العرب ومسألة الهوية
الهوية مفهوم فلسفي، يتعلق بتحديد “طبيعة” الشيء، سواء تعلق في الفكر أو في الواقع. لهذا يشير إلى الماهية في هذين المجالين. وحين نتلمس الوجود البشري نقع على عدد من الهويات، بعضها مرتبط بالمسار التاريخي، وبعضها قارّ. فـ”القطيع″ هو أول وجود بشري تأسس على ضوئه مجتمع القبيلة، والعائلة. ومن ثم شكلت اللغة هوية، كما شكّل الدين هوية كذلك، وبالتالي باتت الطائفة تشكّل هوية. لتأتي القومية مشكلة هوية حديثة. وكان التطور التاريخي يفرض تهميش هوية وتعزيز أخرى وصولاً إلى الأمة، ونشوء الدولة/الأمة، كما حدث في مسار التطور الأوروبي. وبالتالي كانت الهوية في كل مرحلة هي التعبير عن طبيعة التكوين المجتمعي وحدود تطوره. يظهر ذلك واضحاً في الصراع حول وضع الدين في المجتمع، حيث ظهر أن تحديد الهوية كان ينتقل من الطابع الديني الذي كان يحكم القرون الوسطى إلى الطابع القومي مع ميل البرجوازية لبناء الدولة/الأمة. وبهذا تحوّل الدين إلى “شأن شخصي”، وتبلور ذلك في نشوء الدولة العلمانية. كما نلمس هنا أن هذا التطور كان يهمّش القبيلة، لكن كذلك العائلة لمصلحة الفرد، الفرد الذي بات هو الشعب، أو الشعب الذي بات يتشكّل من مجموع أفراد، وليس لا من قبائل ولا عائلات.
كل ذلك تحقق نتيجة التطور المجتمعي، ونشوء الصناعة، وأيضاً تطور الفكر الذي أسس لإعادة بناء العلاقات في المجتمع وبين المجتمع والدولة. هذه هي أفكار الأنوار التي باتت هي الوعي المجتمعي لمرحلة البرجوازية. وفيها تتحدد الهوية في الدولة/الأمة من جهة، والشعب الدولة من جهة أخرى. بالتالي لم يعد للدين موقع هووي، وحتى العائلة لم تعد تعبّر عن هوية. رغم وجود متدينين، و”عائلات”. لكن لم تعد لا هذه ولا تلك معبّراً عن هوية. ويمكن أن أشير هنا إلى مسألة ربما تدقق هذه الإشارة، حيث يمكن أن تبقى هويات قديمة بشكل أو بآخر، لكن لا بد من ملاحظة فاعلية كل هوية في التكوين المجتمعي من جهة، والهوية التي يقوم على أساسها التكوين المجتمعي، وتقوم على أساسها الدولة من جهة أخرى.
إذن يمكن القول أولاً، إن هويات متعددة وجدت، ويمكن أن يبقى بعضها في سياق التطور التاريخي، ووجودها مرتبط بالتطور التاريخي ذاته. ويمكن القول ثانياً، إن فاعلية الهويات مختلفة بين مرحلة وأخرى، وبالتالي يمكن أن توجد هويات لكن واحدة منها هي الفاعلة، أي التي تؤثر في التكوين المجتمعي وتحدّد طابعة، وكذلك تؤثر في بنية الدولة كما حاولت أن أشير قبلاً. ففي المراحل الأولى من التكوين البشري كان “القطيع″ هو التعبير عن هذا التكوين، ومن ثم نشأت القبيلة التي باتت تعبّر عن المجتمعات المشاعية. ورغم أن مرحلة قامت الهوية فيها على أساس “قومي” (أو إثني، مثل البابليين والآشوريين والسريان والفراعنة والإغريق والطليان) فقد ظهر أن الدين هو الذي يحدِّد الهوية، رغم وجود الطابع القومي “خفية” أو بشكل واضح، في العصور الوسطى.
