تحطيم الأبواب
لقد كان قدر الثورة التونسية أن تشتعل من جسد بائع الخضار محمد البوعزيزي لا من فكر المثقف النخبوي. الجسد الذي التهب قهرا وجوعا وظلما والذي أصبح رمزا لأجساد أخرى أضرمت في نفسها النار لذات الأسباب وأكثر ليكونوا الشاهد الأبدي على أن هذه الثورة هي ثورة رجل الشارع وثورة الشعب وثورة الشباب… في أسبابها المباشرة وليست ثورة النخب على اختلاف مشاربها بما فيها من أحزاب سياسية كرتونية دجّنها النظام السابق واحتواها. ولم تكن ثورة المثقف المستقيل من زمان أو المستكين إلى قدره أو العائش على فتات موائد السلطان.
بل لقد ساعد غياب المثقف واستقالته من معترك الحياة وانهزامه أمام السياسي على تأخر هذه الصحوة الشعبية التي اندلعت من الشارع. إذ أننا كنا نعيش عصر سلطة السيف وليس سلطة القلم، على حدّ تعبير ابن خلدون.
على أن ردّة فعل النخب السياسية والثقافية كانت على طرفي نقيض من ثورة الشارع فبينما انقض السياسي على الحدث وسرق الثورة ونسبها إلى نفسه واحتل المناصب واستولى على مطبخ صنع القرار واعتلت حركة النهضة الحكم: حزب الإخوان المسلمين سابقا.
في حين بقي المثقف تحت تأثير الصدمة على هامش الثورة التي ركلته إلى الوراء في حين أنه يدّعي دور الريادة الشعبوية. وتحت وقع الصفعة التي علّمته أن ما تفعله عربة خضار تعجز عنه أحيانا الخطب والمنابر.. وبقي زمنا تحت تأثير الدهشة التي أيقظته من سباته ولا أقصد بالدهشة الحيرة الفلسفية كما قصدها “هايدجر” بطبيعة الحال.
وعندما أفاق بدأت زمرة منه لكي لا نعمّم بتصفية حساباتها الصغيرة، متقيّئة أحقادها الدفينة.. وأخرى تريد سرقة هذه الثورة ونسبتها إلى نفسها أسوة بالسياسي، في تمثيل مواقف نضالية، بطولية، على خلفية أنها تكهنت بالثورة قبل وقوعها، ومنذ عشرات السنين، في محاولة بائسة للاستحواذ على مواقع الريادة في هذه الثورة الشعبية الشبابية. وأخرى كانت أكثر تواضعا حيث انحنت إلى الشارع الذي حرّرها من خوفها وأطلق لسانها من عقاله.
ثقافة ما بعد الثورة
وعموما فقد ظهر بعد الثورة تياران مختلفان في الثقافة التونسية لا يمكن أن يلتقيا أبدا هما: تيار الحداثة، سليل حركات الإصلاح التونسية، الذي ينادي بمبادئ الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان.. وتيار الإسلام السياسي الذي بدا في محاولة فرض سلوك ثقافي غريب عن المجتمع التونسي ومحاولة هيمنة أفكاره بالقوة خاصة بعد أن تولى الإسلاميون مقاليد الحكم.. ويطرح مفاهيم ثقافية جديدة لم تكن تثار إلا داخل الجدران والغرف المغلقة مثل مفهوم التكفير الذي قسّم الشعب وأثار فتنة في البلاد.. والذي يقوم على مبدأ رفض الآخر الذي يختلف معه فكريا وعقائديا. إضافة إلى الترويج لأفكار تدّعي كونها من جوهر الإسلام منسوبة إلى الشريعة الإسلامية. تدعو إلى دونية المرأة وعودتها إلى البيت، مكانها الطبيعي حسب رأيهم وتحميلها مسؤولية البطالة في البلاد. وتنتقد بشدة مجلة الأحوال الشخصية التونسية وتدعو إلى إلغائها أو تعديلها في أحسن الأحوال وتعتبرها سبب كل انحلال أخلاقي في المجتمع. كما تدعو إلى تغيير مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل بمبدأ التكامل: تكون المرأة فيه مكمّلة للرجل وليست ندا له كما جاء في مسودة الدستور التي قدمتها كتلة النهضة وقت ما كانت أغلبية في البرلمان مع محاولة تمرير بند الدولة الدينية.. تمهيدا لدولة الخلافة التي ينادون بها من أعلى منابرهم.. وقد وقعت مقاومة كل ذلك بشدة من طرف المجتمع المدني وكل القوى التقدمية في البلاد حتى ألغيت تماما من الدستور..
