آداب المنافي بدلا من آداب المهجر

الخميس 2020/10/01
لوحة فؤاد حمدي

أطلقتُ في كتاب حرّرته بعنوان “الكتابة والمنفى” وأصدرته في عام 2012، واحتوى أعمال ندوة أشرفت عليها بعنوان “الأدب والمنفى” عقدت في ربيع عام 2007 المبادرة الآتية: آن الأوان لتنشيط جدل ثقافي ينتهي بإحلال عبارة “كتابة المنْفَى” محل عبارة “كتابة المهجر”؛ وحجّتي في ذلك أنّ كتابة المنفَى مزيج من الاغتراب والنفور، وتراوح في منطقة الانتماء المزدوج إلى هويتين متباينتين، ثم، في الوقت نفسه، عدم إمكانية الانتماء لأيّ منهما، وهي كتابة كاشفة تقوم على فرضية تفكيك الهوية الواحدة، وتقترح هوية رمادية مركّبة من عناصر كثيرة، وبهذه الصفة تعدّ كتابة المنفى عابرة للحدود الثقافية والجغرافية والتاريخية والدينية، وهي تخفي إشكالية خلافية، كونها تتشكل عبر رؤية نافذة، ومنظور حاد لا يعرف التواطؤ؛ فكتابة المنفى تتعالى على التسطيح، وتتضمن قسوة صريحة من التشريح المباشر لأوضاع المنفي، وعلى حدِّ سواء، لكلّ من الجماعة التي اقتلع منها، والجماعة الحاضنة له، لكنها تنأى بنفسها عن الكراهية، والتعصب، والغلو، وتتخطّى الموضوعات الجاهزة، والأفكار النمطية، وتعرض شخصيات منهمكة في قطيعة مع الجماعة التقليدية، وتنبض برؤية ترتد صوب مناطق مجهولة داخل النفس الإنسانية.

وتتسم كتابة المنفى، فضلا عن كل ذلك، بالقلق الوجودي، ويسكنها الحراك، والانشقاقية، والسخط، وفيها تعوم الأسئلة الكبرى، وهي مدونة قاسية تتمثل فيها مصائر البشر حينما تدفعهم نوازع العنف الأعمى إلى تمزيق شملهم، فيلوذون بأماكن بديلة بحثا عن آمان خادع.

وفي ضوء ذلك رأيت أن الاستبدال بين المصطلحين والمفهومين ضروري بعد مرور أكثر من قرن على استخدام مصطلح “أدب المهجر” لأنه يخلو من المحمول الذي جرى وصفه من قبل، فـ”أدب المنْفَى” يختلف عن “أدب المهجر” اختلافا واضحا، كون الأخير حبس نفسه في الدلالة الجغرافية، فيما انفتح الأول على سائر القضايا المتصلة بموقع المنفِيّ في العالم الذي أصبح فيه دون أن تغيب عنه قضايا العالم الذي غادره.

وحينما تُفحص مدونة الكتابة في العصر الحديث فسوف تلفت الاهتمام ظاهرة كتابة المنفَى، إذ تنامى حضورها في ثقافات الأمم كافة، وهي مدونة خصبة تطفح برغبات من الاشتياق والحنين والقلق، ومسكونة بفكرة إعادة كشف موقع الفرد في وطنه وفي منفاه على حدٍّ سواء؛ فالمنفي لا يستطيع الانخراط الكامل في المجتمع الجديد، ولا يتمكّن من قطع الصلة بالمجتمع القديم الذي ولد فيه، فيتوهّم صلة مضطربة وانتماءً مهجّنًا، ويختلق بلادًا لاحقته أطيافها في المنفى، فما أن يرتحل المرء أو يُرحَّل عن مكانه الأوّل حتى تتساقط كثافة الحياة اليوميّة وتنحسر وتتلاشى، وتحلّ محلّها ذكرياتٌ شفّافة تدفع به إلى نسيان الوقائع المريرة، وبمضيّ السنوات يبدأ المنفيّ في تخيّل بلاد على سبيل الاستعادة والتعويض، وهي أمكنة تتخلّق في ذاكرته كتجربة شفّافة وأثيريّة، يغذّيها شوق إلى أماكن حقيقيّة تلاشت إلاّ كومضات بعيدة في عتمة حالكة. ذلك هو الحنين بدلالته الفكريّة والعاطفيّة.

