المخلّص محبوس في مستشفى الأمراض العقلية
من المسائل التي أثارت اللغط هو حديثي عن أسباب فشل المؤسسات التربوية في تخريج أجيال واعية، ورد ذلك إلى سيطرة جماعة الإخوان المسلمين على المؤسسات التعليمية، وعدم إمكانية تعميم ذلك على كافة الأقطار العربية. في كتابي «فلسفة الإبداع» تحدثت عن الإبداع والتعليم، وأظن أن الذي دخل معي في الحوار لم يقرأ هذا الكتاب، مسألة الإبداع كبديل عن الذكاء نشأت في أمريكا في 1950، عندما قال رئيس الجمعية النفسية في أمريكا إنه قد جاء الأوان لأن ندرس الإبداع، ومن هنا جاء اهتمامي بالمسألة.
في تعريفي للإبداع أقول إنه هو قدرة الإنسان على تكوين علاقات جديدة من أجل تغيير الواقع، وهذا تعريف غير مسبوق للإبداع؛ إذ أن التعريفات الأخرى للإبداع تكتفي بمسألة تكوين علاقات جديدة، إنما هنا يوجد ربط بين تكوين علاقات جديدة وتغيير الواقع، أي يتضمن عنصري الجدة والتغيير، فإن كانت هناك جدة بدون تغيير يكون إبداع مرضي.
في هذا الصدد ضربت مثال برجل مختل عقليًا في مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، يتوهم أنه إله وبدأ يبرهن أسبابه ويدلل لي على صحة ما يقول بالاستعانة بالفسيولوجيا والفيزياء، كان مثقفًا على درجة عالية لكن ثقافته أودت به إلى التوهم أنه إله، وطلب مني أن أنشر في جريدة زالأهرامس خبر مفاده أن الإله محبوس في مستشفى الأمراض العقلية ولابد أن يخرج، وكنت أعتذر له كل أسبوع اعتذارات وهمية لأنه شيء غير ممكن، فقال لي إن لم ينشر الخبر في الأسبوع القادم ستنقطع علاقتي معك، فقلت له باعتبارك إله يمكن أن تستخدم معجزاتك في الخروج من المستشفى، قال لي لا، أنا إله نظام ولست إله فوضى، لكنه عاجز عن الخروج أي التغيير، وبالتالي الإبداع غير مكتمل.
الحضارة الإنسانية نفسها نشأت بالإبداع؛ ففي عصر الصيد الذي استمر حوالي أربعة ملايين سنة ونصف السنة، أودى اعتماد الإنسان الكلي على صيد الحيوانات وذبحها إلى إصابته بأزمة طعام، خاصة أنه لم يكن لديه علم باستئناس الحيوانات، فبدأت الحيوانات تندر، بالإضافة إلى تغير المناخ في جنوب البحر المتوسط وشماله، ما أدى إلى عجز الحيوانات عن الحياة في هذه المنطقة، فهاجرت وهاجر معها الإنسان واستقروا في وديان الأنهار في كل من مصر وآشور وبابل واليمن. في مصر ابتدع الإنسان المصري التكنيك الزراعي لكي يحقق فائض طعام ويتغلب على أزمة الطعام، ومعنى ذلك أن الحضارة اعتمدت على الإبداع، بعد ذلك تكونت المجتمعات داخل المجتمع الزراعي ونشأت ثقافات متنوعة وفقًا للظروف الجغرافية لكل بلد.
أصبح المعيار في تقدم الشعوب بالنسبة لي يتحدد زعلى قدر ما تقترب الثقافة من المسار الحضاري الذي يبدأ من الفكر الأسطوري ويتجه نحو الفكر العقلاني أقول إنها ثقافة متقدمة، والثقافة التي تبتعد عن المسار الحضاري أقول إنها متخلفةس؛ فالمسألة مترابطة ومتشابكة في إطار الإبداع لا علاقة لها بثقافة بلد دون أخرى.
