منديل لوزة

كان اليوم هو الخامس والعشرون من تشرين الثاني حين بلغت البصرة، وجدت طقسها رائقًا قبل رحيل آخر أشهر الخريف، والرطوبة منخفضةً، لذا استبشرت بأن رحلتي ستكون مريحةً. صافحتني الأرملة، التي كانت تشغل المقعد الملاصق لمقعدي في الحافة، مودعةً، في الكراج الموحد، فبعث ملمس يدها الدفء في راحتيّ، وطبعت قبلةً سريعةً على خدي أشعرتني بحرارة لهفتها، وأخبرني حدسي بأنها واحدة أُخرى من أرامل الحرب اللواتي أدركهن اليباس، تطمح إلى شريك حياة يورق روحها ويثمرها. “أعانها الله على قهر الزمن”، قلت في دخيلتي، لكن تفكيرها فيّ لم يكن في محله. ركبت سيارة أُجرة أوصلتني إلى المستشفى العام، حيث تعمل حبيبتي نهود.
لم ترُق لي المدينة في زيارتي الأولى لها رفقة جدّي، في شهر آب اللهّاب، وأنا ابن ست عشرة سنةً. كل شيء بدا كأنه يذوب في حَرّها الجهنمي. كانت معلوماتي عنها حينها شحيحةً، لا تتعدى كونها مدينةً يفترعها شط العرب، واهب الحياة، ويلقبونها بـ”الفيحاء” و”بنت البحر”، وفيها عدد غزير من أشجار النخيل يفوق عدد سكانها، ومَن يأكل من تمرها لا بدّ أن يعود إليها جذلان وإن طال السفر، كأنه مولود فيها، وأن السندباد انطلق منها في رحلاته البحرية. على أن أيام “الشرجي”(1) الخانقة في تلك الزيارة سرقت المتعة التي كنت أبتغيها.
كان جدّي وقتها أرمل يربو عمره على ستين سنةً، إلاّ أن طاقته البدنية لم تكن معطوبةً. ذهب لشراء كمية من دفاتر ورق لف السجائر “بافرة”، وكان قد درج على الذهاب كل شهر أو شهرين. سألته مرةً “لماذا لا تتبضّع من بغداد؟”، قال “لا أحب التعامل مع تجّارها، إنهم مغلوانيون”. لكن تبيّن لي لاحقًا أنه يفضّل التبضّع من البصرة لسبب آخر، من أجل امرأة كانت تربطه بها علاقة حميمة.
سافرنا بالقطار من محطة بغداد العالمية، وظلّ يهدر بنا طَوال الليل، فلم أستطع أن أنام سوى ساعتين قبل انصداع الفجر. أما جدّي فقد غفا في منتصف الطريق، ولم يستيقظ إلاّ في “المعقل”، المحطة الأخيرة في البصرة.
بعد اجتياز القطار محطة “الكرماشية” جنوب الناصرية، خفّف من سرعته، فأتيحت لي أول مرة رؤية “الهور” (2) وبيوت القصب (الصرائف) المتفرقة على سطحه (علمت فيما بعد أن الصريفة تُقام على تل صغير يُعرف بـ”اليشن”، والمشاحيف والجواميس الجاثمة على عتباتها، وسيقان البردي، الشبيهة بالرماح المتشابكة، المتمايلة مع الريح التي تسحّ في جنباتها.
كنت أتطلع إليها تحت نور قمر الرابع عشر من الشهر مبهورًا، وأنا أمدّ بصري من نافذة العربة المفتوحة حتى حدود السماء، فتبدو لي أنها تركض مسرعةً عكس اتجاه القطار.
كان مشهد ذلك العالم ساحرًا، “يا لروعته، أتوق إلى التوغل في مجاهله ومسالكه وسبر أغوارها، واكتشاف الأسرار التي تكتنزها” قلت لنفسي، وأسندت رأسي إلى الكرسي، وأغمضت عينيّ، فتهيأ لي في حلم يقظة أنني على متن “مشحوف” (قارب) نحيل يمخر ممرًّا مائيًّا يحفّه البردي والقصب، رفقة فتاة وأبيها.