كما أفرز الشارع مشهدا جديدا لواقع ثقافي/اجتماعي جديد كان مختفيا فظهر على السطح وبكثير من مظاهر العنف تغذيه حركات التطرف الدينية الاستفزازية للمجتمع.. مثل انتشار الحجاب أكثر فأكثر وإطلاق اللحى واللباس الأفغاني وانتشار النقاب أو البرقع عند النساء الذي لم يعرفه المجتمع التونسي قبل ذلك. والذي تسبب في أزمة دامت سنتين بالجامعة التونسية بمنوبة تقطعت إثرها الدروس وتعطلت لمحاولة بعضهن دخول الحرم الجامعي منقبات وفرضه بالقوة رغم مخالفته لقانون الجامعة الأساسي الذي ينص على عدم ارتداء النقاب خاصة عند اجتياز الامتحانات، تساندها حركات متطرفة دخلت في مواجهات واشتباكات مع رئاسة الجامعة وبقية الطلبة.. كما شهدت نفس الجامعة حادثة محاولة استبدال العلم التونسي بالراية السوداء.. ولم تهدأ الأمور إلا في السنوات الأخيرة وبعد كتابة الدستور الذي يضمن لكل مواطن حرية المعتقد وحق الاختلاف ويجرم التكفير..
“حدث” البوعزيزي قد حرك المشاعر بعنف وأحدث قطيعة مع عدة مفاهيم نفسية عميقة أهمها على الإطلاق مفاهيم “الخوف” والخنوع
انتشار ثقافة الحرية
ومن أبرز مظاهر ثورة الشارع وكرد فعل على كل حركات التطرف الديني التي تحرّم الفنون بكل أنواعها وخاصة فن الصورة والرسم والمسرح.. وبعد واقعة مركز åالعبدليّةò الثقافي وهي الاعتداء على فنانين تشكيليين بالعنف وتمزيق أعمالهم وغلق الفضاء الثقافي إثر ذلك بقرار من وزير الثقافة آنذاك مهدي مبروك الذي عوض أن يدافع على الفنانين عاقبهم بغلق الفضاء. وغيرها كثير.. ظهرت في تونس أشكال تعبيرية جديدة في الثقافة والمجتمع صالحت بين الفضاء الخاص والعام وخرجت بالفن من الفضاءات التقليدية المغلقة إلى المساحات العامة والساحات الرحبة.. تجسدها فرق ومجموعات اتخذت من الشوارع والجدران والإسفلت ركحا لأعمالها التي تمزج بين فنون عدة مثل الجرافيتي ومسرح الشوارع والملصقات الجدارية وعلب الألوان المستخدمة وشعر الساحات وفن الأداء أو ما يسمى بالتجليات التوليفية وåالبرفورمانسò وتمزج في تقنياتها فنون الرسم والتصوير والغناء والرقص والأداء المسرحي والإلقاء الشعري والصور وتفرض نفسها على المارين بجرأة تربك التحفظ الاجتماعي المعهود في الساحات العمومية العربية و تنشر ثقافة الحياة في مقابل ثقافة الموت.
كأنّ الثورة عصفت بكل الأبواب و تطايرت الأقفال فانفتحت الغرف و القاعات والفضاءات كلها على بعضها. وكأن الشباب الثوري أعاد امتلاك الشارع والفضاء العام لينتشر فنيا في علاقة مباشرة مع الشعب دون حواجز ودون قاعات عرض رسمية فانطلق في الحدائق والساحات العامة والشوارع والأرصفة وحيطان الشوارع.. لتحرير الفن من الاستبداد السلطوي السياسي والديني وكسر الممنوعات كحواجز تحول بينه وبين المتلقّي.
وشوم على وجه المدينة
وانتشر في تونس كما في عدة بلدان عربية أخرى بعد الثورة ما يسمى بفن الغرافيتي وهو تعبير حرّ في الأماكن العامة والبارزة والمتحركة والملحوظة كالجدران والأبواب والحافلات والقطارات والشوارع والأسطح.. بأنواعه: رسوما وحروفا فرنسية وإنكليزية في الغالب وبخّاخات..
