أبناء المآسي

الخميس 2021/04/01
لوحة: جواد

1

لا أعرف لماذا أكتب الشعر إلا حين أخلو منه. حين لا يعود من شعر في داخلي، أتنبّه إلى ذلك النقص الفادح، ويغدو عيشي برمّته فاقداً الهدف والبوصلة. أكتب الشعر لأني من خلاله فقط، أرى العالم بقدر ما من الوضوح، وأجد له شيئاً من المعنى، وأجد لنفسي شيئاً من المعنى فيه.

مسألة “المشروع الشعري” لأيّ شاعر، ينبغي أن تكون من خلاصات القراءة والنقد، لا الشعر نفسه. أعرف يقيناً أن لديّ مشاغل وهواجس شعرية. أعرف أن لديّ تفضيلات، لاسيما في ما يتعلق بالأسلوب الشعري، وأعرف أن هناك أموراً ألحّ في طلبها من الشعر. فالشعر وسيلتي الوحيدة تقريباً لترميم ذاكرة شخصية تبدو لي مبددة باستمرار، ولا أعني بالذاكرة الماضي البعيد فحسب، بل حتى الأيام والساعات التي أحياها، والمستقبل الذي لم أعشه بعد، فهذا كله غارق سلفاً في رمال الزمن المتحركة، وكتابة الشعر بالنسبة إليّ هي بمثابة الغصن الذي قد يتعلق به المرء لمحاولة الخروج من مستنقع تلك الرمال أو بالأحرى من دوامتها التي لا تني تعصف. ولذلك كله، فإنني أنزع في شعري إلى سمات تسجيلية يصفها بعضهم بالسينمائية أو البصرية لكنني أحسب مصادرها مختلفة عن ذلك.

ما لم ينتبه إليه النقد، هو ببساطة كل ما سبق، وهذا يمكن توثيقه إحصائياً لا كانطباع عام فحسب، وليس في تجربتي فقط، فما منسوب النقد ومستواه ومثابرته وفطنته ومعرفته، قياساً بالنتاج الشعري الحداثي خلال الأربعين عاماً الماضية على الأقل؟

2

منذ البداية، كانت قراءتي للشعر مفتوحة على الاتجاهات والتيارات والتجارب الفردية على السواء. ولطالما شعرت أنني ممن لا يستطيعون الكتابة ولا يقبلون عليها إلا بإلهام شعري خارجي. وأزعم أنني قرأت عن كثب معظم التجارب الحداثية خلال القرن العشرين، وخصوصاً العربية منها، وتأثرت بمعظمها، إلا أنني أجد نفسي أقرب وجدانياً ومنظورياً إلى التجربة السورية، وأقصد بها شعراء بلاد الشام، سوريا وفلسطين ولبنان، قبل أن أنتقل إلى تجارب الشعر الأميركي، وخصوصاً في ما يتعلق بقصيدة النثر الصرفة، وأجد نفسي عربياً قريباً من عشرات التجارب التي عملت وتعمل في هذا الاتجاه.

3

أعتقد أن هناك عشرات الشعراء العرب المهمين اليوم. نحن نعيش في منطقة أدمنت الانتقال من خراب إلى آخر، منطقة فاسدة الروح معطوبة التفكير، ونحن أبناء هذا الخراب والعطب والفساد، وربما نكون شهوداً عليه. الواقع العربي هو واقع قاتل للمخيلة، معاد للتجديد، كاره للتجريب، مناهض للاختلاف، وبالتالي فإن التجارب الشعرية العربية، منذ نزار قباني إلى يومنا هذا، هي تجارب جادة وعميقة ومؤثرة، بصرف النظر عن ارتفاع منسوب قراءتها أو انخفاض ذلك المنسوب، لأنها تحاول أن تنمو في تربة غير حاضنة، حتى يكاد فعل الإبداع في منطقتنا يكون انتحارياً، لأنه يزيدك عزلة وهامشية، ولا تكسب منه سوى الجحود والنكران، فكيف إذن لا تكون هذه التجارب مهمة، بل جوهرية، في خضم كل التفاهة التي تحتشد بها الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في منطقتنا هذه.

4

شخصياً أتجه بخطى ثابتة خلال السنوات الأخيرة نحو الصمت، أو نحو غواية الصمت. لم أعد أجد جدوى، ليس من الكتابة (والترجمة) التي ستظل أساسية بالنسبة إليّ، بل من أن أكون جزءاً من هذه المنظومة الثقافية البائسة. هي رغبة في الانكفاء لا الصمت، في الابتعاد عمّا يحفّ بعالم الكتابة من تفاصيل وإشكالات أشعر أنني أزداد غربة عنها. لكنني مقتنع تماماً أن الكتابة في أيّ زمن لا يمكنها إلا أن تكون جزءاً منه، بما في ذلك الكتابة التي تعجز عن التعامل مع الواقع، أو ترتبك أمام تدفق الأحداث وحجمها الجلل، فحتى الكتابة المجروحة أو الناقصة أو المشلولة هي جزء أصيل من زمنها، وهي شهادة عليه وسبيل لفهمه واستقرائه.

ولا بدّ من القول في هذا السياق إننا، شئنا أم أبينا، كتاباً ومبدعين بصورة عامة لا شعراء فحسب، أبناء المأساة السورية الكبرى، تلك التي أصابت منطقتنا برمتها، وأصابت معها وعينا بالحاضر والماضي والمستقبل، بخلل لا شفاء منه، فهذه المأساة لم تربك المخيلة الشعرية فحسب، بل أربكت علة وجودنا نفسها، وجعلتنا في حيرة مستدامة حول معنى أن يكون البشري بشرياً بعد الآن، وشخصياً لا أعتقد أن الأسى الذي لا تخلو منه قصيدتي خلال العقد الأخير، إلا نتاجاً لهذه الحيرة وذلك الشعور العميق بالفجيعة، بل والهزيمة. ولا أبالغ إن قلت إن عشرات التجارب الشعرية الغربية الأخرى، تنحو المنحى نفسه، لكنّ هذا الملمح سيظل غائباً غير مطروق في ظل النكد والتصحر النقديين اللذين نعيش فيهما منذ عدد غير قليل من السنوات.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.