تخيّلت الفتاة رشيقةً في ربيع عمرها، تلبس ثوبًا بلون العشب، وتضع على رأسها “شيلة” (طرحة) زرقاء تنسدل على صدرها وكتفيها، وتنحسر عند ناصية شعرها المصبوغ بالحنّاء لتداعب نسمات الريح غرّتها التي تلامس حاجبيها، ويزيّن ذقنها قوس من وشوم خُضر تشبه خرزات منظومة، وتشدّ خصرها بعباءةً سوداء تغطي ردفيها من الخلف وتبرز عجيزتها المدوّرة. أما أبوها فقد تخيّلته يشارف على الأربعين، لحيته مسترسلة، يرتدي دشداشةً رماديةً ويعصب رأسه بشماغ، ويبسط أمامه بندقيةً كسريةً ذات ماسورة طويلة وصندوقًا خشبيَا مملوءًا بالعتاد.
كانت الفتاة منتصبةً على ساقيها في مؤخرة المشحوف كدعامة خشبية، تطبق قبضتيها على مجداف طويل، وتبذل جهدًا في دفع الماء إلى الوراء ليتقدم المشحوف إلى الأمام، فيما كان أبوها يظلل عينيه بكفّه اتقاء شعاع الشمس الذي يغشى البصر، ويغني بصوت شجي “أبوذيّات” (3) ألم وشكوى تفطُر القلب، ومن داخل أجمات البردي تترامى إلى أسماعنا تغريدات طيور تحلّق إلى السماء كنغمات الموسيقى.
سألت الرجل حين توقف عن الغناء:
– هل تصيد البط بكسريّتك؟
قال:
– لا، أقتل بها الضباع والخنازير البرية.
ندّت عني آهة خوف:
– أتوجد ضباع وخنازير في الهور؟
– وحيوانات مفترسة أخرى.
أطلقت آهة ثانيةً، ورحت أجول بنظري في أنحاء أدغال البردي والقصب، فأدارت ابنته جسدها لتصبح في مواجهتي، ووضعت المجداف على كتفها، وحركت يدها الثانية في الهواء، وهي تبتسم ابتسامةً أوحت إليّ بأنها تحضّني علي قهر جُبني، وإيقاظ الشجاعة في داخلي.
حين أفقت من سرحاني، على صوت صافرة الإنذار التي أطلقها القطار، كان ضوء الصباح قد بدأ بالانتشار، ففركت عينيّ، وانكمشت على نفسي، وداخلني حزن كما لو أني أُنتُزعت من قلب رحلة حقيقية فريدة كنت أتمنى أن تطول إلى الأبد.
لحظة وصولنا إلى بيت عشيقة جدّي، أطلت صبيّة ذات بشرة سمراء غامقة من باب البيت المقابل، ترتدي تنورة كلوش حمراء على مستوى ركبتيها، وقميصًا مشجّرًا بكمّين قصيرين يشرف تحته نهدان في بداية بزوغهما. سلّمتْ على جدّي بحرارة تنم عن معرفة سابقة به، ثم حانت منها التفاتة إليّ وابتسمت في وجهي ابتسامةً مشرقةً، وسألته:
– هل هذا الشاب الحلو ابنك؟
دغدغني إطراؤها، فارتعشت من رأسي حتى أخمصيّ، أما جدّي فقد مسّد على شعري وأجابها متباهيًا:
– لا، إنه حفيدي.
عضّت بأسنانها على شفتها السفلى، ولوّحت بيدها محييةً ودلفت إلى البيت. استغربت وقلت لجدّي:
– كيف تعرفك هذه البنت؟
– رأيتها مرتين هنا. ترة
أشار إلى البيت الذي وقفنا بإزائه ننتظر أن يُفتح بابه، وأضاف:
– إذا سألك أيّ شخص في كركوك أين أقمت في سفرتك مع جدّك قل له في فندق.
– هذا فندق؟
– لا، إنه بيت أرملة ابنة أجاويد، امرأة على سجيّتها أكثر من اللازم، لكنها مهيضة الجناح، جنت الحياة عليها، مدينة بالكثير من المال ويصعب عليها سداده، لديها حجرة أجّرتها لي لأقيم فيها كلما قدمت إلى البصرة، ولا أستطيع منها فكاكًا.
– وهل هذه الهدايا لها؟
– أشياء بسيطة تستحقها على كرمها.
– ما اسمها؟
– هنادي.
