التعبير السيميائي
تبدو رواية “وشم الطائر” للكاتبة العراقية دنيا ميخائيل، الصادرة في طبعتها الأولى عام 2020، منذ العنوان وحتى المتن أنها تحلّق في فضاء سيميائي/إشاري، حيث العلاقة بين الوشم وجناحي الطائر، وهما يرسمان صورة سيميائية في الفضاء العالي؛ بين الوشم بوصفه علامة موروثة للتعبير عن الجمال والعذاب معاً في الأسطورة والخيال، بحيث شكّل الفضاء السيميائي مناخاً لاستخدام العبارات ذات الطبيعة العلاماتية والإشارية في ظل المتغيرات المستمرة.
يحيلنا العنوان على إحالات متعددة نحو عقائد الشعوب القديمة في التشاؤم من الطيران في السوانح والبوارح وطير الهامة العربي الذي يشير إلى تحليق روح الميت في الأعالي، عبر دلالة الجناح السيميائية التي وردت في القرآن الكريم، والتطير من الطير والتشاؤم منه في قوله تعإلى “طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ” (يس: 19).
تبقى فكرة العنوان في إحالتها السيميائية مهيمنة على الرواية، مباشرة أو غير مباشرة، من خلال حركة الشخصيات وموضوع الرواية ذاته، فبطلة الرواية “هيلين” فتاة إيزيدية من عشيرة/ قرية (حليقي) قرب سنجار شابة أحبت زوجها “إلياس” في شبابها وتزوجته؛ وكان قد فقد زوجته الأولى بعد أن أنجبت ولداً سماه “يحيى”. وفي دلالة الاسمين ثمة الكثير من الإحالات المضمرة، وقد تعرف على هيلين في قريتها حين يقوم بتدريس بعض الشباب والشابات، ويعمل في الوقت نفسه في مجلة موصلية عنوانها “نينوى” لتلبية متطلبات عيشه.
يلتقي الحبيبان ويتفقان على الزواج، ومع حبِّهما ترسخت الكثير من الأفكار الأسطورية؛ فقررا رسم وشم طائر القبج على إصبعيهما مكان خاتم الخطوبة والزواج، لأنه “كان شائعاً بين أهالي قريتها أن ضياع خاتم الزواج هو نذير شؤم قد يؤدي إلى انفصال الزوجين، ولذلك سرت إشاعة في القرية بأنّ العاشقين هيلين وإلياس استغنيا عن ارتداء الخواتم لأنهما خشيا أن ينفصل أحدهما عن الآخر(…) وسط دهشة المدعوين، عن وشم الطائر على البنصر الأيسر لكل منهما بدلاً من خاتم الزواج المتعارف عليه” (وشم الطائر، ط 2، ص41).
يمثل الخاتم بالنسبة إلى الزواج علامة من علامات التعبير عن الارتباط، كما يمثل رمزاً للسلطة على الزوجة؛ فقد وهب فرعون خاتمه إلى النبي يوسف وعهد إليه بحكم مصر، ويبدو أن تبادل الخواتم يوم الزواج يعود إلى العبرانيين ، ومن المحتمل أن بصمة الخاتم تعد فألاً حسناً للإنسان أو شؤماً عليه، وأشهر خاتم هو خاتم النبي سليمان (نجمة داود)، وهو مؤلف من مثلثين متساويي الأضلاع متعاكسين، يشير إلى الكواكب السبعة (معجم الخرافات والمعتقدات الشعبية في أوربا: بيار كانافاجيو، ترجمة أحمد الطبال، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1993، ص ص 89 – 91).
كان زواج هيلين قبل اجتياح داعش للموصل عام 2014، وسبي النساء الإيزيديات وما حصل لهذه الديانة، شبه المغلقة على نفسها، من انتهاكات خطيرة لحقوقها، فقد تعرضت في عهد الدولة العثمانية إلى ما يشبه ذلك، في حملات عسكرية ترقى إلى جرائم الحرب؛ مما دفع بعضهم إلى الادعاء بأنهم من طائفة “العلي اللاهية”، أو “أهل الحق”، نتيجة استهدافهم من قبل المتشددين المسلمين، فهم يؤمنون بطاؤوس الملائكة، ولديهم سنجق في “دير سم” أو “دره كه سين”؛ أي “إله القمر”، و”سم” تلفظ “سن” أو “سين”، وله قدسية خاصة لهم في سنجار، وهم يصومون ثلاثة أيام لخضر إلياس، ولديهم بيرانية (مرجعية: من بير، وهو الزعيم الديني)، ويتوجهون عند العبادة ولا يتزوجون من غير ملتهم (داود مراد الختالي، الحملات والفتاوي على الكرد الأيزيدية في العصر العثماني، دار سبيريز (دهوك،2010)، ص ص 255 – 256).