لم يغب هذا الأمر عن بعض مفكري حقبة ما بعد الاستعمار، فقد شغل به إدوارد سعيد في كتابه “تأمّلات حول المنفى” فتطرّق إلى بواعث النفي وآثاره “النفي لا يقتصر معناه على قضاء سنوات يضرب فيها المرء في الشعاب هائمًا على وجهه، بعيدًا عن أسرته وعن الديار التي ألفها، بل يعني إلى حدٍّ ما أن يصبح منبوذًا إلى الأبد، محرومًا على الدوام من الإحساس بأنّه في وطنه، فهو يعيش في بيئة غريبة، لا يعزّيه شيء عن فقدان الماضي، ولا يقلّ ما يشعر به من مرارة إزاء الحاضر والمستقبل”.

ثمّ استطرد مفصّلا ما أجمل “يشيع افتراض غريب وعارٍ عن الصحّة تماما، بأنّ المنفيّ قد انقطعت صلته كليّة بموطنه الأصليّ، فهو معزول عنه، منفصل منبتّ الروابط إلى الأبد به. ألا ليتَ أنّ هذا الانفصال ‘الجراحيّ’ الكامل كان صحيحًا، إذن لاستطعتَ عندها على الأقلّ أن تجد السلوى في التيقّن من أنّ ما خلّفته وراء ظهرك عاد لا يشغل بالك، وأنّه من المحال عليك أن تستعيده أبدًا. ولكنّ الواقع يقول بغير ذلك، إذ لا تقتصر الصعوبة التي يواجهها المنفيّ على كونه قد أُرغم على العيش خارج وطنه، بل إنّها تعني أن يعيش مع كلّ ما يُذكّره بأنّه منفيّ، إلى جانب الإحساس بأنّ الوطن ليس بالغ البعد عنه.. وهكذا فإنّ المنفيّ يقع في منطقة وسطى، فلا هو يمثّل تواؤمًا كاملا مع المكان الجديد، ولا هو تحررّ تمامًا من القديم، فهو محاط بأنصاف مُشاركة وأنصاف انفصال، ويمثّل على مستوى معيّن ذلك الحنين إلى الوطن وما يرتبط به من مشاعر، وعلى مستوى آخر قدرة المنفِيّ الفائقة على محاكاة من يعيش معهم الآن، أو إحساسه الدفين بأنّه منبوذ”.

وإلى كل ذلك يصح القول إنّ العصور الحديثة أفرزت نموذجا سرديا جديدا هو الشخص الدخيل، قرين المنفي، ذلك الشخص الذي يترحّل هائما على وجهه، أو يُجبر على الترحّل بين البلدان من غير اندماج، إما لأنه أُرغم على ذلك أو لأنه يسعى لتحسين شروط حياته في غير بلاده الأصلية، وغالبا ما يحمل الدخيل معه قيم البلاد التي غادرها، لكنه يخفق في الاندماج بقيم المجتمع الذي استضافه، شأنه في ذلك شأن المنفي، ما يطرح أمرا جديرا بالاهتمام، وهو أن الدخيل يحمل معه قيم البلاد تعذّر عليها حمايته أو توفير أبسط أسباب العيش، وحيثما يطرح موضوع قيم الدخيل ينبغي التفكير بنسبية تلك القيم التي هي نظام متداخل من الأخلاق والأفكار والعلاقات الاجتماعية ورؤية العالم والمعتقدات الدينية.

من الصحيح أن هذا النظام متلازم العناصر يشكّل قوام الهوية الفردية للدخيل، وقد يتعرض للخدش والزعزعة في البلاد المضيفة، لكنه لا يمحى ويتوارى بانتقاله من ثقافة إلى ثقافة أخرى، وتثبت الظاهرة السردية الحديثة أنه ينتعش بوصفه أسلوبا للمقاومة الناعمة وتعبيرا عن رفض الغريب من المجتمع المضيف له، فشروط الضيافة لا تتحقق بالمعنى الكامل، ويتعذر الاستقبال الثقافي للدخيل، فالإعراض عنه والامتناع عن قبوله كما هو يمكن العثور عليه في كثير من كتاب المستعمرات السابقة الذين دفعوا بشخصيات رواياتهم للارتحال إلى خارج عوالمها الأصلية.

وليس يجوز فصم صلة كتابة المنفى عن التجربة الاستعمارية، فقد أفضت التجربة الاستعماريّة إلى بروز ظاهرة ثقافيّة لم تكن معروفة في التاريخ من قبل إلاّ في نطاق ضيّق، هي تبنّي لغة المستعمِر وسيلة للتعبير عن مشكلات المجتمعات المستعمَرة، فلم يكتف المستعمِر بالسيطرة على تلك المجتمعات، إنّما جرى فرض لغته للتعبير عن البطانة الداخليّة لمشاعرها وأحاسيسها وطموحاتها ومشكلاتها وتاريخها، بل وأعيد إنتاج موروث تلك المجتمعات بلغة المستعمِر، فوصف وحُلّل بها وقُيّم، فظهر بون بين المخيال الجماعيّ الأصليّ والذاكرة التاريخيّة وبين وسيلة التعبير عنهما، فقد انحسرت اللغات القوميّة أو الوطنيّة، وتوارى استعمالها، فهُجرت ونُسيت واستعيرت لغات جديدة أصبحت وسيلة التواصل والتعبير في كثير من قارّات العالم طوال العهد الاستعماريّ.

