من التحرير إلى الصراع
يفرض موضوع الهوية نفسه بمجرد أن نطرح على أنفسنا سؤال “من نكون؟” أو “من نحن؟”. وقد تمّ طرح هذه المسألة دائما في صيغة التساؤل، مما يفسر انتشار عبارة “إشكالية الهوية”، الشيء الذي جعل زغموند بومان Z. Bauman يؤكد في كتابه La vie en miettes (Expérience postmoderne et moralité) بأنه “ولا مرة ‘أصبحت’ الهوية مشكلة، ذلك أنه لا يمكن أن توجد أصلا إلا كمشكلة، فقد كانت مشكلة منذ ظهورها، وبرزت منذ البدء بوصفها مشكلة”. وهذا الوجود كمشكلة هو بالذات ما يميّز اليوم مسألة الهوية في العالم العربي حيث تسيل أنهار من الدماء تحت غطاء الهوية إن ضمنا أو علنا، وتتعرض أوطان لمخاطر التقسيم والزوال نتيجة لذلك، فالهوية بمعناها الجماعي هي ظاهرة تدميرية وتأسيسية في ذات الوقت. تدمر أوطانا ودولا وتبني أوطانا ودولا. لقد شاهدنا ذلك في ما كان يسمى سابقا الاتحاد السوفييتي الذي كان يشمل داخله عدة هويات جماعية استقلت بعد ذلك كل واحدة بنفسها مؤسسة دولا ومفككة في ذات الوقت الدولة التي كانت جزءا منها. يمكن أيضا للهوية أن تكون أداة تحرير في مرحلة تاريخية معينة وأداة إقصاء وهيمنة في مرحلة أخرى. لقد تحررت الجزائر، مثلا، من السيطرة الاستعمارية باسم ثنائية العروبة والإسلام، لكي يتم تحويلها فيما بعد، يعني بعد الاستقلال، إلى أداة إقصاء للهوية الأمازيغية.
إذن وطيدة بين الهوية كظاهرة جماعية والوجود السياسي والأيديولوجي للجماعات البشرية. إنها ركن أساس في الوجود كشعب أو كدولة أو كحزب أيضا تبعا لسياقات معينة، مثلما لها دور في عقد التحالفات والارتباطات وفي الديناميكية التاريخية ككل. لكن ولئن كانت الهوية الجماعية ليس لها تجسد سياسي بالضرورة، إلا أن كل هوية جماعية تحمل في طياتها قابلية التعبير السياسي عن وجودها في ظل ظروف وعوامل معينة لا يسعنا المجال هنا للتطرق إليها. ويبدو البعد السياسي في الهوية الجماعية identité collective هو ما يميزها بالأساس عن الهوية الفردية الموجودة كذلك ضرورة في أيّ هوية بالمعنى العابر للأفراد، ذلك أن هذه الأخيرة، على الصعيد الفردي، لا تقضي على الاختلاف الذي هو قوام الهوية، مما يجعل الهوية الجماعية لا تعني حالة انسجام مطلق أو تطابقا تاما بين مختلف مكوناتها. وعلى العموم يمكن القول بأن الهوية الجماعية ذات طابع مزدوج، فهي من جهة جامعة على أساس أن أعضاءها يملكون أو يعتقدون بأنهم يملكون مقومات ذاتية خاصة بهم، لغوية، دينية، عرقية أو غيرها، ومن جهة أخرى مُؤسسة للاختلاف، الاختلاف عن الآخر، وعليه فهي تؤسس الذات والآخر معا.
وبالرغم من أن عامل الهوية، بمختلف تجلياته وأنماطه، كان دائما فاعلا في التاريخ وفي علاقات الجماعات البشرية بعضها ببعض، إلا أنه لم يصبح موضوع دراسة واهتمام ولم يتبلور كمفهوم نظري إلا في العصر الحديث، وبالذات في خمسينات القرن الماضي، في سياق الأبحاث التي دارت في إطار علم النفس الاجتماعي، في أميركا، وذلك تحت تأثير مسألة إدماج المهاجرين المنتمين إلى ثقافات أخرى والوافدين إلى هذا البلد. ومع ذلك يمكن اعتبار عبدالرحمن ابن خلدون رائدا في هذا المجال، إذ وإن لم يستعمل مفهوم الهوية، إلا أنه يمكن تماما أن نرى في مفهوم “العصبية” التي فسر بها آلية وديناميكية التغيرات السياسية في مجتمعات شمال أفريقيا، نمطا مهيمنا للهوية كفعالية ومحرك سياسي في عصره.