وتتابع الكاتبة حركة الشخصيات بين الحاضر(عصر السبي) والماضي من خلال الاسترجاع، بفصولها التي حملت عنوانات مختلفة سردتها بطريقة مثيرة، على الرغم من توسعها هنا وهناك؛ مما أمدَّ في حجم الرواية، بحيث بدا الفصل الأخير– على سبيل المثال وبعض الفصول الأخرى– زائداً أو شبه زائد، ويمكن تضمين أفكاره في فصول أخرى بأسطر قليلة، وكذلك زجها لفكرة فلسفية حول القرى الثلاث لمجرد عرض ثقافتها، ولكن الأهم هو تزامن السرد الروائي مع الأساطير والأحلام حيث العلاقة المشحونة بالتوتر بين الواقع المزري للإسلام السلفي وبين فكرة المواطنة، حتى صار الدين تعبيراً عن التخلف والاضطهاد.
ومن هنا بدت صورة المرأة في واقع ما بعد الاحتلال وداعش مهزوزة بفعل تصاعد التشدد، وبسبب عقلية الشرقي الذكورية، في النظر إلى المرأة/ الآخر بوصفها فريسة للاستخدام الجسدي، من دون وازع أخلاقي أو ديني حقيقي أو اجتماعي.
والكاتبة تشير إلى تلك الحملات العثمانية على سنجار، التي كانت ترقى إلى حروب الإبادة الجماعية، وتشير إلى بقاء أناس من بعض الأسر والعشائر مقطوعين من شجرة (كما يقال)، ومن هؤلاء “قطّو”، الذي بقي طفلاً رضيعاً ملفوفاً في قماش أبيض متروكاً تحت شجرة، وقد تكدست فوقه أوراق الشجر، فعثرت عليه امرأة اسمها “خُناف” فأسمته “قطّو”، أي المقطوع من شجرة، أو (قطو ابن نسيمة)؛ وهنا تبدو الشجرة هي الأم الكبرى، أو الشجرة المقدسة، قرب الينابيع (الليدي درور، طاؤوس ملك، ترجمة رزق الله بطرس، دار الوراق (لندن، 2008)، ص 245). وتحيل أيضاً إلى الإلهة عشتار التي كانت تعبد آنذاك (فراس السواح، لغز عشتار، دار علاء الدين، ط7 (دمشق، 2000)، ص 11).
ولهذا اقترنت الشجرة في الرواية بالحية، أو الحياة وليس الأفعى المرعبة؛ كما يرتبط الطاؤوس ملك، وهو طائر شمسي مختص بعبادة الشجرة، لأنه يمثل الخلود وطول البقاء والحب، أو الخلود، ويكون مضطرباً قبيل هطول المطر، فهو يتصل بالرياح بسبب رقصته في المطر، فهو يرتبط باللولب، وكان ريش الطاووس هو الجائزة التي تمنح لأصحاب المقام الرفيع، وهو يدل على التأليه الملكي، وهو لدى المسيحيين يدل على الخلود والبعث والنفس المبجلة، ويجسد لدى الإيرانيين الطاؤوسين اللذين يقفان على جانبي الشجرة الحياة الثنائية والطبيعة المزدوجة للإنسان(جي. سي. كوبر، الموسوعة المصورة للرموز التقليدية، ترجمة مصطفى محمود، المشروع القومي للترجمة (القاهرة، 2014)، ص ص 438 – 439).
كما ربطت الكاتبة بين التاريخ الأسطوري، أو الأسطورة التاريخية لأتباع الإيزيدية والاضطهاد الحالي؛ بسبب الانفلات الأمني، من خلال إحالتها الرمزية إلى أنّ “نموراً هربت من أقفاصها في حديقة الحيوان مما سبّب بلبلة في بعض الطرقات وحوادث المرور” (وشم الطائر، ص 122).
