جمهورية مريم
فريق تلفزيوني ياباني من رجلين وامرأة أثار الحادثة القديمة وأعادها حيّةً بطريقة فيلمية حافظت على واقعيتها المأساوية كما حصلت.
كانت مصادفة سياحية وإعلامية بذاكرة رجل عجوز تفتحت في لحظة استرخاء حينما زار العاصمة مع فريقه التلفزيوني المكوّن من مصورة شابة وصحفي متدرب.
طاف بزورق خشبي تراثي على نهر دجلة مستعيداً ذكرى ثلاثين سنة مضت حينما كان في بغداد يرسل تقاريره الصحفية إلى التلفزيون الياباني بقناته الرسمية أثناء القتال الطائفي عام 2006.
يرأس الفريق روائي وإعلامي معروف في طوكيو اسمه «هيروشي» من أنصار البيئة الخضراء هو مَن أثار الحادثة التي نساها الناس وتعاقبت الأجيالُ على نسيانها بحوادث أكثر دموية ورعباً تلتها، وهدأت النفوس بعد أكثر من مناسبة انتخابية تسيّد فيها حزب إسلامي رئاسة الوزراء أكثر من مرّة وابتلع مؤسسات الدولة في كلّ مرة ودائماً كان يترك وراءه ملفّات فساد وفضائح مالية وإدارية حتى أدخل البلاد في بحر كبير من الفساد والميليشيات الدينية الطائشة والبطالة والجريمة وانتهاك حقوق الإنسان على أوسع نطاق.
وعندما طاف به الزورق القديم على صفحة النهر ومر به من تحت جسر الجمهورية تطلع إلى الضفة الأخرى المتآكلة. امّحت الصورة القديمة كلياً. ومع أنه لم يتغير شيء، إلا أن هيروشي وهو يستعيد ثلاثين سنة تقدمت إلى ذاكرته العجوز وجد تلالاً من التراب تقدمت إلى النهر وسدوداً غير مكتملة دخلت بألسنة رمادية وتوقفت وصنعت بما يشبه الجزر العشوائية.
تتوهج ذاكرته الأربعينية السابقة في لحظة الزورق والنهر والحريق فيغرق لحظات في الماضي الذي مضى وهو يتأمل الضفة النارية التي اشتعلت ذات يوم وقبضت على قرية سعيدة وهي تحاول أن تتخلص من حربٍ محلية وأحالتها إلى ركام وقتلت فقراءها وعُزّلها بطريقة مجنونة.
لم يلفته بناء حديث سوى بعض العمارات الواطئة التي يغلفها الزجاج الأخضر والأزرق المُترب خلف الشارع العام. كما وجد النهر منحسراً كثيراً كخاصرة مريضة وقد زحفت عليه أزبال العاصمة ونفايات الصرف الصحي والتلال الترابية المتعرجة التي وصلت إلى منتصفه وعَلَتْ عليه كرفانات وغرف طابوقية ببناء كيفي من البلوك الرمادي بما يشي بأنّ النهر يحتضر ويتنفس بصعوبة .
يستحث ذاكرته أكثر في لحظة النهر المنسابة مع رجل الزورق بفريقه الصغير الذي بقي يتأمل المكان ويشمّ روائح نهرية مختلفة اختلطت عليه.
طلب من رجل الزورق أن ينحدر به أكثر جنوب النهر وكانت عيناه تتطلعان إلى الضفة القريبة، والبنايات القديمة تمرق من أمامه فتستدعي له صوراً كادت تغيب عن ذاكرته لولا هذه الزيارة التي أعادته إلى النهر مرة أخرى وأعادت فيه يوماً لخّص مأساة الناس وحيرتهم عندما وُضِعوا بين منشار الطوائف المتقاتلة.
يوكي .. صوّري كل هذه الضفة..
أمر الفتاة المتهيئة وهي تتلقى نسائم باردة فشرعت بتصوير الضفة المتآكلة من دون أن ترى زاوية فنية تسعفها بلقطة نهرية تستفز براعتها التصويرية، وبشكل لا إرادي أخذ هيروشي يتحسّس موضع إصابته بطلق ناري ذات يوم حينما حاصره حريق القرية التي بناها رجل خرج من العاصمة بوصايا وأفكار ومواقف كانوا يسمونه «الأستاذ» فتبعه فقراء البغداديين الذين هربوا من بطش الميليشيات المتناحرة والتجأوا إلى قرية من صفيح وخشب مع ذلك النبي الذي يشبه غاندي إلى حد كبير.