التاريخ والهوية في العالم العربي
في العالم العربي حيث ارتبطت الهوية على الدوام بالتوظيف السياسي والأيديولوجي، توجد صلة وثيقة بين الهوية والتاريخ، فتعقد المسألة الهويّاتية في هذه المنطقة وطابعها الإشكالي مرتبط بشكل أساس بتاريخ هذه المنطقة، فسواء تطرقنا إلى مكوّنها اللغوي “العربية” أو الديني “الإسلام”، وهما من بين المكونات الكبيرة لهذه الهوية قوميا وقطريا، مع اختلافات لا يستهان بها من بلد إلى أخر، كان للعامل التاريخي في كل مرة دور هام في الطابع الإشكالي للهوية المؤسسة على هذين المعطيين. فبالنسبة إلى العامل الأول، نعرف بأن بعض شعوب المنطقة التي تُنسب لها العروبة، مثل بلدان شمال أفريقيا وكذلك مصر والسودان والعراق وسوريا، لم تكن في الأصل بلادا ذات “هوية” عربية، فقد دخلت إليها اللغة العربية تاريخيا عن طريق الفتح الإسلامي، لكن دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى امّحاء الهوية الأصلية، الشيء الذي يفسر التوترات التي صاحبت على هذا الصعيد قيام الدولة الوطنية بعد الاستقلال وما اقتضاه ذلك من تعريف للهوية، وتبعا لذلك للغة الوطنية والرسمية للبلاد.
أما بالنسبة إلى المكون الثاني، يعني الديني، لهذه الهوية، سواء نظرنا إليها من حيث الأصل (الإسلام) أو الفرع (الطوائف)، لا يمكن بدورها فصلها عن التاريخ العام للمنطقة. إنه لمن المعروف مثلا، إذا ما أردنا أن تقتصر إشارتنا فقط على ثنائية سنّة/شيعة، بالنظر إلى كونها أبرز تجلّ اليوم لمعضلة الهوية في المنطقة العربية، أن هذه الثنائية الإشكالية هي نتاج لحظة تاريخية تحيل إلى الصراع حول السلطة بعد موت الرسول، لكنه تمّ التسامي بها لتصبح بذلك لحظة تأسيسية لهوية أصبحت اليوم أداة للتوظيف السياسي الذي كثيرا ما تنتهي إليه الهوية بشكل عام، لما تحمله هذه الأخيرة من قابلية للتجييش والتعبئة وتوظيف الجماهير ومراقبتها، ذلك أن الهوية حالة وجدانية، عاطفية، بالأساس.
ولا تشذ عن هذه العلاقة بالتاريخ، الهوية العربية في بعدها الجغرافي المتمثل في تجسدها في الدول الوطنية، أي في الهويات القطرية التي تتشكل منها “جامعة الدول العربية” اليوم، فقد كانت بدورها نتاجا تاريخيا يحيل إلى ما يعرف بتقسيم “سايكس- بيكو” وإلى إفرازات الظاهرة الاستعمارية بشكل عام؛ مرحلة يمكن تسميتها بمرحلة خروج العرب من التاريخ، بالرغم من أن البعض يدرج أيضا الفترة العثمانية كجزء من مرحلة خروج العرب هذا عن الفاعلية التاريخية ليتحولوا بعد ذلك إلى هامش. يمكن القول إذن بأن الهوية العربية نتاج تاريخي، شأنها في ذلك في الحقيقة شأن كل هوية جماعية.
ومما سبق نستنتج أيضا بأن هذه الهوية تتميز بالتعقيد والتركيب والتداخل، فيها عناصر التماثل كما فيها عناصر الاختلاف. وهذا يعني وجود أكثر من هوية داخل الهوية الواحدة، فالهوية الإسلامية تشمل، مثلا، الشيعي، ولكن هذا الأخير يختلف عن غيره من المسلمين في ذات الوقت كما يدل على ذلك امتلاكه لاسم تعريفي جماعي ديني خاص به، يجعله مماثلا ومختلفا في ذات الوقت عن بقية شركائه في الدين. لكن هذا لا يعني أن طابع التعقيد والتركيب والتداخل للهوية لا يتجلّى إلا على هذا النحو، بل هو يستمر على مستويات أخرى، متجليا أيضا في العشائرية والقبلية التي جعل منها ابن خلدون، كما سبق القول، العامل المفسر لديناميكية التغيرات السياسية الكبرى في مجتمعات شمال أفريقيا في عصره، والتي لا تزال تفعل فعلها في الدولة العربية إلى اليوم في الواقع، وذلك جنبا إلى جنب مع عوامل الهوية الأخرى الدينية وغير الدينية.