-2-
تسرد الكاتبة روايتها سرداً ملحمياً قائماً على استخدام ضمير الشخص الثالث/ضمير الغائب (هو)، بطريقة عادية تقريباً، لكنها تتلاعب بالزمن، من حيث الاسترجاع للعودة إلى الماضي وحياة الشريحة الاجتماعية/الدينية، وحياة أهالي الموصل في العصور السابقة، عبر تقنية الاسترجاع/الارتداد الزمني (فلاش باك)، من خلال بناء أفقي تحاول به السيطرة على الأحداث والشخصيات من الانفراط من بين كفيها، مع أنها تعرف تمام المعرفة بالبيئة المكانية والمسافات بين الأمكنة وطبيعة الحياة، وهذا الانتقال أنقذ الرواية من الرتابة؛ فخلق نوعاً من التنوع، وأسفر عن الصراع بين طبيعة الحياة الرغيدة والحياة البائسة، حيث برز التفاوت في الحرمان بين القرية والمدينة من حيث تلبية الحاجات الغذائية مما سمح للكاتبة بالتحرك بين مكانين وزمانين معاً.
تبدأ الرواية من صدمة الحدث، وهو سيطرة تنظيم داعش على الفضاء المكاني للطائفة الإيزيدية، وقيامها بسبي نسائها، والكاتبة تنوه لهذا الحدث الصادم تماماً بقولها “كان أعضاء التنظيم قد أخذوا من الأسيرات كل حاجاتهن بضمنها خواتم الزواج الذهبية، ولكن خاتم زواج هيلين لم يكن خاتماً، كان وشم طائر. سمعت، وهي تحدّق في اصبعها، أحدهم ينادي بصوتٍ عالٍ “27، رقم 27″. لم تعرف هيلين في البداية بأن ذلك رقمها” (وسم الطائر، ص 7). والرقم (27) هو من مضاعفات الرقم (9) الذي سنتحدث عنه لاحقاً.
يمتلك النص السابق من الرواية حضوره الجلي، من خلال ملامح التعبير السيميائي الذي يحيط بالرواية ويكتنفها، لأن مصادرة خاتم الزواج إحالة سيميائية إلى انتهاء عقد الزواج السابق، وبداية عهد جديد من الأسر والاغتصاب، حيث يجري بيع الفتيات بالمزاد، كما أن ذكر هيلين وخاتمها الذي هو عبارة عن وشم لطائر القبج يحيل إلى عنوان الرواية، أما اسم هيلين ورقمها فلهما الكثير من العلامات؛ ذلك أن “العلامات” كاللغة نسق أو نظام أو إشارات “تعبر عن الأفكار ولذلك يمكن مقارنتها مع نظام الكتابة والحروف الهجائية للصم والبكم والاشارات العسكرية… الخ. ولكنها لا تزال الأكثر أهمية بين جميع هذه الأنساق والأنظمة”(آرثر أيزابرجر، النقد الثقافي: تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية، ترجمة وفاء ابراهيم ورمضان بسطاويسي، المجلس الأعلى للثقافة ( القاهرة، 2003)، ص 122).
ومن هذه العلامات، علامة الوشم الذي يعتبره التراقيون (نسبة إلى تراقيا في اليونان) ذا “دلالة على الرفعة”(تاريخ هيرودوت، ترجمة عبدالاله الملاح، المجمع الثقافي (أبو ظبي، 2001)، ص 375). كما يدل على التمييز والتعبير عن ثقافة عالية في الحفاظ على الرابطة الزوجية التي تصدعت بفعل العوامل الخارجية، أما الرقم (9) فهو حاصل ضرب الرقم (9) مع الرقم (3)؛ فالرقم (9) يعد رقماً حرجاً ومقدساً لدى الكثير من الشعوب البدائية، كما أنه رقم خطير لدى داعش في إحالته الجنسية، لأنهم يعتبرونه سن البلوغ أو الزواج/النكاح؛ بينما يحيل الرقم (3) إلى فكرة التثليث الصليبي، فهو يضمر فكرة الصلب/الموت في هذه العلاقة، فضلاً عن إحالته إلى حالة هيلين مع ابنها وزوجها، حيث سيقتل الزوج وتبقى هيلين مع ابن زوجها يحيى وابنها (الرقم 3)، وقد جاء مقروناً مع الرقم (9) كعدد سحري لأنه من مضاعفات الرقم (3) ومضاف للثلاثة ومعاقب للستة، وقد وضع تحت تأثير القمر، فغدا عدداً يختص بالحبَل/الحمل عند الأنثى، وبالجبل عن لدى الإنسان الذكر(معجم الخرافات، ص 45).