وغالبا ما يكون هذا التعبير احتجاجا أو رسائل مشفرة أو اعتراضا على سياسات معينة في غفلة من السلطة وبتعبير الناقدة الفنية ميموزا العراوي “أرسم على جسد المدينة وأختبئ. أكتب وأهرب لن يقبض عليك أحد. لن يقتلك أحد نهائيا. جدار المدينة الموشوم بكلماتك برسوماتك يبتلع من يقترب منه خاصة قاتلك”.
وأبرز من يمثله مجموعة “حركة أهل الكهف” التي تعرف نفسها كونها مجموعة أرادت أن تجرب الإبداع والمقاومة من داخل المنفى كما “أهل الكهف” التاريخيين وهم جماعة هربوا من سلطان ظالم إلى منفى الكهف وأصبحوا خارج الزمان كما تُروى قصتهم وكما وردت سيرتهم في الأساطير الدينية.
ذلك أن فن “الغرافيتي” يزدهر ويظهر خاصة وقت التظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات.. ليصبح أو ليتحول إلى لوحات ناطقة كمدوّنة توثيقيّة للمحطات واللحظات الثورية التاريخية. على وجه الفضاء العام، كذاكرة حيّة لما حدث وما يحدث في الحراك الثوري.. ولتتحول الشوارع إلى مساحات عرض عفوية مفتوحة دون قيد ولا شرط ولا إذن ولا دفع..لالتحام الفن والإبداع مباشرة مع العامة، في تفاعلات حيّة مباشرة في لحظة تاريخية تزاوج بين الحراك السياسي والتغيير الاجتماعي، لتثير دهشة العابرين وتهز وعيهم وتخلخل المنظومة التقليدية الساكنة.
وهناك مثل عربي سوري يقول “الحيطان دفاتر المجانين” والمجنون عند السوريين (الذين انتشر عندهم هذا الفن أيضا كما في مصر) هو: المعارض الذي يخالف النظام.
ولا يخلو الأمر من حركة تحدّ واضحة لكسر عصا السلطة إذ أنّ من خصائص “الغرافيتي” كتابة الممنوعات ورسم أشياء غير مرغوب فيها ودون إذن أصحاب المكان.. كأنما يغتنم هذا الفن حالة الفوضى العامة وضعف الرقابة وانشغال السلطة للانتشار. نذكر ساحة القصبة بالمدينة العتيقة التي شهدت أكبر اعتصامات ما بعد الثورة وكيف أصبحت جدرانها وأبوابها وأقواسها لوحة فسيفسائية لشعارات الاعتصام ومطالب الثورة.. وكيف أجّجت الاحتجاجات لدى شباب الثورة طاقات الخلق والإبداع العفوي والفوضوي في ذات الوقت. واعتصام باردو أيضا الذي أسقط حكومة النهضة. لكن للأسف بعد كل اعتصام تأتي السلط البلدية وتمسح كل آثار هذا الفن الاحتجاجي في غفلة منهم.
وكم أتمنى أن يبقى هذا الفن موشوما على صدر جدراننا كما بقي فن الغرافيتي الأصيل على جدران باريس بعد ثورة الطلبة الفرنسيين في ماي 1968.
ويستلهم “أهل الكهف” خلقهم وإبداعهم من الجسد الرمز جسد “البوعزيزي” المشتعل ويعتبرون ذلك المشهد بمثابة åالبرفورمنس الذي صنع الحدث بل صنع الثورة وصنع الدهشة أيضا التي هزت كيان المتلقي في كل مكان من العالم وأضرمت النار في كيان كل فرد مقهور، جائع ومظلوم وهي تجسد التراجيديا الاجتماعية في أعمق تجلياتها مما يؤكد مرة أخرى أن الفن ليس دائما سليل الترف الثقافي الروحاني كما يراه “هيجل” أو لذة استهلاكية عابرة كما صورته الصناعة الثقافية لفترة ما بعد الحداثة.. وإنما فعل حركي عفوي وفوضوي يولد من صلب المأساة أيضا، و لعله أقرب إلى مفهوم åدولوزò الذي يعتبر “الحدث” تلك الواقعة الخارقة للعادة التي تغير الأنساق في التاريخ بخلق الصدمة والذهول لدى المتلقي وتهز مشاعره بعمق و تدفعه إلى الفعل. وهذه الدهشة هي الجمالية الصرفة لأنها لم تخضع لنية مسبقة أو لتخطيط مبيت بل هي وليدة انفجار مفاجئ لحالة اجتماعية يائسة وجدت صدى كبيرا لذروة مأساتها الإنسانية ولتكرارها في الزمان والمكان وفي الجغرافية العربية. وهذا الانفجار يؤسس بالضرورة لمشهد اجتماعي جديد وبالتالي فهو يحمل دلالات ورموزا جمالية.