الهوية القومية
ويمكن القول بصورة عامة إن المكونات الهويّاتية السابقة لم يكن لها دائما، في الخطاب والممارسة السياسيين العربيين في القرن الماضي والحاضر، نفس الدور ولا نفس الأهمية أو الحضور ولا نفس كيفية التوظيف والتأثير، ولا اشتغلت دائما في انسجام وتناغم فيما بينها. ففي مرحلة ما بعد التحرر من الاستعمار، مرحلة جمال عبدالناصر وحزب البعث، تم التركيز بالأساس على المكون القومي أي العربي لهذه الهوية، وذلك على حساب المكون الديني المتمثل في الإسلام. وقد كان لطابع المرحلة المتميز آنذاك عالميا بسيادة أيديولوجيتين كبيرتين، تتمثل إحداهما في الماركسية أو الاشتراكية، أن أسهم في هذا التوجه الذي كان من نتائجه تهميش الحضور الهويّاتي والسياسي للإسلام، ممّا يفسر عدم بروز الظاهرة الطائفية الدينية بشكل عام في تلك الفترة. كما أدّى تمركز الهوية حول مبدأ العروبة إلى حدوث أزمة هوية في بعض البلدان كالعراق، حيث تعيش أقلية كردية راحت تطالب بحقوقها الثقافية كمكوّن هوياتي جماعي متميز داخل الهوية الجماعية العراقية ككل. بينما أدى ذلك في الجزائر إلى نزاع هوياتي داخلي، عرف تطورات دموية أحيانا، استمر سنوات طويلة. ذلك أن التركيز على البعد القومي للهوية العربية على صعيد تعريف الهوية الوطنية، قد استتبع ليس فقط تكريس اللغة العربية كمكوّن لغوي وطني ورسمي وحيد، بل إقصاء البعد الأمازيغي، في الجزائر، كمكوّن كامل الحقوق في إطار هذه الهوية.
صار الآخر إذن “شيطانا أكبر” أو “غربا صليبيا” بعدما كان في المرحلة السابقة “إمبرياليا” أو “شيوعيا”. ذلك أن التغير الذي يحدث على صعيد إدراك “الأنا” كهوية جماعية لا يمكن أن يتم دون أن يرافقه تغير على صعيد إدراك الآخر
وكان لا بد من تضحيات كبيرة وسنوات طويلة من الاضطرابات للاعتراف رسميا بالبعد الأمازيغي لهوية الشعب الجزائري وباللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية. بينما أدى الأمر أخيرا في العراق، بعد مآس دموية طويلة، إلى تأسيس ما يشبه دولة داخل الدولة، بعد قيام كردستان العراق، على إثر الغزو الأميركي، كإقليم يتمتع بالعديد من صلاحيات الدولة، مثل امتلاك لغة وطنية ورسمية وعلم خاص وقوات مسلحة وتمثيل دبلوماسي.. إلخ.
وفي هذه المرحلة، يعني مرحلة هيمنة الهوية القومية القائمة على أحادية هويّاتية متمثلة في العروبة، كان الآخر يظهر بالأساس كوجود أيديولوجي وسياسي يتمثل في ما كان يسمى بالإمبريالية الأميركية وحليفتها الصهيونية، فيما الأنظمة العربية ذات النظام الوراثي التي كانت معارضة للقومية العربية بوصفها أيديولوجية تسعى إلى توظيف الهوية العروبية كمشروع وحدوي، كانت تبلور خطابا سياسيا يرتكز على خلفية دينية سلفية، قائما بالتالي على الهوية الدينية، يظهر فيها الآخر متمثلا في الشيوعية باعتبارها ظاهرة إلحادية.