وتستمر الكاتبة في طرح الكثير من سردية الإحالات السيميائية التي سمحت بها أجواء الرواية، من خلال حركة سردية تنتقل من الماضي إلى الحاضر، من دون ضوابط توحي بها، ولربما حتمتها سيرورة حركة الرواية في الانتقال من مكان إلى آخر ومن زمن إلى آخر.
كما تحركت الرواية على وفق مديات مختلفة عبر التعبير السيميائي يوحي بها الصوت والصورة والحرف واللون.. وغيرها، فاللون هو لون الوشم، ولون إعلام داعش، ولون سياراتها وملابس أتباعها، ولون الظلام والحزن؛ فقد كان “عيّاش” القيادي في داعش يلبس سروالاً أسود ويركب سيارة سوداء فخمة، كما كان طائر القبج الأنثى الذي احتفظ به إلياس زوج هيلين في قفص “فوق عينيها خط أسود كالكحل وريشها مخطط بتدرجات اللون البني” (وشم الطائر، ص 59). والبني هو لون القهوة القريب من الأسود وقد رفضت سيدة ألمانية – بحسب فرويد – القهوة السوداء، بذريعة “أنها لا تستطيع تحمل طعم القهوة السوداء، حتى أن رشفة منها ستجعلها تشعر بالسوء في اليوم التالي” (رسائل يونغ وفرويد، ترجمة زهراء حسن، منشورات تكوين والرافدين، ط2 (بيروت، 2020)، ص 52). أما الكحل فله صلة بالوشم ولونه، لأنه يلوّن العينين بالسواد ، فهو كالنقاب، الذي يعد نوعاً من الخصاء المضمر للمرأة، لاعتقاد الإسلام الأصولي أن جسد المرأة وزينتها عورة، ولا يجوز للرجال الغرباء ملاحظة ذلك؛ ولكنه يبيح لداعش من ذوي اللحى الطويلة السوداء اغتصاب النساء الإيزيديات بوصفهن سبايا، هذا فضلاً عن الألوان الأخرى كاللون الأخضر فقد كان مقام خضر إلياس له قبة خضراء، وهم يسمونه “أبوالقدم الخضراء”؛ أو “الرِّجل الخضراء”، لهذا صار “مريدوه يزورون مكانه بعد مماته. كان نباتياً والعيد بالنسبة إليه هو اليوم الثاني لا تراق فيه أيّ قطرة دم. لذلك في عيده لا يذبح أتباعه حيواناً ولا يأكلون لحماً” (وشم الطائر، ص 153).
وكان أتباع داعش يكتبون “حرف النون بالأحمر على بيوت الذي يسمونهم نصارى كتهديد لهم بأن يخرجوا أو يقتلوا” (وشم الطائر، ص 153). واللون الأحمر إحالة رمزية لقرب حصول الخطر لأن اللون الأحمر هو لون الدم ولون الموت، وهو قمة الألوان وأرقها، يمثل الشمس، وكل آلهة الحرب، وهو الذكورة والمبدأ الفعّال، والنيران والحب والمتعة، والصيف والجنون، وهو يشير مع اللون الأبيض إلى الشيطان، وهو إله أبوللو باعتباره إله الشمس (الموسوعة المصورة، ص ص 128 – 129)، فهو له علاقة بالعديد من تقاليد وعقائد الإيزيدية، وفكرتهم حول الشيطان.
وفضلاً عن الصور اللونية ثمة صور لصراع خفي بين الصوت والصمت، فقد عبّر الكلام رمزياً عن نوع الاغتصاب، كما حصل لإحدى النساء الإيزيديات حيث فهمت هيلين “أن المرأة خرساء إذ لمحتها تجيب ابنها بيديها”(وشم الطائر، ص 35). بينما يمتلك الإيزيديون منظومة من الأصوات يعبّرون عنها بالصفير، وحين اقتراب داعش من قريتهم أطلق بعضم صفيراً يدلل على حصول حريق، لهذا دخلت “رمزية” الغرفة وهي تلهث، وقالت “درت خلف البيت لأرى إذا كانت هناك نار منسية لأن أحدهم أطلق صفارة حريق”( وشم الطائر، ص 107). كما أطلقت هيلين صافرة، وتعني بلغة الجبل “أنا هنا”، وكانت تعتقد أن ذلك الشخص الذي لمحته آزاد أو أحد عناصر داعش.