حين ندرس وضع المنطقة العربية الآن، سوف نلمس تواجد وتساكن وتعايش هويات. نجد أننا إزاء هويات قبلية لا زالت مستمرة، وتزايد دورها في العقود الأخيرة. كذلك نجد أننا إزاء هويات دينية وطائفية لا زالت قائمة، وظهر منذ عقود أننا إزاء صراع بينها بعد أن تعايشت طويلاً. وفي مستوى ثالث نجد أننا إزاء هويات “إثنية” وقومية يظهر الصراع بينها كذلك. بمعنى أننا نتعايش مع كل “طبقات” التاريخ التي أشرت إليها قبلاً، والتي تبدو أنها في تصارع حادّ يؤشر على تفكك العرب.
لماذا لم تنته هذه الهويات، أو لم تنزو؟ وربما أن السؤال الأساس يتمثل في: لماذا لم تهيمن الهوية القومية كما حدث في أوروبا؟
إننا إزاء تجزئة قومية، وتفكك مجتمعي مبنيّ على أساس هويات ماضوية، وأخرى يجري اشتقاقها من التجزئة السياسية التي تشكّل بعضها تاريخياً، ونتج بعضها عن السياسة الاستعمارية التي قررت تفكيك ما تبقى موحداً من الوطن العربي (المشرق العربي)، بهذا تأسست الهوية “الوطنية” (أي القطرية). ولا شك في أن هناك من يعتقد بأن “الدولة الوطنية” (أي القطرية) هي الهوية الحديثة، لكنها تتفكك إزاء الهويات الأخرى، وتتمزق على أساسها، وهي أصلاً لم تستطع أن تشكّل هوية بالمعنى التاريخي، بالضبط لأنها ترتبط بالدولة وليس بالتكوين التاريخي، والدولة لا تشكّل هوية، بل إنها يجب أن تكون نتاج الهوية: أي الدولة/الأمة. فالدولة هي التعبير عن المجتمع فيما يخص مسألة الهوية وليس العكس ممكناً، بل إن غياب التطابق بين المجتمع والدولة من هذه الزاوية يفرض نشوء الميل القومي، بالضبط من أجل تأسيس الدولة/الأمة.
بالتالي، لا زالت الهويات المتقادمة قائمة، وأضيف عليها “هوية” جديدة تتمثل في “الدولة الوطنية”، الدولة التي تشكلت أو تكرّست من قبل الدول الاستعمارية. لماذا ظلت قائمة رغم أن العالم قد تشكّل منذ القرن التاسع عشر على أساس مبدأ الدولة/الأمة؟ أي لماذا استمرت الهويات القديمة فاعلة إلى هذا الوقت؟
لا يمكن أن نفهم كل هذا الصراع بين الهويات دون لمس التناقض الذي نشأ مع السيطرة الاستعمارية، وميل الدول الاستعمارية إلى تفكيك الوطن العربي، وتقاسمه فيما بينها
تاريخيا شكلت الإمبراطورية العربية الإسلامية تنازعاً بين الطابع العربي والطابع الإسلامي الذي كان يتمثل في أيديولوجية الدولة، حيث سيطر عرب على النظام، وبحجة “عالمية الإسلام” ردت شعوب أخرى فسيطرت على النظام، وأفضى هذا التصارع إلى تشكّل دول وإمارات، وسرعان ما أدى انهيار الإمبراطورية إلى الانكفاء نحو القبيلة، خصوصاً بعد أن أدى التصارع إلى الدمار وخراب المدن والأرض الزراعية. وبهذا تنازعت دويلات السيطرة، في وضع انهياري كان يعيد العلاقات القبلية، إلى أن سيطرت الدولة العثمانية باسم الإسلام فضمت المنطقة بكل تفكّكها، القبلي و”الإماراتي”، وكان “يوحّدها” الطابع الإسلامي رغم أنها دولة الترك. وفي الدولة العثمانية كانت المنطقة العربية مقسمة إلى ولايات، مثل العراق والشام ومصر وتونس والجزائر في حدود هي ليست الحدود القائمة، والتي تبلورت مع السيطرة الاستعمارية.