انتصر الاستعمار في تفكيك الشبكة الرمزيّة من المعاني والتخيّلات والأخلاقيّات للجماعات الأصليّة، وأحلّ معها بالقوّة العسكريّة أو السياسيّة أو الاقتصاديّة أو بالتعليم الاستعماريّ شبكة مختلفة من المعاني حملها معه من وراء البحار، وحينما استقام الأمر للقوى الاستعماريّة وصمت المجتمعات الأصليّة بالهمجيّة، ورسمت لها صورة سلبيّة. ولكي تنخرط في مسار التاريخ العالميّ ينبغي عليها الاندراج في سياق الثقافة الاستعماريّة، وتبنّي ما تقدّمه من أفكار وتصوّرات ومناهج، وطبقًا لقاعدة التبعيًة، فلا يجوز الابتكار، إنّما تنبغي المحاكاة، فتلك وسيلة المرء الوحيدة ليكون موضع حظوة، فيكون له موقع في السلّم الإداريّ للسلطة الاستعماريّة، ذلك أنّ فصم الصلة عن الجماعة الأصليّة وهُويّتها الثقافيّة يعقبه البحث عن بديل.

ظهرت كتابة مزدوجة تقوم على التلفيق بين وسيلة ومحتوى غير متجانسين، فكثير من الكتّاب تبنّوا لغة المستعمر في الكتابة عن مجتمعاتهم، فارتسم التباين بين موضوعات أصليّة ولغات دخيلة، ولكنّ التجربة الاستعماريّة كالزلازل المدمّرة، غالبًا ما تكون لها تداعيات، فتترك خلفها تبعات مؤذية، وخرابًا لا يُصلح أمره، إذ تجتذب إليها كثيرًا من الذين تلقّوا لغاتها وأفكارها، وتشبّعوا بثقافاتها، فكان لا بدَّ من ظهور كتابة مبنيّة على استعادة تخيّليّة لأحوال المجتمعات الأصليّة باللغات الاستعماريّة، وهي ممتثلة لشروط المركزيّة الغربيّة في قواعد الكتابة، وشروط الأنواع الأدبيّة والأشكال الأدبيّة وطرائق التعبير، فقد أصبحت المحاكاة رصيدًا ثقافيًّا يتغذّى عليه الكاتب، ومرجعيّة ذهنيّة لا فكاك منها، فيستحيل عليه التفكير والتخيّل بمعزل عنها.

وتنتسب هذه الكتابة إلى “المنفى الثقافيّ” الذي وضع كثيرًا من كتّاب المستعمرات السابقة في مواجهة مأزق خطير، إذ استعاروا اللغة الاستعماريّة للكتابة عن مجتمعاتهم، فغابت الرؤية النقديّة لدى كثير منهم حينما ركّزوا الاهتمام على الوقائع الغريبة التي نظر إليها المستعمرون باستعلاء، فكأنّهم بذلك يسترضونهم بلغتهم، أو يستجيبون لتوقّعاتهم، وكلّما بالغ بعض الكتّاب في ادّعاء التمسّك بالموضوعات المحليّة فإنّما لعرض الأخطاء ووصف العيوب، وكأنّ الكتابة سجل أنثروبولوجيّ للعادات والتقاليد والأساطير، دبّج برؤية رومانسيّة تميط اللثام عن الأسرار والخبايا، فتقوم على تحيّزات ثقافيّة مضمرة، وبذلك امتثلوا لحكم القيمة الغربيّ في أنّ تقدير قيمة الأشياء يتأتّى من مقدار إذعانها أو مخالفتها للذوق الغربيّ.