عندما نتحدث عن الشرق الأوسط نجد أن تيار جماعة الإخوان المسلمين نشأ في القرن العشرين وتأثر بفكر الفقيه ابن تيمية في القرن الثالث عشر. ويتمركز فكر ابن تيمية حول رفضه إعمال العقل في النص الديني لأنه ضد ابن رشد الذي يطالب بإعمال العقل في النص الديني، وبناء عليه يقول ابن تيمية زنكتفي بالسمع والطاعة، وأن العقل يهبط إلى مستواه الحسيز، ومن هنا نشأت فكرة الإجماع في العالم الإسلامي، ومن هنا أصبح فكر ابن تيمية مسيطراً على الدول العربية. كيف يمكن مقاومة هذا الفكر؟ المقاومة عن طريق العلمانية وهو يمنع إعمال العقل. والعلمانية مطاردة في العالم العربي.
الإبداع والاستبداد
الحديث عن العوامل الأخرى التي أدت إلى فشل المؤسسات التربوية والتعليمية في العالم العربي يأتي في إطار المسار المعرفي الذي أحلل الأمور من خلاله؛ فأسلوبي في التفكير ابستمولوجي إذ انشغل بمسار العقل والمعرفة، وبناءً عليه يمكن النظر إلى العوامل الأخرى في ضوء الابستمولوجيا. فعلى سبيل المثال، عندما وصلت جماعة الإخوان إلى الحكم، بات الحديث عن الظروف السياسية التي دفعت بهم إلى الحكم من الأحاديث الشعبية والدارجة، بل انشغل بصلب فكر الجماعة الذي يقوم على فكرة الحاكمية. وبدون التركيز على الإبداع لن يكون هناك حل لأي مشكلة. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هو أول رئيس في العالم العربي يقول إن المشاكل تحتاج إلى إبداع وليس تفكير تقليدي، رئيس دولة كبرى يقول ذلك وأنا أريد من يعترض على ما أقول أن يرد على ذلك.
وانتقالًا إلى الحديث عن دور الاستبداد في تأصيل المشاكل التي تفاقمت في العالم العربي أعود لأتحدث عن دور الإبداع في مقاومة الاستبداد، وهنا أسأل كيف قاوم العقل المبدع الاستبداد؟ المقاومة إن وجدت فإنها كانت محكومة بفكر تقليدي، ولذلك لابد من التأسيس لعقل مبدع في مواجهة الاستبداد، وشرط الاستبداد غياب الإبداع لأن المستبد يؤسس لإجماع ورفض للخروج عن ذلك وإلا يتم تكفيره، وبالتالي المواجهة تكون بعمل تيار مبدع يساهم في القضاء على الاستبداد.
/فيما يتعلق بما أثير عن التفاؤل المفرط في محاولة جعل الفلسفة تقف على قدميها بدلًا من رأسها وما يعنيه ذلك من تفاؤل مفرط كونه يتجاوز الكثير من العقبات الاجتماعية وتبسيط مخل يصل حد الوقوع في الاختزال، فأنا أؤمن أن الفلسفة قادرة على تغيير ذهنية رجل الشارع ما يجعله يقاوم الكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية، إذ تجعله شريكًا في الحل.
في المؤتمر الذي عقدته بعنوان «الفلسفة ورجل الشارع» قصدت تقريب الفلسفة إلى رجل الشارع لكي يفكر بطريقة عقلانية ومنطقية، وقتها اتهمني المثقفون بتخريب القيم، وشنّت جريدة زالأهرامس حملة شعواء ضدي. كيف سنتحدث عن مقاومة الاستبداد في ظل عمليات تغييب العقل التي يعاني منها رجل الشارع؟ الاستبداد يتفاقم كلما كان رجل الشارع عاجزًا عن استخدام عقله ما يسهل عملية التأثير عليه، عندما حاورت بائع البطاطا في المؤتمر، كانت لديه مجموعة من المفاهيم الراسخة في ذهنه كحقائق مُسلّم بها مثل زالمكتوب على الجبين لازم تشوفه العينس ما يعني اقتناعه بعدم قدرته على تغيير حياته إلى الأفضل، وبالمناقشة اقتنع بخطأ أفكاره، لكن أمام الهجوم العنيف أجهض المؤتمر.