ما يزال وخز الطلقة يعيد إليه كابوساً وحريقاً وحصاراً وموتاً تركه في لحظة عجائبية حينما اختلط النهر بالدخان والرصاص والصراخ.. لكنه الآن يعود بعد ثلاثين سنة إلى المكان ذاته.. إلى دجلة الذي أغرق الكثيرين وحمل بين أمواجه الكثيرين أيضاً إلى منافذ الخلاص في يوم عصيب لا يمكن له أن ينساه.
تلتقط المصوّرة الضفة بأكملها وكانت ترى خرائب قديمة متروكة وبقايا مكان تكوّم على بعضه وسواداً يصبغ نخلات محترقات بقيت على احتراقها وصفائح متراكمة وما يشبه البيوت الصفيحية ارتمت على لسان النهر أكلها الصدأ والوقت..
قال بصوت لم يفهمه رجل الزورق وهو يتأفف:
النهر يمضي إلى المستقبل مهما كانت الظروف.. والناس تموت من دون أسباب .
لم تكن مريم مهيأة أمام الكاميرا الصغيرة التي فاجأتها بعد عودتها من النهر القريب لكنها ابتسمت للوجوه الثلاثة المتشابهة وهي تتباطأ وعيناها متسعتان بسوادٍ جاذب.
كانت تنوء بحملها من الملابس المغسولة في سطلتين رصاصيتين وهي تصعد المنحدر باتجاه حبل الغسيل المعلق بين شجرتي صفصاف، والكلب الأبيض الضخم الذي تتقاسمه ألوان سوداء ورصاصية يتقافز أمامها، في حين بدأ الفريق التلفزيوني يحاصرها بالكاميرا الرقمية وعيناها السوداوان تتفرسان بالوجوه الغريبة التي انفتحت عن ابتسامات جماعية أشعرتها بأن الحيّ أخذ طابعه السياحي بشكل من الأشكال ما دام اليابانيون وصلوا إلى هنا.
تركت السطلتين على الأرض وزرّرت أزرار ثوبها ابتداء من عنقها، وجسدها ينكمش في لسعة برد بدأت من يديها العاريتين المبلّلتين.
قال المترجم العراقي الشاب للتوضيح:
فريق عمل ياباني يزور المكان ويتوخى الاطّلاع على الحيّ الأخضر بالرغم من الظروف الصعبة التي فيها العاصمة.
يتطلع الروائي الياباني المخضرم إلى مريم بعينيه اللتين غطاهما شعر حاجبيه الأبيض النازل كثيراً عليهما فيرى ببصيرة ثانية شيئاً بذاكرة لا يمكن أن تخذله في مرأى النهر والحريق القديم..
ماء ونار.. عنصران متضادّان يفتحان طريقي الموت والحياة أمامه ذات يوم.
كان يقول لنفسه.. إنها ثلاثون سنة.. ما أقصر العمر مهما طال..!
تقدم إليها وصافحها بحرارة وهو يديم النظر بعينين حافظتا على بريق سواد لامع فيهما:
ذ أنا هيروشي.. روائي من اليابان ومن أنصار البيئة الخضراء.
ذ أهلاً وسهلا .. شرفتمونا بهذه الزيارة.
تطلعت إلى الفريق الصغير وابتسامة تعلو وجهها الجميل.
أحنت المصورة الشابة رأسها ومثلها فعل الصحفي المتدرب.
قال الياباني بود:
الدنيا صغيرة سيدتي..
بقيت تنظر إليه من دون أن تقول شيئاً سوى أنها ابتسمت، كأنما الرجل لا يفهم ما يقول أو أن المترجم لم يكن حاذق الترجمة.
كان يرى جمالاً قديماً وأنوثة لا تخطئها العين وقواماً قد رآه أو لم يره وهو مأخوذ منذ أيام بجريان النهر الذي لم يتوقف منذ ثلاثين سنة، حينما عاد هذه المرة ليرى الحياة البغدادية بعد الحروب التي كانت فيها منذ ذلك الوقت وهي عودة سعى من أجلها كثيراً ليكون في هذا الجوّ الذي فارقه متخلصاً من موت أكيد لكن بذرة الرواية وجيناتها تحفر فيه الكثير منذ ذلك اليوم التعيس..