كما يؤكد هذا الفن أيضا أن الثورة التونسية التي انطلقت شرارتها الأولى من جسد بشري أبعد ما تكون عن ثورة الياسمين بل لعلها ثورة أقرب لرائحة اللحم البشري المشوي التي وصلت العالم في كل مكان لا رائحة الياسمين..
ومهما يكن من أمر فإن “حدث” البوعزيزي قد حرك المشاعر بعنف وأحدث قطيعة مع عدة مفاهيم نفسية عميقة أهمها على الإطلاق مفاهيم “الخوف” و الخنوع و”الرعب” الساكن في النفوس وهي ذات المفاهيم التي كانت تكبّل طاقة الخلق والإبداع لدى شرائح واسعة من الشباب العربي. كأننا انتقلنا من مقولة “اُكتب وأهرب إلى اكتب وابق. فلن يقتلك أحد”. وهكذا نرى أن فن “الغرافيتي” يعود ليبسط سلطته من جديد بل ليُبعث من جديد بعدما اختفى زمنا. إذ أن أصول هذا الفن ضاربة في القدم وترجع إلى الحضارات العتيقة القديمة جدا فقد عرفة الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم..
وهو اليوم يسمى بالغرافيتي الحديث منذ نشأ في ستينات القرن الماضي في نيويورك بإلهام من موسيقى “الهيب هوب” كما أنه يعتبر أيضا نوعا من التخريب يعاقب عليه القانون في أميركا ومعظم دول العالم..
وهو يستخدم عادة لإيصال رسائل سياسية واجتماعية في التخلص من رواسب الاستبداد بطرق فنية ورمزية متنوعة وإثبات سلطة الشعب على فضاءات المدينة. وكشكل من أشكال الدعاية أيضا.
بالتالي إعادة ترميم العلاقات الاجتماعية التي أنهكها الاستبداد وفي نفس الوقت إعادة إحياء ذاكرة شعبية وثقافية كانت لها في الماضي علاقة حميمة مع الساحات من خلال فنون الشوارع مثل الفداوي والحكواتي وصندوق العجائب.. التي كانت مزدهرة في تونس العتيقة وفي بعض أحيائها القديمة مثل ساحة الحلفاوين بباب سويقة وغيرها.. وأشهر منها ساحة الفناء في مراكش.
المثقف لا يجب أن يحلّ محلّ أيّ سلطة ولو سلطة المعرفة وإنما أن يبقى سلطة مضادّة أبدا بالمرصاد لكل سلطة، يقوّمها ويوجّهها
لا مركزية فنون الشارع
كتبت مجموعة «أهل الكهف» للغرافيتي شعارها الشهير «لا يمكن أن أحلم مع جدّي» ثم أكملت “هذا عهد الأرانب” بعدها واصلت مجموعة «زواولة» المسيرة عبر مقولتها التي غطّت جدران المدن «الزوالي دفنوه وعينو حيّة» و(الزوالي كلمة محلية تونسية وتعني المهمّش والعشوائي والفقير).
لم يصمت مسرح الشارع حيال الواقع الاجتماعي فخرجت إلى الحياة مجموعة «فنّي رغماً عنّي»، وكانت مسرحية «دورة مياه» وصفاً لقذارة الواقع وقرفه ثم مسرحية «قتلوه» التي ترجمت صدمة الشارع التونسي من عمليات الاغتيال التي طالت نشطاء ومناضلين تونسيين. ليقف الشارع وحده شاهد إثبات على حراك فنّي يعانق الفضاءات المفتوحة مثل شارع الحبيب بورقيبة الذي احتضن مسرحية «ثلاث نقاط» إنجاز مجموعة «فنّي رغماً عنّي لفنون الشارع» ومجموعة «راقصون مواطنون». شخصيات تحاكي الفضاء العام، تخاطب المارّين بمشاهد تقترب من حياتهم اليومية، تؤثّر فيهم وتستدرجهم للمشاركة، يُضيفون للعمل الفني ليصير لوحة تعانق الإنسان في جميع أبعاده.