ولعلّ تمثيل مواقف المقاومة ضدّ الاستعمار وتشكّل الوعي الوطنيّ قد استأثر بأمثلة من هذه الكتابة، لكنّ الاستلاب الثقافيّ وحضور فكرة الهجرة والحلم بالفرص الكبيرة والاشتياق إلى نساء مغايرات والاعتكاف على ذات منقطعة عن محيطها الاجتماعيّ وازدراء المجتمع والاستياء من الأحوال العامّة والسخط المبهم على الجميع والعزوف عن المشاركة وغموض المستقبل، كلّها موضوعات كشفت اختلالاً في مفهوم الهُويّة وثغرة عميقة في الوعي الخاصّ ومحاكاة لنماذج عليا من الكتابة الاستعماريّة، فالكتابة المزدوجة تحيل على انشقاق في الموقف من الذات والآخر، لكنّ أمرها يترتّب ضمن سياق ثقافة عالميّة استعماريّة واحدة، إذ انهار الإطار المشكّل للثقافات القوميّة وتعذّر قبول تنوّعها، فلكي تظهر كتابة جديدة فلا بدَّ من الانصياع لسوق الثقافة، وهي سوق جرى الاستئثار بها من طرف المراكز الاستعماريّة شأنها شأن الثروات والإعلام والتجارة والصناعة.

لم تكن استعارة اللغة الاستعماريّة مجردة عن الوقوع في إطار رؤية ضبابيّة للماضي واستعلاء عليه واستغلاله بطريقة بشعة، إذ يراد منه أن يكون موطنًا للعيوب ومصدرًا للعار، فمعالم الاسترضاء تستبطن كتابة النخبة المحاكاتيّة التي خلفتها التجربة الاستعماريّة لأنّها ممزّقة بين وعي مستلب أو شقيّ، وندر أن تكيّفت مع الواقع الذي ظهرت فيه.

 ومن الصحيح أنّها قد أوصلت صوتها إلى مناطق يصعب الوصول إليها، ووضعت على بساط البحث أمر تقويم التجربة الاستعماريّة في التاريخ الحديث لكنّها في مجملها كتابة امتثاليّة صيغت في إطار الوعي الاستعماريّ وخضعت لشروطه الثقافيّة والسياسيّة والاستهلاكيّة، ولم تتخطّ حدود السجال إلى مقترح الاختلاف والمغايرة، فتلك منطقة يصعب ظهورها في ظلّ الإذعان لشروط الخطاب الاستعماريّ الذي تحوّل إلى مؤسّسة ثقافيّة كبيرة تعيد صوغ الوعي العالميّ، وتقوم بتصديره إلى كلّ مكان فيحول دون العودة إلى الجذور ولا إمكانيّة لبعثها بصيغ جديدة.

أفضى انحسار التجربة الاستعماريّة المباشرة إلى الدفع بظاهرة الكتابة المحاكاتيّة، ففي قلب المركز الثقافيّ الغربيّ ظهر نوعان من الكتابة، كتابة بيضاء أصليّة معترف بها، وكتابة ملوّنة هجينة يحوم الشكّ حول قيمتها، ولم يقع الاندماج بينهما؛ فما زال ينظر إلى الثانية بوصفها سجلاًّ لتجارب المنفيّين، استعار لغة المستعمر وشروط أدبه ليعبر بتخيّلات سرديّة متوتّرة عن موضوعات خارج المركز الغربيّ، فهي كتابة مقتلعة لم تفلح في الاندماج في مسار المؤسّسة الغربيّة بصورة كاملة، ولم تنبثق من سياق الثقافات القوميّة الوطنيّة للمجتمعات التي كانت موضوعًا للتجربة الاستعماريّة، ولا يخلو بعضها من نقد مسار التجربة الاستعماريّة نفسها والجروح التي تركتها في الثقافات الأصليّة.

ومن أجل أن يبرهن الكاتب على تبعيّته، ينبغي عليه إعلان مقته لكلّ ما هو خاصّ بذاكرته الثقافيّة والاجتماعيّة ومحاكاة المستعمرين، فتتأتّى عن ذلك مشاعر دونيّة، ونتج عن حضور هاجس السعي إلى بلوغ رتبة المستعمِر فشل مركّب ارتدّ إلى الداخل فزعزع الهُويّة الشخصيّة لصاحبه، ذلك أنّ الكاتب التابع لم يتمكّن من تطوير منظومة القيم والعادات والعلاقات الاجتماعيّة من جانب، ولم يستطع الانقطاع كليًّا عنها والذوبان في ثقافة المستعمِر من جانب آخر، فانتهى مقتلعًا، فلم تقبل به جماعته الأصليّة ولم تهضم وجوده الجماعة الاستعماريّة، فأصبحت الكتابة المنفيّة منقطعة عن سياقين، وتنزّلت في فراغ عميق، وعبّرت عن حالات إنسانيّة مزعزعة يتعذّر عليها الانتماء، ولا هُويّة واضحة لها. كل هذا دفع بكتابة المنفى إلى الواجهة، ودفع إلى الوراء بكتابة المهجر التي خلت من إشكالية الانتماء المزدوج للفرد والجماعة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.