إن سيادة الاقتصاد الطبيعي هو الذي كان يسمح بهذا التفكك رغم خضوعه لدولة مركزية، حيث كانت القوة العسكرية هي العنصر الموحّد عموماً. وبالتالي ضمت هذه الدولة هويات متعددة، هويات مناطقية وقبائلية ودينية، وأيضاً قومية. وكانت الدولة المركزية تفرض سيادة هوية محدَّدة هي الهوية الدينية، رغم أن النظام كان “تركيّا”، بمعنى سيطرة طبقة تركية عليه. وكانت الصراعات ضد هذا النظام تتخذ أشكالاً متعددة كذلك، دينية ومناطقية وقبلية وعربية. كان يتقاطع بعضها أحياناً، وكان ضعف الدولة يسمح باستقلال بعضها كلياً أو جزئياً، وكذلك يسمح بسيطرة دول استعمارية على بعضها كما حدث في المغرب والجزائر وتونس وليبيا واليمن.
محاولة محمد علي باشا لتحديث مصر وتصنيعها، والتي فرضت إرسال البعثات العلمية وتأسيس مدارس مدنية، وبالتالي انطلاق فكر جديد كان رفاعة الطهطاوي معبِّراً عنه، حاول نشر الحداثة، بما في ذلك العلمنة، هذه المحاولة فرضت عليه الميل لبناء “إمبراطورية عربية”، في مواجهة الدولة العثمانية (الذي كان قد عُيِّن ممثلاً لها أصلاً في مصر). لهذا نجد هنا كيف أن هذه المواجهة فرضت تجاوز الطابع الديني للدولة، ونشر العلمنة، والتخلّي عن طابعها الإمبراطوري لمصلحة دولة قومية. ورغم أن التجربة هُزمت أمام زحف القوى الاستعمارية، وحصر سيطرته على حدود مصر، فقد أوضحت الترابط بين الحداثة والعلمنة والدولة الأمة، حيث كان الميل لبناء الصناعة وتحديث الاقتصاد يفرض نشر الأفكار التي أتت مع عصر الأنوار، ومنها مفهوم الدولة القومية.
هذا الزخم الذي نتج عن تأثير الحداثة الأوروبية كان يتوسع في الوطن العربي، خصوصاً في تلك المناطق التي كانت لازالت خاضعة للدولة العثمانية. فقد نشأ تيار مناهض للعثمنة، ويطرح “أحقية” العرب. ولهذا تبلور تيار فكري يدعو إلى العلمنة وتأسيس الدولة القومية، وربما كان الأبرز هنا هو عبدالرحمن الكواكبي، لكنه ضمّ كثيرا من نخب بلاد الشام. فعقد المؤتمر القومي العربي في باريس سنة 1913 لتحديد العلاقة مع الدولة العثمانية بعد أن تقومنت في انقلاب سنة 1909، وإظهار تميّز العرب كأمة. وهو ما تطور بعدئذ عبر تأسيس أحزاب قومية (ومنها المركز الشيوعي الذي كان يوحد الأحزاب الشيوعية التي أخذت تتشكل منذ سنة 1922)، وتبلور فيما بعد بنشوء أحزاب البعث والقوميين العرب والناصرية، والتي انطلقت كلها من الطابع العربي وهدفت إلى تحقيق الوحدة العربية. وبالتالي كان الميل التحرري الحداثي يتجه لتأسيس الدولة/الأمة.
في المقابل، كان التيار “الإسلامي” يسير نحو تأكيد ضرورة الدولة العثمانية، والسعي للحفاظ على “الجامعة الإسلامية” كما مع محمد عبده. وهو التيار الذي تبلور في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، التي ظلت تتمسك بالهوية الإسلامية كأساس للنظر إلى البشر. وكان مسارها يتجه في تصادم مع الحداثة، مع الليبرالية والديمقراطية والقومية والاشتراكية، وكل القيم التي عمّمتها الحداثة. وأيضاً نشأت تيارات تحاول تنظير التكوينات الإقليمية التي كان لها طابع تاريخي، مثل الفرعونية والفينيقية، وأيضاً السورية، لكن كل هذه التيارات كانت ضعيفة بشكل عام، ولم تلقَ تأييداً شعبياً.
