادت إنتاج نفسها لا تجسّد إرادة شعوبها، وبأن خيارات الإنسان العربي في المجال السياسي لا تشذ في نهاية المطاف عن مثيلاتها لدى بقية سكان المعمورة. إلا أنه وإن كان يخلق بنا بطبيعة الحال الشعور بالارتياح إزاء هذه المعطيات الأخيرة، فإنه لا ينبغي الوقوع في تفاؤل مفرط، ذلك أنه ينبغي التفريق بين الرأي والوعي، فالرأي لا يتبعه سلوك بالضرورة وهو يتّسم بطابع الآنية والقابلية على التغير، أما الوعي فهو إدراك متبوع بسلوك، وهو يتسم بطابع الدوام، نسبيا على الأقل، ويتشكل كجزء من الشخصية، أي أن الوعي مرتبط بالثقافة، فهل يمكن القول على هذا الأساس بأن هذه النسب تعكس حقا القابلية على السلوك الديمقراطي للمواطنين العرب في حياتهم اليومية، علما أن الانفصام بين القول والفعل تكاد أن تتحول إلى ظاهرة أو “ماركة” مميزة لشخصية الإنسان العربي؟
مهما يكن الأمر، فإن المؤشرات السابقة توحي بأن الوعي العربي قد أصبح وعيا إصلاحيا ما دام صار ينزع إلى التغيير لكن عبر وسائل أخرى غير الوسائل الثورية. هل ذلك يعني بأنه سيتم مستقبلا اعتماد وسائل بديلة لتحقيق التغيير طالما لا يزال هناك، كما مرَّ بنا، رفض للأنظمة ذات الطابع السلطوي التي لا تزال السمة الغالبة لأنظمة الحكم العربي، وطالما أن الطريق الثوري مكلف إلى تلك الدرجة التي رأيناها ولا زلنا نراها؟ وهل أن هذا الوعي الجماعي المُحبَط في الوقت الراهن يعني أن تجارب الحراك المطالب بالتغيير بواسطة الإكراه الجماهيري قد ولّى من غير رجعة؟ الواقع أن أحد دروس تجارب 2011 تتمثل في أننا لا نستطيع التنبؤ بالتاريخ، فلا أحد كان يتوقع تلك الانفجارات الشعبية العارمة التي اجتاحت معظم بلدان العالم العربي.
هذا ما يجعل مستقبل هذه المنطقة في النهاية مفتوحة على كل الاحتمالات، بما في ذلك الوقوع في نوع من اليأس الاجتماعي والسياسي العام الذي قد يؤسس لثقافة الخلاص الفردي ولموت فكرة الوطن ولعدمية مدمرة لا تؤمن بشيء، لكنها قد تشكل في ذات الوقت أيضا أرضية خصبة لحركات متطرفة واعدة بخلاص يقوم على حدّ السيف، كما تفعل بعض الحركات “الجهادية” اليوم، فلئن كانت هذه الأخيرة ليست في المطلق وليدة الإحباط الذي تحدثنا عنه، إلا أن بعضها تعبير عن شيء من ذلك، فالتحول من الوعي الثوري السلمي الذي بلغ أعلى مستوياته خلال حراك 2011 لم يتحوّل في مجمله إلى وعي ذي طابع إصلاحي، بل يمكن القول بأن جزءا منه قد تحول إلى وعي يقوم على الاعتقاد بـأن الحل هو العنف والعمل المسلح، بعدما تكرّس الوعي باستحالة التغيير بالوسائل الثورية أو الديمقراطية أو الإصلاحية.
ما هو الاستبداد؟
ويتمثل أحد إفرازات ما بعد الربيع العربي في إبطال بعض الأوهام المتعلقة بطبيعة الاستبداد، فقد ظهر أن هذا الأخير لا يتجسّد في شخص الحاكم الأوحد بقدر ما يتجسد في النظام الذي يرتكز عليه والذي لا يمثل فيه شخص المستبد غير الجانب الظاهر من جبل الاستبداد. فقد كان الاعتقاد السائد هو أن سقوط رؤوس الأنظمة، التي جثمت على الحكم مدة عقود يعني بداية عهد جديد في العالم العربي قبل أن يظهر بأن سقوط المستبدّ لا يعني بالضرورة سقوط الاستبداد ولا نهايته، ذلك أن هذا الأخير، وعلى عكس ما كان يعتقد، لا يعبّر عنه شخص الحاكم الأوحد ذاته مهما امتلك من سطوة وجبروت، بل هو “منظومة” قبل كل شيء، “منظومة” تنزع إلى حماية نفسها قبل حماية ممثلها أو مؤسسها، بل هي لا تتورع عن التضحية بالزعيم لضمان بقائها وديمومتها. إنها شبكة معقدة ومتشعبة ومتنوعة من العلاقات والمصالح العمودية والأفقية، تشكل ما يشبه دولة داخل دولة، لعل أكثر ما يعبر عنها هو مفهوم “الدولة العميقة”، ذلك المفهوم الذي برز بقوة في فترة الردة على الربيع العربي، دلالة على الدور الذي لعبته هذه “المؤسسات العميقة” في إفشال حركات التغيير، والتي تمثل عقبة أساسية وحقيقية في وجه كل تحول نحو الديمقراطية. فإلى جانب كونها تمثل شبكة من المصالح المترابطة والعلاقات المتداخلة، فهي أيضا ذهنية ترسّخت فيها ثقافة احتكار الحكم وعدم الاحتكام في ممارسته إلى ضوابط أخلاقية أو غيرها، يضاف إلى ذلك ما يشبه العداء والاحتقار الراسخ، الذي تحول إلى طبيعة، للشعب.