إذًا فالحديث عن كيفية تجاوز الأمية التعليمية والثقافية إلى المناقشات الفلسفية ما هو إلا تساؤل يُعبّر عن كسل فكري، فلابد من تغيير العقل واستخدامه في حل المشكلات بطريقة غير تقليدية. الطريقة التقليدية في التفكير تفترض أن هناك أسباباً سياسية تمنع رجل الشارع من التفكير في مشاكله الاجتماعية، وهو ما يجعله في عملية انتظار مستمرة، لا بد من إدخال رجل الشارع في عملية التغيير عن طريق الفلسفة.
وأنا هنا لم أتجاوز الفجوة التاريخية بين الماضي والحاضر في دعوتي لإنزال الفلسفة إلى الشارع مثلما كان عليه الحال مع سقراط الذي كان ينزل إلى أسواق أثينا ويحاور رجل الشارع. الفجوة التاريخية غير متجاوزة لأنني أوضحت مرارًا في كتاباتي أن السوق في زمن المعلوماتية والتكنولوجيا هو القنوات الفضائية، والتي يجب أن تحمل على عاتقها مسؤولية تنوير رجل الشارع عن طريق إجراء مناقشات بينه وبين الفلاسفة والمفكرين، وبإنتاج مسلسلات فكرية بديلة عن تلك القائمة على النميمة الاجتماعية.
الثورة العلمية والتكنولوجية أفرزت مصطلح الجمهور زmassس، ورجل الشارع في الوقت الراهن من إفرازات تلك الثورة، فلا بد من توفير الفرصة له باستثمار الثورة التي نشأت من أجله في القنوات الفضائية لأنها قنوات جماهيرية يشاهدها الملايين، فإنتاج برنامج لمحو أمية الجماهير من الأفكار الإبداعية التي تساهم في حل المشاكل.
الخطاب الضائع
بخصوص الحديث عن الخلط بين الفكر الأصولي الذي يعيش في الماضي ولا يعترف بسنن التطور والفكر العقلاني الحداثي الذي يطرح تأويلًا حديثًا للدين، فهنا يجب التوضيح أن المقصود بحديثي عن الأصولية هو ذلك التيار المهيمن، فحديثي يتمركز حول التيارات المهيمنة وليس الاتجاهات الفردية التي لم تنجح في تشكيل تيار مقاوم للأصولية الدينية، فالتيار الأصولي يحكم العالم الإسلامي ولا يوجد تيار قوي استطاع أن يواجهه.
السوق في زمن المعلوماتية والتكنولوجيا هو القنوات الفضائية، والتي يجب أن تحمل على عاتقها مسؤولية تنوير رجل الشارع عن طريق إجراء مناقشات بينه وبين الفلاسفة والمفكرين
لم أتجاهل المجددين، ولكن زالفردس لا يستطيع بأي حال مقاومة زتيارس راسخ ما لم ينخرط في تيار، أكبر دليل على عدم تجاهلي للمجددين اهتمامي بالشيخ محمد عبده الذي يعد من أبرز المجددين الذين تم اضطهادهم، وكتبت أنه كان هناك مفكر انجليزي يدعى كوكوريل، كان صديقًا للشيخ محمد عبده، وقال له أنت مصلح ديني مضطهد من السلطة الدينية وفي الغرب يوجد تولستوي وهو مجدد ديني مضطهد من الكنيسة، ولا بد أن تتواصلا معًا لعمل تيار يساهم في إنقاذ البشرية، فكتب محمد عبده خطابًا لتولستوي باللغة العربية وفي آخره كتب سطراً يقول فيه زأيها الحكيم عندما ترد أرجو أن يكون ردك باللغة الفرنسية لأنها اللغة التي أجيدهاس، وكان أستاذي عثمان أمين يتعجب من عدم تلقي الشيخ محمد عبده لأي رد من تولستوي على خطابه، فقلت له أعتقد أن تولستوي قد رد على الخطاب لأنه كان الأب الروحي للشعوب المستعمرة، وآلاف الخطابات تصل له ويرد عليها، وليس من المعقول ألا يرد على خطاب محمد عبده، وعندما كنت أعمل في موسكو كأستاذ زائر في الجامعة قمت بزيارة متحف تولستوي وطلبت من المديرة إحضار جميع خطابات تولستوي المتبادلة مع آخرين في الشرق الأوسط، ففوجئت بوجود صورة من خطاب تولستوي إلى الشيخ محمد عبده، فأين الأصل؟ تم حرقه لأنه في خطاب تولستوي إلى الشيخ محمد عبده سأله عن البهائية، ومن المرجح أن يكون الخطاب قد وصل إلى الشيخ محمد عبده وقرأه، ولكن مستشاريه اقترحوا عليه حرق الخطاب منعًا لإحراجه وإثارة المزيد من اللغط.