بهذا نلمس كيف أن هويات متعددة قد تبلورت في منظور فكري وسياسي، قومية تعبّر عن الحاجة إلى بناء الدولة/الأمة، وأصولية تحاول الدفاع عن الهوية “التقليدية” التي ترسّخت منذ القرون الوسطى ومع الدولة العثمانية، وتنظيرات تعبّر عن “التشقق” الإقليمي الذي نشأ خلال مراحل التاريخ. لكن كان واضحاً أن الهوية القومية هي التي تطغى، وأنها البديل الجديد عن الهويات الأخرى التي هي من إرث الماضي. خصوصاً أنها ترتبط بالحداثة والتطور، بعكس الهوية الدينية التي كانت تكرّس الماضي، والإقليمية التي طرحت بعض زوايا الحداثة لكنها لم تربطها بمشكلات المجتمع، وأيضاً لم تستطع أن تحلً محل الهوية القومية التي تأسست في صيرورة تاريخية طويلة، وخلال ذلك كانت تتضمن كل الهويات الإقليمية، وكان وجود اللغة يؤسس لأن تخترق الشعور الشعبي، وتصوغه. أي أن تؤسس لوعي شعبي.
لوحة: عمار النحاس
لكن لا يمكن أن نفهم كل هذا الصراع بين الهويات دون لمس التناقض الذي نشأ مع السيطرة الاستعمارية، وميل الدول الاستعمارية إلى تفكيك الوطن العربي، وتقاسمه فيما بينها، خصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى. لقد بدأ قضم البلاد العربية منذ احتلال فرنسا للجزائر، ثم احتلالها لتونس، واحتلال إنكلترا لمصر، واحتلال إيطاليا لليبيا. لكن هزيمة الدولة العثمانية في تلك الحرب أدت إلى إكمال تقاسم البلاد، خصوصاً بلاد المشرق العربي. وكان الشُغل الاستعماري يتمثل في تكريس “الدول الجديدة” كأمم، كبديل عن الأمة العربية. وهذا ما كان يدفع الدول المستعمِرة إلى تأسيس نخب تنظّر للأمة الجديدة، وتدافع عنها. لكنها في الوقت ذاته كانت تعمل على تكريس الهويات المتقادمة، الدينية عبر دعم الجماعات الأصولية، والطائفية عبر تشجيع تميُّزها وميلها للاستقلال، والإثنية وحتى القبلية. لقد كانت تعمل على إبقاء بناها المتخلفة، مع إخضاعها لمصالح رأسمالييها فقط، ولهذا أرادت بقاء عناصر تفككها، واستثارة هذه العناصر. بمعنى أنها ظلت متمسكة بالهويات المتقادمة رغم أنها كانت تحاول تأسيس هوية جديدة هي هوية “الدولة القطرية”.
ورغم نشوء كل هذه الهويات كان الصراع الأساسي يتمحور بين التفكيك الاستعماري والميل الوحدوي التحرري. حيث ظهرت الهويات الأخرى كافتعال استعماري في الغالب. وفي كل الأحوال كانت إعادة إنتاج الهويّات القديمة مسألة تخدم السياسة الاستعمارية التي جهدت من أجل تأجيجها، بغض النظر عن العلاقة الممكنة بينها. وهو الأمر الذي أدّى إلى التغيير الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية بـ “انتصار” الأحزاب القومية وتهميش التيارات الأخرى، رغم كل ما حدث فيما بعد، وفرض إعادة إنتاج التيارات القديمة كممثلة لهويات متقادمة. بالتالي كانت الهوية الحداثية هي التي تنتصر، على أنقاض الهويات الأخرى، وبالضد منها. وهو ما كان يعطي الأمل ببناء الدولة/الأمة عبر توحيد البلدان العربية في دولة واحدة.
ما يظهر الآن هو أن الهويات المتقادمة هي التي تهيمن، الدينية والطائفية، وحتى الإثنية. تواجهها هوية أخرى تطرحها النخب الليبرالية تقوم على تأسيس “دولة/أمة” من الدول التي تشكلت في السابق وكرّسها الاستعمار، والتي باتت تسمى: الدولة الوطنية. وأصبحت الهوية القومية محط تهديم، بحجة أنها كانت التعبير عن أيديولوجية نظم استبدادية وحشية، وبالتالي سقطت “القومية” من القاموس، وباتت تهمة لأنها محملة بكل ضخامة الاستبداد التي صورتها تلك النخب. لهذا جرى البحث عن بديل هو هذه “الدولة الوطنية”، وباتت “مثالية” لأنها الأساس الوحيد الذي يجمع الهويات المتعددة التي يزخر المجتمع بها، والتي تبدو على شفير تحقيق التفكك المجتمعي.