على أن هزيمة 1967 أمام إسرائيل وقيام ثورة الخميني في إيران، سنة 1979، سيؤديان إلى أفول نجم الأيديولوجية القومية، ومن خلالها العروبة كمقوّم هوياتي مهيمن، ليحل محله تدريجيا المقوم الهويّاتي الديني، أي الإسلام. لكن مثلما أن أيديولوجية العروبة بوصفها مقوما هويّاتيا قام على الأحادية وبالتالي على الإقصاء، قد تمخض عن نتائج وخيمة، كما تجلّى ذلك فيما جرى في العراق وأيضا في الجزائر، فإن اتخاذ الإسلام كمقوم هوياتي مهيمن ومتسلط داخليا، وبالتالي عدم الإقرار بدوره بمبدأ الاختلاف مؤكدا على المماثلة فقط، قد أفضى بدوره إلى عواقب سلبية، لعل انفصال الجنوب (المسيحي) عن السودان ذي الأغلبية المسلمة، وتحوّله إلى دولة مستقلة، يمثل النتيجة الأكثر درامية.
كما أن عودة الهوية في بعدها الديني الإسلامي، خصوصا في إيران، وتحولها إلى المرجع الأساس سيعدل صورة الآخر ليبدو، على ضوء منظور هذا “الأنا” القديم – الجديد المتمثل في الهوية الإسلامية، بدوره في صورة دينية، تعبر عنه، مثلا، مفردات من قبيل “الشيطان الأكبر” أو “الغرب الصليبي”. لقد صار الآخر إذن “شيطانا أكبر” أو “غربا صليبيا” بعدما كان في المرحلة السابقة “إمبرياليا” أو “شيوعيا”. ذلك أن التغير الذي يحدث على صعيد إدراك “الأنا” كهوية جماعية لا يمكن أن يتم دون أن يرافقه تغير على صعيد إدراك الآخر، وكذلك على صعيد الخطاب اللغوي المتداول بشأنه. علما أن هذا الانتقال من مرجع هويّاتي إلى آخر، يعني من العامل الهوياتي العروبي إلى العامل الهوياتي الديني الذي ظل مهيمنا في الشارع أساسا، لم يتم بمعزل عن ديناميكية علاقة الآخر بـ”الأنا”، تلك العلاقة المتميزة بالهيمنة والسيطرة. وإلى جانب هذا، فإن هذا الانتقال من المرجع الهويّاتي العروبي إلى المرجع الهويّاتي الديني، وذلك على صعيد الوعي الجماهيري، يعني في الشارع كما سبق القول، لأن هذا التحول لم يتشكل كخطاب رسمي بالأساس إلا في إيران، هو في بعد من الأبعاد نتاج إخفاق الخطاب العروبي القومي في مواجهة التحدي الذي فرضه الآخر، وربما الأصح نتاج نهاية دوره التاريخي، باعتبار أنه كان قد ساهم في التحرر من الاستعمار في مرحلة من المراحل.
وينبغي التوضيح بأن “صحوة” الهوية الدينية لم تقم مباشرة على أنقاض الهوية القومية التي أصيبت في الصميم بعد هزيمة 1967 أمام إسرائيل، ولم تحل محلها فور وقوع هذه “النكسة”. ذلك أن تراجع الأيديولوجية القومية قد حلّت محلّها الأيديولوجية القطرية التي جاءت مع السادات، الرئيس الذي قتل فيما بعد برصاصات “إسلامية”. فمجيء الرئيس السادات، على إثر الوفاة المباغتة للرئيس عبدالناصر، كان بداية الانكفاء على الهوية بمعناها القطري، ذلك الانكفاء الذي جسدته اتفاقية كامب ديفيد التي أدت إلى تهميش القضية الفلسطينية، صاحبة الأولوية في الخطاب القومي العربي، حتى أنه يمكن القول بأن كامب ديفيد كانت نكسة جديدة للهوية القائمة على الانتماء القومي العروبي وعلى قضيتها المركزية، فلسطين، بعد تلك التي مثلتها نكسة 1967 العسكرية. وهما نكستان مترابطتان بالتأكيد. فقد ساد في مصر، التي كانت القلب النابض للخطاب القومي العربي، بعد هذه الاتفاقية، خطاب هويّاتي قطري يمكن وصفه بالانعزالي، يركز على اختلاف وتميّز هويّة مصر، ويدعو إلى خلاص هذا البلد الأكبر في المنطقة بمعزل عن مصير العالم العربي وعن مصير قضيته المركزية المتمثلة في القضية الفلسطينية. وقد أدى هذا الخطاب الانعزالي إلى تقزيم مصر في النهاية بعدما أفقدها تأثيرها العربي التقليدي وحوّلها، خصوصا في عهد حسني مبارك، إلى أداة طيعة بين أيدي الولايات المتحدة الأميركية، العدو رقم واحد تقليديا فيالخطاب الهويّاتي القومي العربي.