وقد تعاضد الصوت مع اللون لرسم صور سيميائية واضحة عن حياة القرية وأهلها ؛ فقد كان لنقر الطائر على النافذة معناه لدى إلياس موافقة أهل هيلين على زواجه، وهو يعتزم الزواج بها، حينما قال “آمل أن ينقر الطائر على نافذتي جالباً خبراً جديداً” (وشم الطائر، ص 106). وقد فسّرت هيلين نقرة الطائر تفسيراً رمزياً يحيل إلى أن بإمكان إلياس (التحدث مع) أهلها بشؤون العرس والزواج؛ بينما كان اللون الأبيض رمزاً للشفافية، لهذا اشترى عبدالله إلى يحيى وياسر منديلين أبيضين، ليلفا رأسيهما بهما، مضاهاة لعصائب داعش السوداء؛ فقد كانوا يطلقون على الإيزيديين ذوي الرؤوس البيض، ذلك لأن اللون الأبيض رمزهم للشفافية، كما كان يقول عبدالله، لأن الوساخة “تظهر في الأبيض بوضوح أكثر من باقي الألوان”(وشم الطائر، ص 214). مما يعني أن الألوان والأصوات تشكل منظومة سيميائية في هذه الرواية.
-3-
لقد شكلّت الكثير من الصور واللوحات والزخارف، علامات سيميائية واضحة للتعبير عن الحياة التي يعيشها الإيزيديون، فشعارهم هو الشمس، ولونها الأصفر والخضرة والربيع، والطبيعة الحية، حتى صورة وشم الطائر هي محاكاة للطبيعة؛ لهذا كانت الإحالة السيميائية إلى الرباط المقدس في زواج هيلين بإلياس، ثم صار عنواناً للرواية، فقد كانت هيلين تعزّز الخيط على الرسوم ، لأنها تعلمت “فن الإيتامين في درس الرسم”، فبعد الدراسة الابتدائية “ظلت هيلين تمارس الرسم وصارت رسومها وغرز الخيوط الملونة على القماش معروفة في المنطقة”(وشم الطائر، ص 47 – 48) وكذلك رسم إلياس على جذع الشجرة التي بجانبه، وفي سنجار ثمة شجرة عليها حية، فالحفر والصور النباتية والحيوانية جزء من ثقافة شعب له ملامح معينة، وكانت ثمة امرأة تضع على صدرها “قلادة فضية كبيرة بتعويذة سبع عيون لونها التركوازي يتناسق مع قرطيها اللذين على شكل هلال” (وشم الطائر، ص 113). فلما دخلت هيلين بيت أهلها وضعت دبوس السبع عيون على رداء ابنها الأبيض؛ من أجل درء الحسد عن ابنها، والرقم سبعة رقم مقدس، وهذه تميمة لها رمزية خاصة، ولها إحالات سيميائية عن طبيعة الثقافة السحرية التي تسود هناك.
تشير صورة “الهلال” إلى الحضارات الزراعية، عبادة القمر، أو الإله “سين” والاعتقاد بطرد الحسد، كما يقترن القرط بالصوت، حيث اللقاء بين الصورة والصوت، فالإسلام شعاره الهلال، وأتباعه يعملون بالتوقيت القمري، كما كانت رسومات هيلين كلها فيها شمس، وهي الأخرى رمز زراعي، ويعد القمر الهلالي الرمز الأول بلا منازع للأم العظيمة وملكة السماء القمرية، وهو الصفة المميزة لكل إلهات القمر، فهو مبدأ الانوثة الكامن، وكل من الام العذراء ،وعذراء السماء، ويصور القمر المتبدل التغيير في العالم المدرك(الموسوعة المصورة، ص ص 141 – 142).