– أتعيش وحدها في البيت؟
– لا، لديها ولد وبنت، لكنهما غير موجودين الآن، يصيّفان في بيت أختهما المتزوجة في بعقوبة.
ظلت الصبيّة، جارة هنادي، مهيمنةً على بالي طَوال يومنا الأول في البصرة، داعبت بشرتها خيالي المراهق، ووددت أن أراها ثانيةً وأكلمها. خرجت من البيت ووقفت أمام الباب مرّتين يحدوني شغف بأن أحظى بها، لكنها لم تظهر، وحين استفسرت من هنادي عنها استغربتْ، وحذّرتني منها قائلةً إنها بنت متهتكة وعليّ ألاّ أفكّر بها. سألتها:
– ماذا تعنين بمتهتّكة؟
– يحوم حولها القيل والقال، وسمعة البنت مثل لوح زجاج إذا انكسر يصعب إصلاحه.
– ألا تعيش مع أمّها في البيت؟
– أمّها غير متفرّغة لتربيتها، تعمل منظفةً في مستشفى طَوال النهار وتتركها وحدها في البيت.
– العمل ليس عيبًا، وأبوها؟
– لا أحد يعرف شيئًا عنه، ربما قضى نحبه أو هاجر. هؤلاء العبيد، وكلّنا عبيد الله…
– لماذا تسمّينهم عبيدًا؟
– الناس يسمّونهم لأنهم سود.
– لا يا خالة هنادي، أنت ابنة أجاويد ولا يليق بك أن تجاري هؤلاء الناس.
ابتلعت ريقها، وقالت:
– لا أعرف، جائز أكون غلطانةً.
– لماذا تقولين إن أخلاقها سيئة، هل لاحظتِها تدخِل أحدًا إلى البيت حين تغيب أمّها؟
– لم أرها بعيني، لكن جاراتي يقلن.. أعوذ بالله.
– ماذا يقلن؟
– إنها لعوب على علاقة مع أكثر من شاب.
– ولماذا تصدقيهنّ؟
– لا دخان من غير نار.
لم ألتزم بتحذير هنادي، لا بل زاد من رغبتي في التعرّف إلى الصبيّة، فعاودت الخروج في اليومين التاليين مرات عديدةً بذريعة المشي، أو الشراء من متجر على مقربة من البيت، لكني لم أحظَ برؤيتها.
في صباح اليوم الثالث فاجأتني بمجيئها مرتديةً شورت جينز قصيرًا باليًا، وقميصًا شفافًا، لا تظهر تحته حمّالة صدر، يبرز حلمتي نهديها العذراوين بوضوح، وتضع حول عنقها منديلًا أحمر. كانت هنادي قد خرجت للتسوّق، وسبقها جدي لشراء ورق البافرة. حين فتحتُ لها الباب ندّت عنها آهة، أعقبتها بـ:
– هذا أنت؟
– إي أنا.
– ما اسمك؟
– يوسف.
– اسم على مسمّى.
– وأنتِ؟
– لوزة.
– ما أحلاه! اسم على مسمّى أيضًا، كم عمرك؟
– ثلاث عشرة سنة.
– تبدين أكبر. تفضّلي.
– أنت وحدك؟ أين خالتي هنادي؟
– ذهبت إلى السوق. أدخلي.
– لا أستطيع، أردت قليلًا من الثلج، مجمّدتنا عاطلة.
– ادخلي، سأعطيك أنا.
– لا لا، أخشى أن تأتي وتجدني معك.
– لن تأتي بسرعة، تتأخر عادةً ساعتين أو ثلاثًا.
– احلف.
– بمَ أحلف؟
– بالعبّاس.
– بالعبّاس ستتأخر.
دخلت لوزة بخفر متصنّع، تهزّ ردفيها اختيالًا، فأغلقتُ الباب وسرت وراءها، جذلًا، مبحلقًا في مؤخرتها المكوّرة وساقيها بانتشاء، وحالما وضعت قدميها على بلاط حجرة الضيوف احتويتها بذراعيّ من الخلف وضممتها إلى صدري. جفلت وحاولت أن تنتزع نفسها مني:
– أتركني حبّاب، أشعر بدغدغة في جسمي إذا لمسني أحد.
– أحببت سمرتك وفمك الصغير وأريد أن أبوسك لا أكثر.