إذن، باتت الهويات المتقادمة هي الفاعلة بينما تهمّشت الهوية القومية. وأصبحت ميول القوى الفاعلة تتحدد في فرض هذا الشكل أو ذات للهوية: الأصولية تسعى لفرض الهوية الدينية، وهي وغيرها تسعى لفرض الهويات الطائفية، والنخب الليبرالية تسعى لفرض الهوية “الوطنية”، أي الدولة القطرية التي كرّسها الاستعمار، انطلاقاً من أنها من يحدِّد الهوية، هل تحدِّد هوية؟ كتجاوز للهويات الأخرى، بما في ذلك الهوية القومية. كل ذلك بعد أن انهار المشروع القومي، وأبانت الدولة التي تحكمها نظم قومية عن استبدادية مفرطة (وهنا يجري تجاهل كل التغيير المجتمعي الذي حققته هذه النظم) ليجري اعتبار أنه بات من الماضي، لهذا تسعى كل هوية لأن تفرض ذاتها بعد أن أدّى تلاشي المشروع القومي إلى ظهورها بهذه القوة. لكن هل تستطيع الهويات الأخرى أن تكون بديلاً، أي أن تفرض ذاتها كهويات مهيمنة؟ ولماذا عادت الهويات المتقادمة؟
ما يظهر الآن هو أن الهويات المتقادمة هي التي تهيمن، الدينية والطائفية، وحتى الإثنية. تواجهها هوية أخرى تطرحها النخب الليبرالية تقوم على تأسيس “دولة/أمة” من الدول التي تشكلت في السابق وكرّسها الاستعمار
هذا السؤال يطرح السؤال الآخر، وهو: لماذا انهار المشروع القومي؟ لكن قبل ذلك لا بد من تحديد معنى كل هوية، ورصد العلاقة فيما بينها، حيث أنها هويات ليست متشابهة، أو من “نمط” واحد، رغم أنها هويات تخص تكوينا بشريا، ورغم أنها شكّلت هوية شاملة، بمعنى ما، في مرحلة من المراحل. وكذلك سنلمس بأن بعضها كان يشملها جميعاً، ويتضمنها بشكل أو بآخر.
فالقبيلة هي رابط قائم على أساس “الدم” بين مجموعة من البشر يعتقدون أن لهم “أصلا” واحدا، وكذلك العائلة التي هي جزء من القبيلة، والتي حلّت محلّها في مرحلة من تطور المجتمع البشري. هذا هو الرابط الأساس الذي يضم مجموعة بشرية، تسكن في الغالب منطقة واحدة. وهي الشكل الأوّلي للتطور البشري التي تجاوزت وضع «القطيع». بالتالي هي رابط “مادي”. بينما يكون الدين هو نقل للرابط من “علاقة الدم” إلى علاقة مجرّدة فوق البشر تقوم على “وحدانية الله”، لكنها تؤسس لوعي، وتخضع لقيم، أي تصاغ هذه العلاقة بشكل أيديولوجي، يتضمن “مبادئ تخص المجتمع والحياة” و”عبادات”. وفي كل ذلك تشكّل عنصر تميّز، أي هوية. ورغم أن الأديان تنطلق من المبدأ ذاته المتعلق بوحدانية الله، إلا أنها تتميّز (وبالتالي تتشكل في هويات) نتيجة اختلاف المبادئ والقيم والعبادات. والطوائف هي انشقاقات عن الأديان، حيث تتميّز بقيم محدَّدة تختلف بشكل أو بآخر فيما بينها، وربما تعيد لـ«مرجع» مختلف. ولقد لعب الانهيار المجتمعي مع انهيار الدولة المركزية (الإمبراطورية العربية الإسلامية) دوراً في تحويل الاختلاف الفكري إلى بنى متميّزة (أي طوائف)، فقد فرض انتشار الاقتصاد الطبيعي إلى تفكك مجتمعي فرض “استقلال” تيارات فكرية في مناطق خاصة بها، لينتج عن ذلك تشكّلها في طوائف. وهذه الوضعية التي نتجت عن الانهيار أدت إلى “استعادة” الوضع القبلي، وخصوصاً على ضوء دمار المدن وانهيار الزراعة.