كتبت أنا وعثمان أمين عن هذا الخطاب الذي عثرنا عليه بعد ستين عامًا، وتجاهل المثقفون العرب هذه المسألة تمامًا وقالوا رسائل متبادلة بين محمد عبده وتولستوي، ولم يشيروا إلى أن الخطاب أُحرق، هنا تم إجهاض الفكر التنويري للشيخ محمد عبده، الذي قيل أنه مات مسمومًا، ومنعه من عمل تيار إصلاحي.
مثال آخر نصر حامد أبو زيد، وهو صديق حميم لي، كنت ألازمه في قضيته وكنت أطالبه بتأجيل الصدام حتى يحصل على الأستاذية، لكنه رفض وفجّر القضية في الصحافة، في هذه الأثناء عقدنا مؤتمر دولي بعنوان زابن رشد والتنويرس، ودعوت للمشاركة فيه أستاذاً في جامعة أوتريخت، بعد المؤتمر قال لي هذا الأستاذ أنه سيؤسس كرسياً لابن رشد في الجامعة، وسيضع فيه نصر حامد أبو زيد، ولكن من الغريب أن نصر حامد أبو زيد اهتم بابن عربي ولم يهتم بابن رشد.
اللغة العربية
انتقالًا للحديث عما أثير في الحوار عن وضع اللغة العربية في الوقت الراهن؛ بداية أنوّه إلى أن ما أقوله هو اجتهاد من قبل عدد من علماء اللغة العربية على علاقة بي، وضعوا تصوراً لتقليص قواعد اللغة العربية إلى قواعد أساسية قليلة، فأنا أرى أن القواعد دخيلة على اللغة، وقد كانت اللغة العربية في فترة من الفترات بدون قواعد.
في مرحلة الثانوية كان هناك اعتماد في الإنشاء على السجع، وكنت ضد تلك المسألة لأنه لا يتعدى رصاً لألفاظ بمعاني جوفاء، وقد قرأت فيما بعد لكبار الأدباء أمثال طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وجبران خليل جبران، وتكون عندي ما أسميه زجرس موسيقيس في اللغة العربية؛ وهو ما يعطيني إحساس بأن هذه التركيبة صحيحة نحويًا، ولي عبارة أقول فيها إن زضبط اللغة مرهون بضبط الفكرس.
قمت بزيارة إلى معهد الصم والبكم والمكفوفين في موسكو، الذين يجرى تعليمهم بطريقة يستطيعون فهمها، وقتها أردت أن أتاكد من فكرتي حول وجود قوالب في العقل الإنساني تساهم في تحويل الإحساسات إلى معرفة؛ فطلبت منهم أن يحضروا لي طفلاً لم يدرس قواعد اللغة الروسية ويحكي لي قصة باللغة التي لم يدرسها، وحكى لي الطفل القصة ولم يخطئ في عمل التركيبات ومن ضمنها قواعد اللغة دون أن يعرفها، إذًا الإحساس بالمعنى هو الذي يحدد اللفظ والمسار المنطقي للألفاظ التي تليه، فكل ذلك منشأه العقل، أنا درست اللغة الروسية وكنت أتقن قواعدها، لكن عندما أكتب تكون لدي كمية لا حصر لها من الأخطاء لأن المعاني غير واضحة في ذهني، وافتقد الجرس الموسيقي وهو المطلوب في أي لغة.