إذا كانت عودة الهوية الإسلامية إلى واجهة الأحداث، وذلك بوصفها هوية كبرى وجامعة، قد جلبت معها إعادة صياغة رؤية كل من الأنا والآخر لبعضهما البعض، فقد جلبت معها أيضا إعادة إحياء معطيات هويّاتية ليست مشتركة بالضرورة
إعادة صياغة نظرة الآخر
إخفاقات وانحرافات الأيديولوجية الهوياتية القومية والقطرية اللتين اشتركتا في الاستبداد، فيما تميزت هذه الأخيرة، إلى جانب ذلك، بالفساد والتوريث، خصوصا بعد المرحلة التي أعقبت كامب ديفيد، هي التي ساهمت في “صحوة” الهوية الإسلامية وصعودها. وقد أدت عودة هذه الهوية إلى الواجهة، وذلك في مختلف تجلياتها، على الصعيد الديني المحض كما يظهر ذلك في السلوك الاجتماعي للأفراد أو على الصعيد السياسي والجهادي، في شكل حركات ساعية إلى تغيير الأنظمة باسم الإسلام ( الفيس في الجزائر وحركات الإخوان المسلمين في بلدان العالم العربي الأخرى) أو في شكل مقاومة مسلحة للاحتلال الصهيوني ( حزب الله، حماس.. إلخ) أو في إطار ما صار يعرف بالإرهاب، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي ( الهجوم على برجي نيويورك في 11 سبتمبر 2001 بالأساس)، إلى تغيير نظرة الآخر تجاه العرب الذين صاروا يبدون للعالم بالدرجة الأولى كوجود قائم على هوية دينية بالأساس، علما أن عصرنا يتميز عموما بتراجع الهويات ذات الطابع الديني. كل ذلك أفضى في الأخير إلى ما صار يعرف بـ”فوبيا الإسلام”، الذي يمثل المظهر الأبرز للصراع الأيديولوجي الذي عوّض الفراغ الذي أحدثته نهاية الحرب الباردة، والذي تمثل صور الكاريكاتور المسيئة للرسول أحد أوضح تجلياته.
انبعاث الهوية الإسلامية
لكن إذا كانت عودة الهوية الإسلامية إلى واجهة الأحداث، وذلك بوصفها هوية كبرى وجامعة، قد جلبت معها إعادة صياغة رؤية كل من الأنا والآخر لبعضهما البعض، فقد جلبت معها أيضا إعادة إحياء معطيات هويّاتية ليست مشتركة بالضرورة بين جميع المسلمين، بالرغم من طابعها الديني وانتمائها إلى الإسلام، ونعني هنا الطائفية. وهكذا فإن الهوية الإسلامية العائدة بقوة لم تستطع لمّ شمل كل العرب، ناهيك بلمّ شمل كل المسلمين، إلا إزاء الآخر، وليس أبدا جمع شمل العرب أنفسهم. ذلك أن الانقسام الطائفي، الشيعي السنّي، ما كان في يوم من الأيام، إذا ما استثنيا المرحلة التاريخية المؤسسة له، بمثل هذه الحدة التي صار عليها منذ أن طفت وطغت على الساحة العربية الهوية الإسلامية في مختلف تجلياتها. فهذه الهوية الدينية الطائفية (الشيعية أو السنية) صارت أكثر تأثيرا، وذلك على مختلف المستويات، لا سيما السياسي منها، في علاقات المسلمين والعرب بعضهم ببعض، من الهوية العابرة للطوائف المتمثلة في الإسلام ذاته. وربما يمكن القول بأن الهوية الطائفية في مرحلة هيمنة الهوية الدينية التي يمر بها العالم العربي اليوم، هي أقوى من تأثير الهوية المؤسسة للدولة الوطنية أي الجغرافية، إذا ما صدقنا الاتهامات التي توجه أحيانا إلى هذه الطائفة أو تلك بشأن ولاء أفرادها إلى دولة أجنبية تقاسمها الروابط الطائفية نفسها. لقد قيل ذلك في العراق وفي البحرين وفي سوريا وفي لبنان وفي غيرها من بلدان العالم العربي. وتشكل اليوم هذه الهويات المؤسسة للاختلاف داخل الهوية العابرة للطوائف، الوطنية منها والإسلامية كذلك، ليس فقط أحد المعوقات الكبرى لقيام المواطنة، بل تهديد لوحدة الدولة الوطنية نفسها (في العراق وسوريا خصوصا) فضلا عن إفراغها الديمقراطية من أيّ محتوى، بعد أن صبغتها بطابع الطائفية.