وتشكّل التكوين القومي عبر كل هذا التاريخ، وكان يؤسس لـ”شعور” عام مشترك لدى مجموعة بشرية تجمعها اللغة، وبالتالي الثقافة والعادات، وارتباط “الأصل”، رغم أن تكوّن الشعوب يتضمن عناصر اختلاط وتفاعل مع شعوب أخرى في صيرورة التطور البشري، وأشكال العلاقة بينها. وبهذا يصبح عنصر اللغة/الثقافة هو العنصر المحدِّد لمجموعة بشرية تسكن في منطقة مترابطة. هنا نلمس بأن الأمة هي ترابط بين مجموعة بشرية لها “خلفية وجودية واحدة”، ونشأت فيما بينها لغة يتواصل عناصرها من خلالها، وبالتالي نتج عن وجودهم ثقافة مشتركة. بالتالي فهي “تدمج” القبيلة بالرابط الموحد الذي نشأ مع الدين في تركيب جديد، يعبّر عن هوية هي الهوية القومية.
كل هذه الهويات تشكلت في صيرورة التطور الاقتصادي التاريخي، وكان هذا التطور يفرض شكلاً مهيمناً لهوية من هذه الهويات. فالقبيلة هي الشكل القائم قبل تشكل المجتمع والطبقات والدولة، وربما ظل لها دور في صيرورة التطور الأولى للإمبراطوريات، لكن بات الدين هو الشكل المعبّر عن الإمبراطورية، كونه كان يفرض تجاوز القبيلة لكنه يتجاوز الأمم، لأن الإمبراطورية تضم أمماً، وكانت حينها حاجة موضوعية لتحقيق التطور. حيث كان تشكّل الأمم قد تحقق في بعض المناطق التي شهدت نشوء الإمبراطوريات.
الآن، فرض التطور الاقتصادي والفكري مع نشوء الصناعة تجاوز هويتين: الدين، لأن الرأسمالية كانت بحاجة إلى أيديولوجية جديدة تتجاوز منظومات ومفاهيم القرون الوسطى، التي كانت متضمنة في الدين. وبهذا كانت تنهي الهوية الدينية لمصلحة تحويل الدين إلى “شأن شخصي”. والهوية الثانية هي القبيلة/العائلة، لأن العمل الرأسمالي (أي الصناعة) كان يفرض وجود العامل/الفرد. وبهذا نشأ الشعب المكوّن من مجموع أفراد، والذي يشكّل الأمة.
إذن، إن ما فرض سيادة الهوية القومية وتجاوز الهويات الأخرى هو التطور الاقتصادي الذي فرض نشوء الصناعة، والذي على أساسه قام المجتمع الحديث وانتصرت الحداثة. لهذا ارتبط الميل القومي بتحقيق التطور الاقتصادي المنطلق من بناء الصناعة. وهو ما وجدناه منذ تجربة محمد علي باشا، ومع نشوء الفكر القومي، ومن ثم تشكّل الأحزاب القومية، التي حين وصلت إلى السلطة عملت على بناء الصناعة. بمعنى أن تجاوز البنى القديمة، سواء في الاقتصاد أو في الفكر أو في الوعي المجتمعي، يفرض الانتقال إلى بناء الصناعة، وإعادة بناء المجتمع على أساس ذلك. لأن هذا هو الأساس الموضوعي لبناء الدولة الأمة. وسنلمس بأن المشروع الذي تبلور كان يلحظ كذلك العلمنة. لكن هذا الأمر يعيدنا للبحث في أزمة البرجوازية التي نشأت، والتي نتيجة الاستعمار، والتفوق التقني الرأسمالي، نشطت في القطاع الاقتصادي المكمّل لدورة رأس المال في البلدان الاستعمارية لكي لا تتعرّض للهزيمة في تنافس غير متكافئ. لهذا نشطت في التجارة والخدمات والبنوك، وربما الزراعة، وأحجمت عن النشاط في القطاع الصناعي، وحتى في كل قطاع منتج. ولهذا لم تحتج إلى نشر الحداثة ولا تطوير التعليم، أو فصل الدين عن الدولة، على العكس من ذلك تحالفت مع الإقطاع وكرّست أيديولوجيته، وحافظت على الوعي التقليدي والبنى التقليدية. طبعاً هذا فيما عدا تجربة محمد علي باشا كما أشرت، وأيضاً تجربة بنك مصر الذي تشكّل من رأسماليين هدفهم تطوير الصناعة والثقافة والتعليم.