الرؤية المستقبلية
وفي ما أثير بشأن الرؤية المستقبلية من حيث أن المستقبل زمن لم يحدث، وقد لا يحدث، وليس من الحكمة أن نتوسل بما لانثق في حدوثه في حل مشكلات الوضع الراهن، هنا أقول أن من كتب ذلك يرد على شيء متخيل عنده ولم يقرأ شيئًا مما كتبت، فأنا أقول إن الزمن مكون من ثلاث آنات: ماض وحاضر ومستقبل. وكان السؤال من أين أبدأ؟ من المستقبل أم من الماضي، فأجبت بأنه أي فعل يقوم به الإنسان له غاية، وهذا يعني أن الفعل غائي يتجه نحو المستقبل. لأن الغاية تكون في المستقبل وليس في الماضي، وعندما أبدأ من المستقبل ما وضع الماضي؟ عند حدوث أزمة في الوضع القائم نستدعي الوضع القادم، وعندما يتم حل الأزمة يصبح الوضع القادم من الماضي، وبالتالي كان الماضي في أساسه مستقبل سحبت منه السمة المستقبلية وأصبح ماضيًا، لذا فمن المفترض أن تكون دراستنا للتراث على أساس أنه رؤية مستقبلية رُحِّلت إلى الماضي، فالوضع القائم المأزوم يحتاج دومًا إلى رؤية مستقبلية للتخلص من الأزمات.
حديثي يتمركز حول التيارات المهيمنة وليس على الأفكار الفردية غير السائدة، ابن تيمية أسس تيار الوهابية والإخوان المسلمين، لكن الحديث عن التطبيق الخاطيء لأفكار ابن تيمية ليست قضيتي، أتحدث عن التيار ورؤية الاخوان والوهابيين لابن تيمية
المحرمات الثقافية
وعند حديثي عن المحرمات الثقافية وهيمنتها على العقلية العربية والانتقادات المثارة حول أنه لا يصح أن نوسم العقل العربي ككل بذلك لما يتضمنه ذلك من تعيمم، هنا أود التنويه إلى أنني أتحدث عن زتيارس المحرمات الثقافية الذي يجتاح العالم العربي، والدليل التكفير والقتل، العالم كله صار مهتمًا بمسألة القتل الجماعي، والمحرمات الثقافية في صلب الحضارة الانسانية، وبالتالي ظاهرة اجتماعية وسياسية، ولا توجد ظاهرة أخرى مقاومة لها، فالمقاومة الموجودة لا تتعدى كونها إدانات وشعارات ولكن التكفير والقتل بناء على فكر لابد من مواجهته بفكر مقاوم.
بناء عليه لابد من إصلاح العقل لأنه محكوم بالأصولية الدينية ولابد أن يكون هناك تيار مقاوم للأصولية الدينية وهو العلمانية، وهذا هو الدور المنوط بالمثقفين القيام به في مواجهة الاستبداد، فالمثقفون نجحوا في نقل المجتمعات من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة.
كتبت أن ابن رشد من جذور التفكير الأوروبي، هنا ابن رشد محرم ومتجاهل، إنما المتحكم والمهيمن هو ابن تيمية.
وفي حديثي عن أنه لا فصل بين السياسة والثقافة، وما اعتبره البعض اخضاع الثقافة للسياسة تحت شعار زلاسياسة بدون ثقافةس، فلا بد من التأكيد على أن خضوع المثقفين للسلطة لا يمثل عيبًا في السلطة، لكن الخطأ يقع على عاتق المثقف الذي رضي بأن يتم إخضاعه. في عصر الرئيس السادات كنت من المقاومين والمعارضين له، وقلت إن مصر محكومة بالأصولية والرأسمالية الطفيلية وبناء عليه تم فصلي ولم يقف معي أحد، ما يعني انحياز المثقفين للرأسمالية والأصولية، فمن المفترض أن يكون المثقف فاعلًا وله حق الرفض والمقاومة.