الطائفية والثورة
ويمكن القول بأن الطائفية جاءت كإحدى النتائج غير المتوقعة وغير المباشرة للثورة الإيرانية، ذلك أن هذه الأخيرة إذا كانت قد لقيت ترحيبا جماهيريا في مختلف بلدان العالم الإسلامي، فإن الأمر ليس كذلك بالضرورة على مستوى الأنظمة. كان لا بدّ في الحقيقة لهذه الثورة، كأيّ ثورة كبرى، أن تثير من المخاوف قدر ما تثيره من الترحاب. فكل ثورة تحمل معها خطر العدوى، وبالتالي الخشية من أن يتجاوز لهيبها حدودها الوطنية، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار، فيما يعني الثورة الإيرانية، وجود الطائفة الشيعية في عدة بلدان عربية، كالعراق والبحرين ولبنان واليمن وغيرها، يمكن أن تشكل وقودا أو جسرا للنظام الإسلامي الجديد، علما أن القائمين على الثورة الإيرانية أنفسهم كانوا لا يخفون عزمهم على تصديرها. كل ذلك انجرّ عنه إحياء الصراعات السياسية الدينية القديمة العائدة إلى زمن الفتنة بين علي ومعاوية، فكانت الحرب المدمرة بين العراق وإيران، التي تم أثناءها استنزاف قدرات النظامين، ثم المواجهات القائمة اليوم في سوريا والعراق واليمن.
الطائفية جاءت كإحدى النتائج غير المتوقعة وغير المباشرة للثورة الإيرانية، ذلك أن هذه الأخيرة إذا كانت قد لقيت ترحيبا جماهيريا في مختلف بلدان العالم الإسلامي، فإن الأمر ليس كذلك بالضرورة على مستوى الأنظمة
وغنيّ عن البيان أن الانتماء الطائفي ذاته ليس هو المشكلة بالضرورة، فهو على أيّ حال نتاج تراكم تاريخي يجد الفرد نفسه متأثرا به، يصيغ وجدانه، بهذه الدرجة أو تلك رغما عنه. وعلى هذا الأساس فهو إرث يرثه الفرد من ماضي مجتمعه كما يرث اللغة مثلا. ولكنه يصبح مشكلة حقيقية، عندما يتم تسييسه. وهذا ما حدث في العالم العربي وفي إيران أيضا، خصوصا وأن الطائفية كانت منذ البدء مشكلة سياسية في الجوهر. ومما ساهم في جعل العودة القوية للهوية الإسلامية تفرز الحالة الطائفية السائدة اليوم ما حدث في إيران بعد التحول من الثورة إلى الدولة وما صاحب ذلك من ظهور مصالح ذات طابع قومي استدعت استخدام الهوية الطائفية بوصفها أداة من أدوات النفوذ الخارجي، يعني كسلاح سياسي، قبل أن تستخدم كما يجري اليوم كسلاح عسكري.
ويمكن القول بأن تسييس الهوية الطائفية هو وجه من أوجه تسييس الإسلام كدين، فالظاهرة الطائفية لم تكن موجودة مثلا أيام هيمنة الخطاب الهويّاتي القومي. لكن منذ انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، وما أفرزته من تبعات على صعيد المنطقة، أصبحت الهويات الوطنية أو الجغرافية واقعة تحت تهديد خطر مكوّناتها الطائفية، ومن خلال ذلك وحدتها الترابية، خصوصا في لبنان والعراق وسوريا، ذلك أن الهوية، أيا كانت، تملك القابلية، في ظل ظروف معينة كالتي تعيشها اليوم بعض بلدان المنطقة، على الانشقاق عن غيرها والاستقلال بذاتها لتأسيس دولتها، كما حدث ذلك، مثلا، في ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا، نهاية القرن الماضي.