لوحة: عمار النحاس
النظم القومية التي هدّمت الإقطاع وعملت على بناء الصناعة ومجانية التعليم، وتحقيق الضمان الاجتماعي والعمل الكامل وغيرها، ورغم أنها كانت ملتبسة الموقف من العلمنة، ومن تحديث التعليم، فقد أدى طموح الفئات التي أسستها إلى الترسمل السريع، الأمر الذي أفضى إلى انهيارها قبل أن تنجز التطور الضروري لقطع العلاقة مع البنى القديمة، و”دمج” المجتمع على أسس حديثة كما أشرت. لهذا لم تذوّب الهويات القديمة كما حدث في البلدان الرأسمالية، بل ظلت قائمة رغم تراجع فاعليتها منذ بداية القرن العشرين إلى الثمانينات منه. وبالتالي عادت كي تكون فاعلة في الصراع الواقعي، وتعبّر عن ميول فئات اجتماعية، وتصارع من أجل الهيمنة.
نحن إزاء هويات، هذا واقع، لكن أولاً لا بد من ملاحظة اختلاف طابعها. فالقبيلة يمكن أن تكون مجال استغلال فئة اجتماعية في إطار الصراع الاجتماعي، لكن ليس من الممكن أن تفرض ذاتها كهوية مهيمنة، بالضبط لأنها لا تحمل مشروعاً يحقق مطالب الشعب، لأنها ليست “شمولية” أصلاً، لكي تحمل مشروعاً مجتمعياً. والهوية الدينية تحمل منظورات وقيما وتصورات عصر مضى، وهي تشير إلى الإعادة إليه، وبالتالي فهي ضد “حركة التاريخ”، هي ارتداد ماضوي في وضع أزموي وليست حلاً يعبّر عن مصالح فئات اجتماعية، فقط يمكن أن تستغلّ من قبل الفئات الاجتماعية التي تهيمن كفئات في ظل سيطرة رأسمالية منفلتة، أي في ظل اقتصاد ليبرالي، وهي تخضع لمنظومته لأنها فئة من رأسمالييه. وإذا كانت قطاعات مجتمعية قد انخرطت في الجماعات التي تحمل هذه الهوية (خصوصاً هنا الشباب) لأسباب موهومة بعد صدام هذه الجماعات مع النظم، فإن بحث هذه القطاعات عن حلول لمشكلاتها يدفعها حتماً لتجاوز الارتباط بها. فقد حكمت في بعض البلدان، مثل السودان ومصر وتونس وإيران، لكنها فشلت في تحقيق التطور الضروري الذي يتضمن تحقيق مطالب الشعوب، على العكس إما قادت إلى التفكيك أو إلى تحوّل الشعب ضدها.
منظور الهوية الدينية يؤسس لتفكيك المجتمع، لأنه يؤسس على غير واقعه، من حيث التمييز بين الشعب على أساس الدين، أو الطائفة، أو القبيلة. وهذا ما يوجد تناقضات جديدة تتنافى مع الحاجة إلى التطور، على العكس من ذلك، تُطرح لشكل من أشكال مواجهة التطور. لقد تبلور الطابع القومي بشكل لم يعد يسمح بالتمييز في بنيته، وتبلورت الحداثة التي تفرض المساواة بين المواطنين بما يتنافى مع منظور الدين. وبهذا باتت هذه الهويات بحاجة لأن تتراجع لمصلحة الفرد/الشعب من طرف، وتحويل الدين إلى شأن شخصي، لأن ذلك هو أساس الحداثة الضرورية لتحقيق الاستقرار، الذي يعني تحقيق مطالب الشعب. بهذا يمكن القول بأن فاعلية هذه الهويات لم تكن قائمة، وهي تظهر حين انهيار المجتمع وتلاشي منظورات التطور والحداثة.