الطغمة العسكرية
وفيما يتعلق بثنائية الجيش والإخوان، فأنا أقول إن وجود الجيش على رأس الحكم في مصر كان هو البديل الوحيد المتاح في مواجهة جماعة الإخوان، لم أقل إنه لا بديل عن الجيش في المطلق، فمنذ ثورة 1952 وحتى الآن كانت المؤسسة العسكرية على رأس السلطة، ولا يوجد تيار قوي مواجه لها سوى جماعة الإخوان المسلمين، والخروج من هذه الثنائية يتطلب تأسيس تيار علماني قوي وراسخ يستطيع المقاومة، وهذا غير موجود.
في ثورة يناير، كانت ثورة شباب ساخط على نظام مبارك وكنت أتوقع أن تحدث هزة ولم أكن أرى علامات تشي بأكثر من ذلك، واستمرت الثورة لتدمير الوضع القائم المأزوم وفي اليوم الثالث خرج الإخوان من المعتقلات وسرقوا الثورة وأقنعوا الشباب أن الجيش ضدهم.
الأصح هنا ألا نقول أننا تحت حكم عسكري، لكن يجب أن يقال إننا الآن في نظام معاد تماما للإخوان المسلمين، الجيش أنقذ مصر من حكم الإخوان، الصدام سيظل موجودًا بين الجيش وجماعة الإخوان، لأن الجيش نشأ على عقيدة وطنية هي الدفاع عن الوطن، لكنه لا يفتعل معركة في الخارج، على عكس جماعة الإخوان الذين يريدون من الجيش الحرب خارج الوطن لتأسيس الخلافة الإسلامية على كوكب الأرض، لذا فالصدام حتمي في ما بينهما.
أما الحديث عن صعوبة تأسيس العلمانية في ظل نظام يضيق بحرية الإبداع، ففيه الكثير من الاستكانة، دور المثقف هو المقاومة، الآن جريدة زالأهرامس فتحت حواراً بيني وبين المثقفين، لابد من المقاومة، وإلا ما هو دور المثقف حيال ما يحدث؟!
تيارات فكرية
وبشأن ما أثير عن فكر ابن تيمية والحكم المطلق على أفكاره بأنها ظلامية ووصفه بأوصاف متسرعة تنم عن عدم إطلاع على فكره، فأعود لأقول أن حديثي يتمركز حول التيارات المهيمنة وليس على الأفكار الفردية غير السائدة، ابن تيمية أسس تيار الوهابية والإخوان المسلمين، لكن الحديث عن التطبيق الخاطيء لأفكار ابن تيمية ليست قضيتي، أتحدث عن التيار ورؤية الاخوان والوهابيين لابن تيمية. لا يعنيني التصورات المختلفة عن فكر ابن تيمية، لأنه لا يمثل تياراً، وعندما يؤسس ذلك لتيار يمكن دراسته.
والحديث عن قولي بفشل ثورات الربيع العربي فهو أمر غير صحيح، قلت إنها أجهضت، وقفت عند مرحلة وتم اختطافها من قبل جماعة الإخوان في يومها الثالث، وبالتالي المناقشة تكون في مدى صحة ذلك لأن ذلك هو ما قلته ولم أَدَّع أنها فشلت أو أحكم بذلك.
المثقف والسلطة
لم أتنصل من الدور المنوط بي القيام به كمثقف، وهو الدور الذي أطالب به المثقفين في الوقت الراهن. كتبت الكثير من المقالات والكتب وشاركت في العديد من المؤتمؤات على مستوى العالم، الحكم ضدي دون قراءة ما أنجزته على مدار الستين عامًا الماضية لا يجوز. لقد دفعت ثمن أفكاري وما أدعو إليه؛ تم فصلي في عهد الرئيس السادات، وجُردت من ألقابي في عهد عبد الناصر، ولم أكتب في جريدة زالأهرامس إلا بعد ثورة يناير.