كما كان مطبخ “شيمياء”، مع دلالة اسمها على الوشم، يحتوي على الأشكال الهندسية المرسومة، على البلاط، وهي أشكال مربعة صغيرة متداخلة على الأرض كالمتاهات وبداخل رسومات الكبرى رسوم لأزهار برية، كما كان لهيلين دفتر تخطيطات وعليه أصباغ رسمت فيه صورة “طائر القبج ووضعت الورقة أمام ميادة على الأرض مع علبة الأصباغ. وبدأت هيلين بتلوين جناح الطائر. تقصدت أن تلوّن ببطء كي تترك مساحة كافية لميادة عساها تلوّن” (وشم الطائر، ص 236). وفي هذا الوقت كانت تخربش باللون الأخضر، وما يحمله هذا اللون من الإحالة إلى بقايا عبادة الخصب وعلاقة الصورة بالفأل الحسن، وفي الديانة المسيحية يعتقد بأن اللون الأخضر النضر هو لون الخلود والأمل وروح القدس وانتصار الحياة، وفي مصر يجسد أوزريس القمح الأخضر الغصن الذي يتحوّل إلى ذهب إله الشمس رع (الموسوعة المصورة، ص 127).
كما اقترنت الألوان والصور والحركة والرقص بأحوال الإيزيديين في قراهم القديمة، مثل رقصة الطائر الجريح، وحكاية (فنسي ورشو)؛ فقد كان الأخير مغنياً وعازفاً بارعاً للناي. في إحالة إلى بوهيمية الغجر وغنائهم.
-4-
كان للأساطير والأحلام والمعتقدات الشعبية والدينية والتقاليد الاجتماعية تعبيرها السيميائي المعبر عن الاتصال بين الجذور الإنسانية للحضارات القديمة والواقع المعاصر، كما في فكرة ضياع خاتم الزواج ودلالته على انفصال الزوجين، وصلته بوشم الطائر الذي رسمه الخطيبان/الزوجان على بنصريهما، ومع ما يحمل من إحالات سيميائية ذات جذور أسطورية لطائر القبج ، وجناحه المرسوم، فقد كانوا “يقيمون طقساً سنوياً يحرقون فيه أقفاصاً خالية ويرقصون حول النار لاعتقادهم بأن ذلك الاحتفال الذي يسمونه عيد الطيور من شأنه أن يبعث تطميناً لطيور منطقتهم التي ستنقُر فيما بعد على نوافذهم كإشارة بأنّ هناك أخبار في الطريق اليهم” (وشم الطائر، ص ص 41- 42). وتسمى هذه الرقصة لدى أهالي قرية (حليقي) رقصة الألم، وكانوا يقيمونها على أنغام حزينة، ولعلها من أبرز العادات والتقاليد الأسطورية والشعبية، التي تعبّر عن اجتماع الفرح والحزن؛ بينما تعبر عقيدة مواجهة الكسوف، والاعتقاد بأنه ناتج من بلع الحوت للقمر؛ في إحالة سيميائية إلى غياب الخصب، حيث يقوم العراقيون بضرب الطبول، وهي عقيدة زراعية نابعة من تقديس المجتمعات الزراعية للقمر، أو الإله سين، فكان الناس يصعدون إلى سطوح منازلهم “حاملين المغارف والقدور لأن الحوت فعل فعلته مرة أخرى وتقدم ليبتلع القمر (… كما بلع العراق) الكويت مثل ذلك الحوت” (وشم الطائر، ص77). وكان الصبيان كثيراً ما يرددون بالعامية العراقية ( يا حوتة يا منحوتة هدي كمرنا العالي هذا كمرنا هو علينا غالي).
وكذلك الحال مع “عيد الرشاش” الذي يصادف في بداية شهر تموز حيث يرش القرويون بعضهم بعضاً بالماء المبارك، وهو نوع من السحر التشاكلي/السحر التمثيلي، للتعبير عن دور الماء بالخصب، ونزول المطر.
ودعت الكاتبة رحلات المهربين لصعوبتها برحلات الخفافيش، لأن الخفاش لا يتحرك إلا ليلاً، بينما شكلت الأعلام والرايات صوراً من صور الاحتفاء بالفكر الشعبي والأسطورة المحملة بالإحالات السيميائية الرمزية القابلة للتأويل النقدي، فقد اقترن عيد خضر الياس بالأحلام في حكاية “قطّو”، عندما جاء أبو هيلين لها بالحلم وكان منزعجاً، تحت إشارة رمزية واضحة فقال لها “انكسر سني الأمامي”، وحلم “قطّو” نفسه في حلمه بعيد خضر الياس بأن “أمينة سقته الماء، فسرّت أمه الحلم بأنّ تلك الفتاة هي العروس وهكذا تزوجها قطّو” (وشم الطائر، ص 154).