وإذا كان هذا الأمر ليس بعد في الوقت الراهن غير خطر يلوح في الأفق، فإن الآثار السلبية لتسييس الهوية الطائفية هي أمر واقع، كما يتجلى ذلك في إفراغ الديمقراطية والمواطنة من أيّ محتوى حقيقي (لبنان، العراق..) وفي تهميش الهوية الوطنية، يعني للهوية العابرة للهويات الجزئية، وما ينجر عن ذلك من تبعية طائفية للخارج، سواء على الصعيد الشعبي أو على صعيد النخب السياسية الحاكمة أو غير الحاكمة (لبنان والعراق نموذجا).
الخروج عن سلطة الهوية الجماعية
لكن وكما انتكس الخطاب الهويّاتي القومي وبعده الخطاب الهويّاتي القطري، يمكن القول بأن الخطاب الهويّاتي الإسلامي العائد إلى الواجهة يعرف بدوره، اليوم، حالة تأزم، لعل الهوية الطائفية وخروجها عن سلطة الهوية المركزية (الإسلام)، تمثل أبرز مظهر من مظاهر هذه الأزمة. وإذا كانت الهوية الإسلامية تحيل في الأصل إلى مفهوم الأمة، أي إلى واقع متجاوز للحدود القطرية والقومية، وهو الأمر الذي جلب للإسلاميين عموما تهمة الكوسمبولوتية بما يعنيه من ضعف الانتماء الوطني، كما فعل الباحث الجزائري علي الكنز، مثلا، في كتابه “خمسة دروس حول الأزمة”، فإنه لا يمكن تحقيق هذه الهوية عمليا في عصرنا إلا على صعيد الدولة الوطنية، نتيجة زوال نظام الخلافة. وهذا ما أرغم الخطاب الهويّاتي الإسلامي على الأخذ بعين الاعتبار للهوية الوطنية بمختلف مقوماتها، الجغرافية والتاريخية والثقافية والدينية. فاليوم لا وجود لهويّة إسلامية إلا وكانت بالضرورة مقترنة بجنسية بلد معين. وهذا الاقتران الحتمي بالجنسية الوطنية يؤثر وجدانيا وبالضرورة على معايشة الفرد لهويته الدينية المجاوزة لجغرافية بلده، مثلما أن هذه الأخيرة سوف تؤثر على نمط معايشته لهويته القطرية أيضا. وعليه فإن حديثنا عن انبعاث الشعور الهوياتي الإسلامي وهيمنته لا يعني بالضرورة نهاية تأثير الهوية الوطنية.
في محدودية الهوية الدينية
وقد حدا وجود الدولة-الوطن، بوصفها نمط وجود “الأمة” الوحيد في العصر الحديث، بالخطاب الهويّاتي الإسلامي إلى الانفتاح أيضا على مفاهيم وتصوّرات الآخر، ليس فقط على سبيل التكيف مع قيم العصر، بل أيضا من أجل استيعاب معطيات وتعقيد الواقع الوطني الذي تعجز الهوية الإسلامية بمعناها التقليدي الماضوي التعامل معه كمعطى موضوعي ينبغي أخذه بعين الحسبان. ولهذا الغرض تبنّى الخطاب الهويّاتي المتأثر بالدين، كالذي جسده الرئيس المصري محمد مرسي المطاح به، أثناء تجربته القصيرة في الحكم، مفهوم الديمقراطية المرتبط بالثقافة الغربية، يعني بثقافة الآخر، دون أن يعني ذلك في آن واحد حلا لمعضلة العلاقة بين الهويّة الدينية والدولة الديمقراطية، كما يدل على ذلك فشل تجربة مصر بعد الثورة. ذلك أن أحد عوامل هذا الإخفاق مرتبط بوجود توجه سعى إلى تحييد الدولة دينيا وحصر الهوية الدينية في الإطار الشخصي، على غرار ما هو معمول به في الغرب، وأيضا في بلد إسلامي كتركيا حيث العلمانية المعلنة تقضي بغياب هوية دينية خاصة بالدولة. ومن هنا يمكن القول بأن أحد عوامل فشل بلدان الربيع العربي كان مرتبطا بالخلاف حول تصوّر هويّة الدولة، أي بالخلاف بين تصور يمنح للدولة هويّة دينية معينة تؤدي بالضرورة إلى تهميش مواطنين ذنبهم الوحيد أنهم لا ينتمون إلى الهوية المهيمنة، كما يرى معارضو هذا التوجه على الأقل، وآخر يدعو أنصاره إلى دولة تكون تعبيرا عن كل المواطنين، وبالتالي إلى دولة ليس لها هويّة دينية معينة. وبتعبير آخر، لم يكن الصراع الأيديولوجي والسياسي الذي دار ولا يزال بين العلمانيين والإسلاميين غير تعبير عن صراع حول هويّة الدولة في مرحلة ظن كثيرون أنها ستكون مرحلة ما بعد الاستبداد.