غادر الفن الحضري هذا الشارع إلى داخل تراب الجمهورية ليترسّخ عادة سنوية تحتفل بها حتى المدن المهمّشة والفقيرة.. مثل مهرجان مدينة «القطار» لفنون الشارع الذي يتزامن مع ذكرى اغتيال المحامي والسياسي التونسي شكري بلعيد. و«القطار» هي مدينة داخلية، تحاذي الحوض المنجمي في محافظة قفصة، اختارت أن تزين شوارعها بعروض فنية من مسرح وغناء ورقص ورسوم غرافيتي.. قبلها كانت مدينة قابس التي شهدت قضية «زواولة»، تلك المجموعة الفنية التي حوكمت بتهمة نشر الإشاعات عبر الشعارات المرسومة على الحيطان والاعتداء على الأملاك الخاصة وغيرها من التّهم، ثم مدينة قصر هلال في الساحل التونسي التي عايشت مهرجاناً لفنون الشارع أحيته “جمعية أبولون”.
وعموما المجموعات الفنية الشبابية الثورية هي ظاهرة مستجدة وحالة سوسيولوجية فريدة في العالم العربي المعاصر لأنها تسعى إلى إعادة بناء الأنساق الجمالية في المساحات العامة من خلال الخطاب السياسي وتأصيلها في محيطها الشعبي. وبالتالي فهي تندرج ضمن الحركات التي تسعى إلى فعل التفكيك النسقي، ولكن ليس التفكيك المطلق والعبثي وإنما من المنطلق الذي تحدث عنه دريدا كفعل يلتزم بعدم التجرد كليا من القيم التي يريد أن يغيرها بل يشتغل على نفس هذه القيم التي ينتقدها ويقوم بمساءلتها لمقارعتها بالتناقضات التي تكمن فيها. فالغاية في النهاية ليست التفكيك لغاية التدمير وإنما لإعادة البناء.
يقول جماعة “فني رغما عني” إن فلسفتهم قائمة على المفاجأة والاستفزاز وخلق الصدمة لدى الناس لحثهم على التفكير ولكنهم لا يرفضون أيّ تيارات فكرية مهما كان تعصبها أو معاداتها لفكرة الفن بل يستدرجون أتباعها لمحاورتهم فكريا عن طريق الفن كي يتبين لهم مواطن الغلو والتناقض في طروحاتهم. وهو يعتبر أن الفن يجب أن يكون فضاء محتويا ومستوعبا وليس إقصائيا. واستعمال منهج التحاور الفكري والفني يعتبر أحد الخصائص الهامة لهذه المجموعات الفنية الشبابية التي بادرت بالقطع مع السلوك الاستبدادي لتمد جسور مبتكرة ومباشرة في التواصل والحوار.
“مبدعون من أجل الحياة”
كما عرفت تونس في أواخر السنة المنصرمة تنظيم أكبر تظاهرة لفن الشارع تحت عنوان “مبدعون من أجل الحياة”. وشهدت هذه التظاهرة التي انتظمت تحت رعاية وزارة الثقافة مشاركة كل محافظات الجمهوريَّة، وسجَّلت مشاركة قياسيَّة في الرسم والسينما والرقص والمسرح، وغيرها من الفنون التي جابت البلاد ودخلت المعاهد والمدارس.. وأثارت حماسة الأطفال على وجه الخصوص. هذه التظاهرة الضخمة كانت متميّزة وواعدة، خصوصاً مع حضور التونسيين لعروض مختلفة وطريفة، كالعزف داخل القطارات والحافلات وإشراك المواطنين في العروض المسرحية الحية، وغيرها من الأنشطة التي قطعت مع السائد والمعهود وفجَّرت مواهب وطاقات مغمورة في صفوف العامة والتلاميذ على السواء.
ولا يمكن أن ننهي هذا الموضوع دون ذكر تظاهرة “جربة هود” بمدينة جربة العالمية.
جربة التي تحولت من قرية صغيرة إلى أكبر متحف مفتوح لفن الشوارع في العالم، عندما حطّ بها حوالي 150 رساما من كافة أنحاء العالم وحولوها من قرية بسيطة هادئة إلى قرية تعج بالحياة عندما رسموا في سوق السيارات المهجور والسوق المركزي القديم وبجانب أكوام القمامة والأبواب الصدئة وعلى صهاريج مياه قديمة مرمية في المذبح إلى غير ذلك. ومن إيجابيات هذه التظاهرة أن انتبهت السلطات الرسمية للفضاء العام وقامت بعملية تنظيف وتمشيط بعد أن انتشرت الصور على شبكات التواصل الاجتماعي.