فإذا كانت الأحلام هي مرآة الانسان في اللاوعي، فإن المرآة هي الأخرى هي تعبير عن صورته الحقيقية معكوسة أمامه، بطريقة أو بأخرى، فقد كانت هيلين ترى عبر منظور الكاتبة في المرآة الجانبية ظهر الرجل ملقياً على الأرض دونما حراك وهو ينزف دماً، في الوقت الذي كانت “تنظر إلى صورتها المنعكسة على الزجاج كامرأة ملثمة بالنقاب وتحمل سكيناً كبيراً كالساطور فلا عجب أن تهرب منها الطفلة” (وشم الطائر، ص 34). حيث كان للمرأة دورها في مراقبة حركات تنظيم داعش، في رحلة البحث عن خلاص، التي قطعتها هيلين، كما كان السائق يتتبع في مرآة السيارة جواسيس داعش وهم يراقبون حركات التهريب خارج دولتها، وهنا تتداخل الرؤيا/الحلم مع الحقيقة بسبب القلق والأزمة الكبيرة؛ فكانت هيلين تركض نحو التابوتين غير مبالية بالتقاليد ،لأنها رأت في رؤيتها (بفكرها) يحيى وإلياس وهما يدفنان أحياءً، وهذا التداخل يحمل معه إشارات إلى علاقة المرآة بالواقع، والقمع الذكوري للمرأة في منعها من المشاركة في طقوس دفن الموتى، وهنا تبدو المرأة والمرآة متقاربتين، لأن المرآة تضاعف الصورة وتعكسها، وبالتالي هي رمز لصورة مشوشة للوعي، ولكنها ترتبط أيضاً للجاذبية، والماء يعد المرآة الأولى التي جسدت نوعاً من الموت في الماء والانتقال إلى عالم الأشباح (دوران، الأنتروبولوجيا: رموزها- أساطيرها– أنساقها، ترجمة د. مصباح الصمد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط2 (بيروت، 1993م)، ص 74). والمرآة تمثل الحقيقة والوعي والحكمة، وهي مرآة الكون، وتعد تعبيراً عن انعكاس الفكر الإلهي الخارق والوجه الوضيء للحقيقة الإلهية بكل صفاتها، وهي شمسية إلى جاني كونها قمرية، وهي في الفكر المسيحي تصور مريم العذراء، وتسمى مرآة العدالة وهي رمز الشمس، ولا يكون دخول المرآة المقدسة الا من خلال أحد الالهة في مناسبات شعائرية، وعند الساميين ترمز إلى الأنوثة الإلهية (أي المرأة) مع عنقود العنب والذكورة في الفن الحيثي (الموسوعة المصورة، ص ص 361 – 362). وهي لدى العرب تقترن بالمثل العربي القديم (مرآة الغريبة)، فهي تتفحصها وتراقب تحولاتها اليومية.
-5-
تحيل الكثير من أسماء شخصيات الرواية وأمكنتها إحالات سيميائية لها جذور أسطورية، فبطلة الرواية هيلين، من خلال دلالة اسم هيلين على أسطورة الحرب لدى اليونان؛ فقد كان الرسل يحملون الذبائح خلال المدينة لأجل نذور الآلهة المقدسة، وهي حملان، ورق جلد الماعز، مملوءاً خمراً، من ثمرة الأرض، يدخل السرور إلى القلب؛ وكان الرسول “إيدايوس” يحمل طاساً (إناءً) لامعاً وكؤوساً ذهبية (تادروس، أحلى الأساطير الإغريقية، كتابنا للنشر (بيروت، د. ت)، ص 88). ولربما يحيل إلى مقتل زوجها إلياس على يد داعش، فيما بعد، بوصفه نذراً أو أضحية لأهل دينه، وإلى حياة الريف والاعتقاد بالخصب والجمال الفائق الذي تتصف به؛ فقد كانت على خدها شامة، ولها ضفيرة شعر طويلة، فلما رآها إلياس كان يشعر أنه في حلم وليس في حقيقة، ولاسم أمها غزال إحالة إلى إيمان الإيزيديين بطاؤوس الملائكة، ولديهم سنجق طاؤوس عليه رسم غزال. ويحيل اسم (أحلام) إلى أهمية الأحلام؛ فهي شقيقة (آدم) الذي أنجبته أمها “أمينة” من اغتصاب داعش، لذا قال زوجها “قطّو”، “آدم لن يكون إيزيدياً أبداً” (وشم الطائر، ص 194). لهذا سيموت كتعبير عن انعدام الإنسانية والأبوة، لأن آدم ليس له أب.