أشرت إلى الرابط بين الهويّة والوضع الاقتصادي، حيث أن هويّات مثل الدين أو القبيلة، أو التكوين الإقليمي هي نتاج تطور معيَّن، وليست جوهرا قارّا. كما أنها تتعلق ببنية أيديولوجية أو تكوين مناطقي، أو شكل أوّليّ في مسار التطور. وهذه كلها لا تؤسس لهوية “مستقرة”، الهوية التي هي الطابع القومي، فهي “خلاصة” التطور التاريخي على صعيد التكوين البشري، رغم أنها مرحلة في تشكيل عالم موحد.
في المقابل، تكون “الدولة الوطنية” هي البديل لدى تيار كبير من النخب، هو في عمقه ليبرالي رغم خلفيات أعضائه. وينطلق هؤلاء من الدولة كأساس لتشكيل الهوية، الهوية التي تضم في بنيتها أشتاتا من الهويات الأخرى، أي الدينية والطائفية والقومية، وحتى القبلية. ربما هنا تستطيع الدولة أن تفرض العلمنة، والمواطنة، وبالتالي تهمش الهويات المتقادمة، فهذه كما أشرت “أيديولوجية”، ومعتقدات يمكن تحويلها إلى الشأن الشخصي، وتكريس الفردية كأساس لمبدأ المواطنة ووجود الشعب، لكن هل تستطيع أن تهمّش اللغة والثقافة والتاريخ، كل ذلك الذي يتبلور في “شعور مشترك”؟ هذه هي أزمة الدولة القطرية التي تحب النخب تسميتها “الدولة الوطنية”. وفي كل الأحوال هذه الهوية هي التعبير عن ميل نخب تعتقد أن ذلك هو ما يوحّد المجتمع ضمن إطار الدولة القطرية، رغم أن الإشكالية ليست هنا كما أشرت.
إذن، إن ما فرض سيادة الهوية القومية وتجاوز الهويات الأخرى هو التطور الاقتصادي الذي فرض نشوء الصناعة، والذي على أساسه قام المجتمع الحديث وانتصرت الحداثة
ما هو تاريخي هو نشوء الأمة، وكل الهويات الأخرى هي نتاج التاريخ. ولا شك في أن العصر الصناعي يفرض نشوء الدولة/الأمة بالتحديد كما أشرت. لهذا تحمل الفئات التي تسعى لبناء الصناعة بناء الدولة/الأمة، وتقوم الهويات الأخرى بمواجهة لهذا المسار من أجل تكريس التفكيك والتخلف والاقتصاد الريعي. لقد تشكّل الشعب في هويات متعددة في سياق المسار التاريخي الطويل، ولكي يعود شعباً لا بد من “تهميش” الهويات الأخرى، القبلية والدينية والطائفية والمناطقية، وأيضاً “الوطنية”. وهذا يرتبط بمسار التطور الذي يؤسس الحداثة ويبني الدولة/الأمة.
من السهولة تحوّل الهوية الدينية أو القبلية إلى هوية فردية، لكن ليس من الممكن تحويل الهوية القومية إلى هوية فردية، فهي الطابع العام لشعب ما، وتتمظهر في اللغة والثقافة والشعور المشترك الناتج عن هذين العنصرين وعن التاريخ المشترك. وهي لذلك ليست أيديولوجية، وإنْ كان هناك من حوّلها إلى أيديولوجية، أو اعتقد ذلك، وليست علاقة دم لأنها صهرت أجناسا واختلطت بأجناس. إنها تكوين بشري لغوي ثقافي تشكّل عبر مسار تاريخي طويل. وهي الضرورة لتحقيق التطور الاقتصادي، وبناء المجتمع الصناعي الذي هو أساس كل حداثة. ما بقي من التاريخ هو الهوية القومية بالتحديد، وكل محاولة لتفعيل الهويات الأخرى هي محاولة لتكريس التفكك والتخلف. هي إعادة شرذمة الهوية القومية في وضع بات الأمر صعباً. فالتاريخ يسير إلى الأمام رغم حدوث انكفاءات أو انكسارات.