الانتماء الآخر الذي يشكل أحد مكوّنات الهوية في العالم العربي هو الانتماء القبلي. وهو أقدم مرجع هويّاتي عربي، إذ أن جذوره تمتد إلى ما قبل مجيء الإسلام، أي إلى ما قبل قيام الدولة في ربوع هذا الدين
القبيلة: الهوية العربية الأبدية
الانتماء الآخر الذي يشكل أحد مكوّنات الهوية في العالم العربي هو الانتماء القبلي. وهو أقدم مرجع هويّاتي عربي، إذ أن جذوره تمتد إلى ما قبل مجيء الإسلام، أي إلى ما قبل قيام الدولة في ربوع هذا الدين، فلا الإسلام ولا القومية ولا الدولة الوطنية أيّا كانت قد اجتثت هذه الظاهرة التي استمرت تفعل فعلها، ولا تزال إلى اليوم، وذلك على مختلف المستويات. فهذه الهويّة الجماعية، الأولى ربما في تاريخ البشرية، التي اختفت اليوم في معظم الأمم الحديثة، لا تزال تشكل أحد مصادر وأعمدة السلطة في العالم العربي، ففي كتابه المعنون “صراع القبيلة والديمقراطية: حالة الكويت”، يقول خلدون النقاب بهذا الشأن “أستطيع القول بأن المصدر الرئيس لشرعية الدولة في شبه الجزيرة العربية تتوقف على مجموعة من العناصر المتأتية جميعها من مفهوم واحد قديم وممل يتمثل في القبيلة السياسية”.
ولا يقتصر استمرار تأثير الانتماء القبلي على نظام حكم معين دون آخر، إذ نجده حاضرا أيضا في الأنظمة “الجمهورية” التي كانت فيها الظاهرة القبلية أحد أعمدة الاستبداد، ففي مؤلفهL’Etat et la tribu dans le monde arabe. Deux systèmes pour une seule société، يقول محمد زيدان بهذا الصدد متحدثا عن علي عبدالله صالح في اليمن ومعمر القذافي في ليبيا “لقد تركا عن عمد بلديهما في حالة قبلية بدائية، الأول خلال 30 سنة والثاني خلال 40 سنة، وذلك قصد تكريس سيطرتهما المطلقة، جاعلين الحوار مع شيوخ القبائل نمط حكم، بل ذهبت بهما الميكيافيلية إلى حد تقديم هذا النظام الشعبوي كنموذج للديمقراطية المباشرة”. وهذا يعني أنه مثلما تعرضت الهوية القائمة على الانتماء الطائفي، ولا تزال تتعرض، للتوظيف السياسي، فإنه حدث نفس الشيء للهوية القائمة على القبيلة. على أن هذا التوظيف وهذا التسييس ما كان ليتم اللجوء إليهما لو أن هذين المصدرين الفرعيين من مصادر الهوية العربية المركبة والمعقدة والمتداخلة لم يكونا فاعلين ومؤثرين في مجتمعات هذه المنطقة. فالهويات في العالم العربي لا تتطور ولا تحلّ الواحدة منها محل الأخرى، كما يمكن أن نلاحظ ذلك في مناطق أخرى من العالم، بل تتراكم عبر التاريخ، ويضاف بعضها إلى البعض الآخر، الأمر الذي يجعل الهوية، آخر المطاف، في العالم العربي تتكون من هويات متعددة لا تعمل في اتجاه واحد، يعيق بعضها بعضا، وذلك ما يفسر، إلى جانب عوامل أخرى بالتأكيد، هشاشة البنية المدنية للمجتمعات العربية، واستفحال الاستبداد. وربما ذلك ما يفسر أيضا هشاشة الإنسان العربي نفسه وما يتميز به من تمزق وتقلب وتناقض، فتراه، مثلا، طبيبا، لكن تعشّش فيه القبيلة أو الطائفة، أو حداثيا وعلمانيا لكنه مستبد في آن واحد، أو وحدويا وقوميا لكنه لا يزال أسير القبيلة، أو إسلاميا، لكن ولاءه لطائفته قبل كل شيء.