المثقف وسؤال الكينونة
أخيرا هل يمكن أن نطلق على كل هذه الفنون مصطلح «فنون بديلة”؟ أم هي مجرد ظواهر ارتبطت بالحراك الثوري والتغيّرات التي شهدها المجتمع بعد أن رحلت سلطة سياسية قامعة وحلّت محلها أخرى بمضمونها الدستوري الجديد؟
عموما فإن المجتمع العربي قبل الثورات لم ينتج إلا مثقفين منعزلين يعملون ضمن مسالك ضيّقة لا تنتمي إلى منهج أو مدرسة، بعيدة عن فكرة التفاعل الثقافي العربي. لعله بهذه الطفرة الفنية في أشكال إبداعية عدة جديدة (بديلة) تكون بداية عهد جديد إلى ثقافة ما بعد الثورات العربية التي فشلت أغلبها سياسيا ما عدا تونس نسبيا ولعلها تنجح فنيا وثقافيا في صياغة رؤية فنية جديدة.
رغم أن المثقف العربي لم يطرح سؤال كينونته بعد بالمفهوم الذي ذهب إليه مطاع صفدي، ورغم أن الفكر العربي عموما لم يصطدم مع المؤسسة الدينية ولا القبلية ولا مع المؤسسة العسكرية ولم يوجه المثقف العربي جهده لنقد النظام الاقتصادي المتخلف في العالم العربي ولم يتخذ المواقف الواضحة تجاه الأيديولوجيات السائدة.. وطالما أن المؤسسة الدينية والقبلية مازالت تتحكم في النتاج الثقافي وتفرض مشروعها بقوة السلطة أمام المثقف الذي فشل في طرح البديل.
والآن بعد أن دحرت هذه المؤسسات القامعة بفعل الثورات هنا وهناك وجب على المثقف أن يلتقط أنفاسه ويعدّ مشروعه الذي يبتدئ بطرح سؤال الكينونة، ليس ذلك الطرح التقليدي “من نحن”؟ و”من هو الآخر” لأن إشكاليات الأنا والآخر وشرق وغرب وشمال وجنوب قد بليت، وإنما سؤال الكينونة المتمثل في “من يحكمنا؟ وكيف؟”، وأن يسائل المؤسسة الدينية والسياسية: كيف نتعامل مع النص في علاقته بالمقدس والمحرم؟ وعلاقات الإنتاج في تداخلها مع الطبقة الحاكمة وبقية الطبقات.. وفي علاقتها بمستويات الدخل والاستقرار والتنمية.. أسئلة يجب أن تتمحور حول “السلطة” بتشعّباتها وميكانيزماتها.
هذا المشروع يستوجب كمّا وتراكما معرفيا وحضاريا لا يجب أن نستدعيه من عند الآخر دائما كما يفعل المثقف العربي.. وإنما المثقف الأصيل هو الذي ينطلق من هويته ليراكم عليها ما شاء من المعارف والعلوم وهذا ما يؤدي إلى خلق حراك وجدل ثقافي متواصل لا ينضب أبدا ذلك أن المثقف و حسب “على حرب” هو الذي يجب أن ينتج “الفاعل الثقافي” وليس “الإنتاج الثقافي” فما يهمّ المثقف هو الجدل والنقد.. فليس المطلوب من المثقف فعل الولادة لأن الولادة تعني في بعض وجوهها انتهاء الفكر واكتمال عمليّة الخلق وإنما المطلوب هو جعل الفكر في حالة مخاض متواصل.. وفي أسئلة لا تنتهي تشعلها الحيرة والدهشة الفلسفية التي لا تركن للأجوبة وإنما حياتها في أسئلتها الدائمة أبدا.
وأن يخلّص المثقف العربي نفسه من ادّعاء الوصول إلى الحقيقة أو امتلاكها، الحقيقة التي يمكن أن تصبح أداة سيطرة وتسلّط أيضا.
المثقف لا يجب أن يحلّ محلّ أيّ سلطة ولو سلطة المعرفة وإنما أن يبقى سلطة مضادّة أبدا بالمرصاد لكل سلطة، يقوّمها ويوجّهها إن اعوجت ويتناولها بالنقد ويكون عينها الساهرة التي لا تنام أبدا.