كان يضوع منها عبق دهن العود بكثافة، فأدرتها إليّ ولثمت شفتيها، وعرّيت صدرها وتلقّفت حلمتي نهديها الغضّين، إلاّ أنها تملّصت مني بسرعة وولت هاربةً وقد سقط منديلها على الأرض. خرجت في إثرها لأعيدها، تلفّت يمنةً ويسرةً فوجدت الزقاق مقفرًا، بالأحرى كان خاليًا من المارة والأطفال، ناديتها: “لوزة، ارجعي لتأخذي الثلج، لن أفعل شيئًا يغيظك”، لكنها لم تستجب، خفّت إلى البيت مسرعةً مثل مهرة، وعند بلوغها الباب، الذي كانت قد تركته مشرعًا، استدارت إليّ وعلى شفتيها ابتسامة مغرية، وولجت البيت.
انتظرت بعض الوقت لعلها تعود، لكنها لم تعد. دلفتُ إلى البيت وكانت نكهة القبلة في فمي، وحرارة نهديها بين أصابعي، وعبق دهن العود في أنفي، فالتقطت منديلها من الأرض وشممته.
أعادت لوزة ذاكرتي إلى الصبايا اللواتي كنت أقودهن إلى زاوية مظلمة في بيتنا، قبل ذلك الحين بثلاث سنوات، لأسترق قبلات من ثغورهن، وأتمادى أحيانًا معهن بحجة اللهو، وتساءلت مع نفسي إذا ما كانت لوزة قد جاءت لتطلب ثلجًا بالفعل أو لكي تراني؟ واستيقنت من أن ما يُشاع عن سوء أخلاقها افتراء.
تألّمت يوم رجوعنا إلى كركوك لأنني لم أتمكّن من توديعها. تطلّعت مرات عديدة من عتبة البيت، أملًا في أن تلوح لي عبر الشباك أو الباب، لكنها لم تظهر. كنت أود أن أعيد لها منديلها، وأعرف إن كان أبوها ميتًا أو مهاجرًا، فقد أثار شجوني كلام هنادي عنه.
بعد خروج القطار الصاعد من محطة “المعقل” إلى بغداد لم تغب البنت عن بالي، أسندت رأسي إلى الكرسي، واستدعيت مشهد انفرادي بها، وتموضعت فيه عبر حلم يقظة، ناسجًا خيوطه على نحو يختلف عمّا كان عليه المشهد حقيقةً، وحين أفقت وجدت جدّي ينظر إليّ، فاعتدلت في جلستي ورحت أحادثه.
لم أستطع إبعاد تفكيري عن لوزة خلال السنتين اللتين سبقتا الحرب، صرت أتسقّط أخبارها من جدّي كلما عاد من البصرة، فيقول لي إنها تسأل عنّي باستمرار، وتلحّ عليه بأن يصحبني معه ثانيةً، ولمّا نقل لي عن هنادي، في آخر زيارة له، أنها تزوجت حزنت، لكني تمنيت لها حياةً سعيدةً، ثم خفّت سطوتها على مشاعري شيئًا فشيئًا، مع أني بقيت محتفظًا بمنديلها، وظلت صورتها عالقةً في ذاكرتي.
*******
(1) الشرجي: كلمة عامية تُطلق على الرياح الجنوبية الشرقية ذات الرطوبة العالية.
(2) الهور: جمعها أهوار، وهي مسطحات مائية شاسعة تغطي الأراضي المنخفضة الواقعة في جنوب السهل الرسوبي العراقي، يعيش سكّانها في قرى مؤلفة من مجموعة بيوت (صرائف) مبنية من حصران القصب، ويربّون الجاموس، ويتنقلون بواسطة قوارب يصنعونها بأنفسهم يطلقون عليها اسم “المشاحيف”، ويعتمدون في معيشتهم على صيد السمك والطيور ومشتقات الحليب وصناعة البواري (الحصران).
(3) جمع “أبوذيّة”، وهي نوع من الشعر الشعبي في الريف العراقي يتألف من أربعة أشطر، ثلاثٌة منها تتحد قوافيها باللفظ وتختلف بالمعنى، والرابع مخالف ينتهي بـ”يّة” دلالة على الأبوذية، ويُؤدى بأطوار عديدة لكل طور نغم خاص به، مثل “الحياوي” و”الشطراوي” و”المجرّاوي”… إلخ.