أما شخصية “هدلا” الممرضة السورية في مستشفى الرقة، والتي تساعد على تهريب النساء الإيزيديات، فتقتلها داعش، ويشير اسمها إلى سيميائية انهدال الزيق وتصدع الصدر بالرصاص والتعذيب، فقد أمسكوها وقتلوها فأعدموها “في الساحة العامة أمام الناس. قالوا بمكبّر الصوت بأنها جاسوسة تعمل مع الكفار (…) بعد ساعتين من إعدامها، عُلّقت على جدار الساحة صورتها وهي بثياب التمريض وتحتها كلمة ‘بطلة’ بالخط العريض. داعش مزقوا الصورة” (وشم الطائر، ص 194). كما كانت سيمياء البياض، اللون المفضل لدى الإيزيديين، تحيل إلى النقاء، خير تعبير عن اللقاء بين النقاء وإنسانية المهنة.
-6-
كانت سيمياء الاغتصاب كفعل تدميري واضحة في الرواية، من خلال قوانين داعش في هذا الشأن، فقد كان قانون سوق لبيع الجسد الإنساني وتدميره؛ فقد فهمته هيلين بالتدريج الغريب عندما يأخذها أحدهم إلى صف مجاور في المدرسة التي كانت مقراً لداعش ويرجعها إلى مكانها فوراً بعد الاغتصاب معناه أنه أخذها لمتعة مؤقتة، يقلبها “مثلما يلقب الزبون بضاعة السوق. ولكن إذا قرر أحدهم شراءها فلا بدّ من دفع مبلغ لإدارة التنظيم وفق عقد شراء مختوم بختم الدولة” (وشم الطائر، ص 229). وهنا تصبح للختم والخاتم دلالات سيميائية؛ فالختم يحيل إلى فكرة فض الخاتم كناية عن فض الفرج، للاتصال الشهوي الجنسي، وكذلك كانت علامات التعذيب والاتصال الجنسي المتوحشة واحدة من علامات الغلبة والسباء التي يبيحها هذا التنظيم، على وفق نزعة سادية مريضة ومنحرفة تماماً، فقد كان النساء يتلقين التعذيب والاغتصاب والضربات القاسية، كما كانت تتعرض له “ريحانة” التي كانت تتحدث باللغة العربية ولا تفهم اللغة الكردية “لذلك تستعين بهيلين لتترجم بينها وبين ليلى. ليس دائماً وإنّما في الأوقات التي يصدف أن تمر دونما اغتصاب لأيّ واحدة منهن الثلاث .لا تأتيهن رغبة للكلام بعد الاغتصاب. يدخلن في صمت لا يقطعنه سوى تحية مغتصب لصاحبه المغتصب الآخر. تأتي نشازاً مثل ضحكة في عزاء” (وشم الطائر، ص 9).
وبسب عمليات الانتحار وجدت “ريحانة” ميتة، فقد أخذها أبوتحسين القيادي في داعش، واشتراها ثم أرجعها إلى بيته في حلب، وكيف كانت تتقيأ وهي يغتصبها، حين يمارس الجنس معها، ويضربها بالعصا؛ كما كان للحمّام سيميائية الاغتصاب، فقد كانت هيلين تعرف ذلك وبأن الصلاة ستعقبه ثم الاغتصاب؛ مما يسمح لبعض الفتيات بالانتحار بالحمّام، كما كان لغابات الموصل دلالتها من خلال منظر توالي الأشجار الكبيرة، و”كأنها مجموعة من المغتصبين الذين سيتناوبون عليها ويقطعون أنفاسها” (وشم الطائر، ص 11)، في دلالة العصا الذكورية، والاغصان المنتصبة التي تحيل إلى الجناس بين الأغصان والاغتصاب، وكأن الأغصان والجذوع هي صورة من صور استهداف الأنوثة المقهورة.