أزرق الفنان وقيثارة الشاعر
ما تستقبله الحواس من الفن ويُحدث ارتباكا داخليا ويدعو إلى إعادة ترتيب الوعي والإجابة عن أسئلة من قبيل: لمَ؟ ولماذا؟ وكيف؟ يُشير، غالباً، إلى وجود رهانٍ يتجاوز مجرد محاكاة الجمال أو صناعته إلى حمل الفكرة الجمالية والتعبيرية، شاقّة كانت أو ثقيلة، ومواجهة الواقع بانعكاسه أو قلق انعكاسه وتطوره معًا.
الأمر هنا ليس متعلقا بالحداثة أو رهانات الفن الحديث فقط، بل هو حديث عن خاصّية متأصلّة في الاشتغال الإبداعي منذ القدم. وقد يكفي تأمل بعض المنحوتات التي توصف بالبدائية لشعوب ومجتمعات توزّعت على القارات الخمس لإحالتنا إلى حقيقة تعقيد مستويات التفكير والخيال والإتقان عند الإنسان رغم بدائيّته. وإذا كانت محدودية أدواته ورصيده المعرفيّ يزيدان من تقديرنا أو إعجابنا بصنيعه الفني، إلاّ أنّهما ليسا ضروريين لإدراك مدى قدرته على التجريد واللجوء إلى مساعدة الخيال للخروج بما يناسب واقعه.
الاستغراب الذي قد يعترينا ونحن نشاهد بعض التماثيل أو الأقنعة أو حتّى الرّقصات المركّبة للشعوب البدائية قد ينتفي جزئيًّا أو كليًّا إذا ما فهمنا الرمزية الكامنة خلفها أو التناغم المنشود منها.
المبدع المعاصر مؤهل بالتقنيات الحديثة وتراكم المعرفة للتوجّه نحو آفاق جديدة والمتاح له أكثر من سابقيه دمجُ أشكال فنية متعدّدة في آن واحد. المتلقي المزامنُ له من المفترض أن يكون مزوَّدًا بما يكفي من اتساع وانفتاح وفضول لاستقبال الجديد، من دون رفض أو قمع مسبقين.
استعداد المتلقي للنقد والتقييم يقع ضمن حقّه في التفاعل مع ما يُعْرَضُ عليه ويُناسب طبيعة التشارك التي تجعل من المولود الإبداعي مستباحا حسّيًا من جانب جمهور واسع لا يقتصر على مُبْدِعِه أو عائلة فنيّة صغيرة. لكنه يكون ظالمًا ومقصّرًا في أدائه عندما ينضمّ إلى المعمِّمين أو المتسرّعين في أحكامهم، الذين ينفضون عبارات يائسة من الفن الذي ترى أنه تبعثر في الفوضى.
من طبيعة الأشياء أن أصحاب الموهبة الذكيّة يبقون ذوي رؤية متميزة غير محتاجين للتقليد ومجاراة الشائع سبيلاً؛ قد يصمّون آذانهم عن أشياء كثيرة لكنهم يستمعون بطريقتهم لإرشادات إلهامهم وخيالهم ويسعون في طريقهم الإبداعيّ بالإيقاع الذي يناسبهم ويرضيهم وهم لا ينقرضون كما لا يستسلمون بسهولة. وإن كان عدم الانتباه لهم أو عدم منحهم فرصتهم المستحقّة يسبّب أذى لهم، فإنّ الأذى الأكبر، من حيث عدد المشتركين فيه والمتضررين به، هو ذاك الذي يحدث عندما يسود الاستياء من المشهد الثقافي وطغيان اللاّمبالاة بوضعه أو مفاقمة حالته عوض معالجتها.
بيكاسو، الذي يحبّ البعض أعماله ويتهكّم عليها البعض الآخر، أنجز ما بين عام 1903 و1904 لوحته عازف القيثارة العجوز فألهمت والاس ستيفانس لقصيدته “الرجل ذو القيثارة الزرقاء” وكان من ضمن ما كتبه فيها “قالوا، عندك قيثارة زرقاء، لن تعزف الأشياء كما هي/ردّ الرجل: الأشياء كما هي تتغير على القيثارة الزرقاء/وقالوا عندئذ: لكن اعزف/، عليك أن تبدع/ لحنا يتجاوزنا، لكنه نحن/لحناً على القيثارة الزرقاء/عن الأشياء كما هي بالضبط”.
تفاعل المتلقي الشاعر هنا خرج من أزرق الفنان إلى أزرقٍ عميق آخر يرفع الفنّ ليعبّر عن الأشياء ويغيّر واقعيتها على طريقته التي يقبلها الآخرون ويقبلون عليها. وهم يحتاجونها ويزيدون عليها لو تفاعلوا معها بما يجعل تناسل الإبداع وتحليقه ممكنا. في المساحة المشتركة بين المبدع والمتلقي ليس مطلوباً أجمل من هذا.