الوصول إلى الحكم لا يعني ممارسة الحكم
ومثلما أن دور هذه “الدولة العميقة” بيّن بأن الاستبداد لا يتجسد في شخص الحاكم الأوحد، فقد أظهر كذلك أن الوصول إلى الحكم ولو عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، أمر لا يضمن بالضرورة ممارسة الحكم. فقد بينت مختلف التقارير أن هذه “الدولة العميقة” جعلت الرئيس المنتخب في مصر بعد ثورة 25 جانفي والمطاح به عاما بعد ذلك، شبه مشلول طوال فترة حكمه القصيرة. لقد كان بمثابة جسم غريب عنها، فعطّلته “الدولة العميقة” ثم لفظته على النحو الذي يعرفه العالم أجمع، دون أن يعني ذلك بالطبع عدم وجود عوامل أخرى تضافرت لإحداث هذا المصير.
لا شك أن المآل المأساوي للربيع العربي ليطرح أيضا على الإسلام السياسي أسئلة كبيرة، لقد كان الإسلاميون المستفيدين الأوائل من المطالب الشعبية لحراك 2011، إذ وصلوا إلى الحكم بعدها في أكثر من بلد عربي، لكن هذا النجاح المؤقت كان في ذات الوقت عاملا من العوامل التي أسهمت أخيرا في فشل الربيع العربي وفي مأساة الإسلاميين بالأساس، خاصة في مصر، ولكن دون أن يكون هذا النجاح العامل الأول و لا المباشر في الإخفاق الذي آلت إليه التجربة ككل. أن يكون إسلاميو تونس التابعون لحركة النهضة أكثر توفيقا من زملائهم في مصر، إذ أن الأوائل لا يزالون يمثلون جزءا هاما من العملية السياسية في بلادهم، بينما “إخوان” الكنانة قابعون بالآلاف في السجون أو مطاردون أو مقتولون، أمر قد يربطه البعض، جزئيا على الأقل، بكون إسلاميي تونس أكثر واقعية وأكثر تفتّحا وتفهما واستيعابا لقيم العصر من زملائهم الإسلاميين في مصر. وعلى كل فإنه لمن المرجّح أن تدفع تجربة الإخوان المسلمين المريرة في مصر إلى مراجعات في اتجاه مزيد من التفتح على قيم العصر، بالرغم من أن العداء المبدئي للإسلاميين أو للديمقراطية وحده يمكن أن ينكر أن بعضا من هذا الانفتاح قد حصل بالفعل. لكن كمبدأ عام يمكن القول بأن إشراك الإسلاميين في العملية السياسية في بلدانهم، إذ يتيح ذلك الاحتكاك بالواقع، أمر خليق بإحداث وعي وإدراك للإسلام على ضوء معطيات العصر وكذا فتح المجال لقراءات مثرية أخرى للإسلام، وذلك على عكس الإقصاء الذي لن يؤدي في نهاية المطاف سوى إلى إنتاج وإعادة إنتاج فكر الانغلاق والتخلف والتطرف والعنف. وعلى أيّ حال، وكما يرى هشام جعيط كذلك، كل مشروع حداثي يقطع الصلة بعامل الهوية مـآله الفشل، كما سبق وأن حدث لمختلف تجارب التحديث التي عرفها العالم العربي.
الثقافة العربية والاستبداد
لقد كشف الربيع العربي أيضا بأن الاستبداد ليس هو وحده من يشكّل عقبة في وجه التحول نحو الديمقراطية، بل كذلك الجذور القبلية والطائفية للثقافة العربية. لقد تمكن النظام السياسي العربي القائم على مركزية السلطة وعلى الأحادية حجب هذه الظاهرة التي ما كان بالإمكان على أيّ حال أن تجد لها حلا -كالحل الفيدرالي مثلا- في إطار النظام السياسي العربي، بالنظر إلى طبيعة هذا الأخير القائمة على احتكار السلطة وعلى الهوية الواحدة. وتبدو الفيدرالية اليوم، في بعض البلدان العربية التي تمزقها الصراعات، أنها تكاد تكون الحل الممكن الوحيد، ولكن بالنظر إلى أجواء الحرب وما تخلّفه من ويلات وضغائن، فهي ستكون، إذا ما قامت، فيدرالية مشوهة، عرجاء، قابلة لأن تتحول إلى تقسيم وتجزئة للبلد الواحد، ما لم يكن ذلك هو بالذات ما ترمي إليه القوى العظمى التي أصبحت اليوم اللاعب الحقيقي في بلدان الصراع. أجل من بين ما ضيعه النظام العربي فرصة إقامة نظام فيدرالي على أسس سليمة، تتعايش فيه مختلف الهويات، وتحافظ على الوحدة الوطنية، مثلما ضيع فرصة إقامة ديمقراطية حقيقية غير ملتبسة بالطائفية، ذلك أن الصراعات الحالية إذا ما افترضنا أنها انتهت إلى التأسيس لهذه الديمقراطية فمن المحتمل جدا أن تكون ديمقراطية مناطقية أو عرقية أو طائفية، أي ديمقراطية لا تقوم على مبدأ المواطنة. كل هذا يعني أن المسألة السياسية، من حيث قيامها على مبدأ الشرعية، والتي ما عادت تمثل مشكلة في بقية العالم، لا تزال هي المعضلة الأولى والأساسية في العالم العربي، والتي يمثل علاجها النهائي الشرط الأول لكل تقدم نحو الأمام، يعني نحو العصر.