تدخّل المترجم بشرح توضيحي كأنه يحفظه:
الفريق يريد استطلاع الحي الأخضر بعدما تأكد أنه المكان الوحيد الذي أنشئ بعد الحرب، وبعد القضاء على دجلة بالدفن وإنشاء الشاليهات والكازينوات والجزر الترابية التي خنقته.
لم تركز كثيراً بما قاله المترجم فهو من معتاد الكلام مع المجاميع السياحية التي تصل الحي الأخضر بين فترة وأخرى لكنها استدركت قول الياباني كأنها وجدت لغزاً فيه ، غير أنها صرفت مثل هذه الفكرة، فالرجل كبير السن قد لا يعي ما يقول.. الدنيا صغيرة يا أستاذ.. صح.. وهي تدعوهم إلى البيت المحاط بالأشجار الفارعة.
همهم الياباني وهو يتطلع إلى الفضاء الأخضر المنتشر المعقود في الحي السكني المفتوح على فضاء واسع ويتشمم عبير أزهار تتفتح مع المطر، فتلبّسته روح المكان وهو يتنهد كما لو استعادت ذاكرته شيئاً ماضياً اكتنفه الحنين إليه.
فرق كبير بين العاصمة الميتة وهذا المكان الصغير الحي!
تطلع إلى الحي من أكثر من اتجاه: أزقة صغيرة متقابلة تكسو بيوتها أشجار وتفترع تقاطعاتها نافورات صغيرة وألوان تنفتح على واجهات البيوت. ثمّة أصوات لصِبية يلعبون ونساء خرجن إلى السوق ورجال يتناوبون في الظهور أمام عينيه وسيارات قليلة تتخاطف في الشارع العام.
هناك مساحات مفتوحة متباعدة وبر أجرد يلوح خلفها، لكنه اطمأن إلى ترتيب الحي الصغير وهو يستنشق هواء الشتاء فيه.
حدائق عامة واضحة في مسافات متقاربة بشكل دائري تتصل ببعضها بقناطر خشبية وتجري من تحتها شوارع قليلة السيارات والعربات التراثية التي تتخاطر بين وقت وآخر.
النهر الصغير يبدو كساقية تسير مع الشارع العام وتستدير باستداراته المتكررة، لكنه يمر على كل الأزقة بماءٍ صافٍ تلبط فيه أسماكٌ صغيرة ناعمة وتنعكس فيه ظلال الأشجار المتطاولة وشرفات البيوت الواطئة وألوانها المختلفة.
تشممهم الكلب ورافقهم إلى الصالة وقفزت دجاجات تركية منفوشة الريش بين أقدامهم وحطت عصافير مصوّتة بإلحاح كأنما تتشاجر على ياسمينة تدور على حديقة البيت مع ياسمينات واطئات كَسورٍ من الورد يحجز البيت عن امتداد البيوت المزينة بالأشجار.
قال الياباني كأنما ليستدرك القول الأول:
الدنيا أصغر من أن نحيط بها سيدتي.. قبل ثلاثين سنة كنت في بغداد.. وها قد مرّ العمر بلمح البصر..
لم يكن هيروشي واثقاً كثيراً وهو يخرج عن حزام العاصمة شبه المهجورة إلى بر عارٍ من البنايات ومظاهر الحياة. ومع أن أركان السفارة اليابانية طمأنوه بأن الطريق الذاهب إلى الحي الأخضر ممكن في مثل هذه الظروف؛ إلا أنه ومنذ ثلاثين سنة حينما رأى بغداد ودجلة وعاش حادثته الشهيرة وخرج منها جريحاً وأنقذه ليل النهر الجاري، ظل يعتمل في داخله يأس مرير من أن تعود الحياة كما كانت، وتركّز مثل هذا الشعور فيه كلما كان يقلّب بأرشيفه الفيلمي والصوري في طوكيو تلك المَشاهِد المريعة وحريق القرية واشتعال النهر وموت الحياة في أقسى كابوس عاشه مع الميليشيات الدينية المسلحة ذات يوم. وذات بغداد. وذات دجلة.
ظلت المرأة تنظر إليه وهو يبتكر الكلام كما لو يخرجه من روحه:
الدنيا هاتف جوال يا سيدتي. صغير وسريع العطب في الظروف الجوية المختلفة..
شمّ رائحة الحي كأنه يطرد من أعماقه رائحة أخرى زاحمته وهو يطأ المكان الجديد بروح أخرى أكثر تقبلاً لمكان ما عاشه يوماً ما بطريقة مجنونة.