تشكيل

لا أذكر كم مرة عرضت نفسي لهذا الموقف، أو عدد الخيبات التي منيت بها إثر كل مرة.
هي محاولات النوم اليائسة في كل ليلة رسمت على جدار معدتي مساحات تضيق حيناً وتتسع أحيانا، كما لو أنها خطوط ابتدائية لرسم أول: ابتسامة وجه، مثلاً.
لا تكون هذه المحاولات إلاّ في جوف عتمة ما قبل النوم.
وفي كل ليلة يحدث الأمر نفسه: أحضر مساحة لوحتي، وألوان خطوطي، وأحاول رسم ابتسامة وجهه التي لاحت فوق ملامحه ذات مساء.
أحب أن أراه في فجر ضبابي كثيف. هذه الصورة لم تفارقني قط. أقبض على الوجه متحكمة به، وأعيد تشكيله كما يحلو لي. غير أن الألوان تذوب تماما داخل المساحة.
أعيد المحاولة، أبدأ بالعينين فأجرّب رسمهما من جديد، أضيق المسافة بينهما، وأمنحهما لونا عسلياً خفيفاً هذه المرة، ثم أرسم فوقهما حاجبيه، ولا أنسى الشاربين الكثين. أمنحهما هما أيضا، لوناً جديداً: الأبيض.
هكذا أبدّل في وجهه لون عينيه ليصير أقل تركيزا، ولون شاربيه ليصبح أكثر بياضاً.
خطوط ملامحه لم تتضح تماماً بعد. لكنْ ثمّة لون آخر جديد يومض على استحياء في جزء صغير من المشهد. ربما مزج ألوان الأوراق الذابلة بلون عينيه الجديد قد أخرجه. لقد أحببته لولادته العفوية هذه، فأتناسى عشقه للون الرمادي، وأصر عليه.
ولا أنسى الأنف: دقيق يبدأ من فراغ بين عينيه الجديدتين في الأعلى، ليمتد فوق شاربيه الأبيضين تماماً، دون شائبة تعكّر وضوحهما الناصع.
أدع ألوان لوحتي تستقر في المساحة، وأحدّق في هواء الغرفة الباردة. أغمض عيني لأتحسّس هذه البرودة المحبّبة، كما لو كانت جسماً ليناً يتسرب بين أصابعي، وأفتحهما من جديد.
لا جديد.
أتغاضى مستحضرة فنجان قهوتي البارد. أرشف بقيته، وأهم بفتح النافذة، فأرى ما لا يراه غيري وقد حدّقت جيداً: عند جدار السور الخارجي لبيتنا، مقابل نافذتي نصف المفتوحة الآن ثمة رجل ينحني على امرأة تستند بظهرها على الجدار. لا يعبآن بالهواء الخريفي الموغل في برودته الليلية:
“إنه يقبلها بالتأكيد”.
فكرت، ثم تذكرت على الفور بأنني نسيت أن أرسم الفم.
لوهلة خطر لي أن أخرج لأراقبهما من مسافة أقرب، لكنّني عدلت عن هذا لأنه سيكون سلوكا أرعن، واكتفيت بمتابعتهما من النافذة. بهدوء لا يقطعه سوى حفيف الأوراق المتطايرة مع هبات الهواء.
رأس الرجل يغيب في جسد المرأة، يغطس في نصفها العلوي، ربما يقطف زهرة ثدييها، أو لعله يتمسك بالدفء اللاهث من شفتيها. تلهيني افتراضاتي قليلا، فأراه وقد انفصل عنها لبعض الوقت. لكنه، وكما أراه متذبذباً يرتعش، “ربما البرد هناك، أو انغماري بالمشهد هنا” يظهر ثانية ليغيب في المرأة التي هبطت إلى الأرض.
تذكرت وقت أن فقدت بكارتي، وكنت حينها قد بكيت. بكيت قليلاً، قليلاً فقط، فيما كان يهددني في حضنه الدافئ، كانت ابتسامة زهو ترتسم فوق وجهه.
ابتسامة أحاول أن أرسمها كل مرة، وأفشل دائماً. ابتسامة لن أراها ثانية، لأنها، كما أدرك الآن، لن تتكرر أبداً.
لم أعد لأكترث بما يفعلانه عند الجدار، على الأرض، إذ صرت أرى تلاشيهما في بعضهما أمراً بارداً مثل وحشة الليل الباردة، فأغلقت النافذة.
ألواني تجف وتبرد في مساحة لوحتي الناقصة أبداً.
وأذكر أنّي حينما سقطت في نوم جاء أخيراً، عند الفجر تقريباً، كنت قد بدأت أنسى أحداث الليلة. ليست كلها، سوى أنني أضم وسادتي فوق جدار المعدة الذي تداخلت ليونته بخطوط ألواني المتلاشية فوق الملاءة، والسجادة، وإطار النافذة المغلقة التي تحفظ في الداخل هذه الأوراق، فلا تتطاير.