أما الحديث عن العلاقة المراوغة بين المثقف والحاكم، ولماذا لا تتحول ثقافة السلطة إلى سلطة الثقافة، فلا بد للسائل أن يشكو نفسه بدلًا من أن يشكو السلطة، إن كانت سلطة الثقافة مؤثرة ستسود، وكونها غير سائدة يعود إلى أنها غير مؤثرة.
وبخصوص القول المثار بأن ابن رشد في علمانيته كان ممثلًا للخاصة، ومن ثم فإنه ليس مستعدًا للتنازل عن عرش الفلاسفة للعامة، وهو ما يتناقض مع ما أدعو إليه، فإنني أزعم أن من كتب هذا الكلام في حالة ثبات دوغماطيقي ولم يقرأ شيئا مما كتبت، فابن رشد كان له منطقان: منطق النخبة ومنطق الجماهير، منطق النخبة يعتمد على استعمال العقل، ومنطق الجماهير يعتمد على التجربة، وهو يؤكد على ضرورة رفع مستوى العامة إلى مستوى النخبة لكي ننقلهم من منطق التجربة إلى منطق العقل.
العقل الجمعي
العقل العربي متهم بالعجز والعيش في سجون الماضي. ما المقصود بالعقل العربي هنا؟ هناك الكثير من الكتب عن العقل الجمعي في كل شعب من الشعوب، فهناك كتب عن العقل الياباني، والعقل العربي والعقل اليهودي، والعقل البدائي، وكتب أخرى عن عقول أخرى. هناك عقل عام موجود بحكم التاريخ ومسار المجتمعات. ويتكون عقل يحتضن الأفكار المشتركة، مثل قولنا: عقل فرعوني وحضارة فرعونية. علينا أن نحلل العقل الجمعي، عندما نقول الثقافة العربية فهذا يعني وجود عقل عربي، كل الفئات متداخلة وتكوِّن شيئًا مشتركًا يتم دراسته.
الفنون والتغيير
فيما يتعلق بعجز الفنون عن التغيير، فلا بد لمن ينتقد رأيي أن يقرأ كتابي زقصة الجمالس، الفن يعتمد على العاطفة أكثر من العقل، ويعتمد على الإحساس أكثر من المجرد حتى في الفن التجريدي. الفن أول شيء اخترعه الانسان قبل الحضارة الزراعية، إنسان عصر الصيد كان يدخل الكهف ويرسم حيواناً بدون رأس، يعني بذلك أنه قتل الحيوان، عجز عن قتله خارج الكهف فقتله في رسوماته لأن الأسطورة كانت تتحكم.
مع تقدم الإنسان وقدرته على تغيير البيئة بدأت تتغير نوعية الفنون، مع قدوم الثورة العلمية والتكنولوجية حدثت حضارة رقمية تحوّل الألفاظ إلى أرقام ورموز، اللغة التقليدية يحدث لها نوع من الانكماش، برامج الكمبيوتر تحل محل قواعد اللغة، البرامج خالية من العاطفة، التجربة كانت بإعطاء الكمبيوتر برنامج كيف يصنع بيتًا شعريًا أو قصيدة عن الحب، الكمبيوتر كتب قصيدة عن الحب أشاد بها النقاد، وهذا تحويل للعاطفة إلى معادلات رياضية، وبالتالي تلاشت العاطفة. في هذا الإطار تعبير الشعراء والفنانين عن العواطف سيضعف تأثيرها على المتلقين لأنها ستكون متخلفة عن الثورة العلمية والتكنولوجية، هناك عملية تسريع للزمن ما جعل الإنسان يعيش في هذا القالب، الآن من الصعب وجود فيلسوف على النمط التقليدي في كتابة مجلدات فلسفية ضخمة، لذا كان الإبداع في الكتابة الفلسفية ضرورة في الوقت الراهن استجابة لمتغيرات العصر. في الوقت الحاضر الواقع أكثر ثراء من الخيال، لا يوجد خيال متجاوز للواقع ولكن ما يحدث هو العكس، الفن يغير في مجال الفن وربما يصنع ثورة في مجاله ولكنه لا يغير في الواقع.