أثر الاختلاف الثقافي في نماء الإرث الإنساني
عُرف الاختلاف مفهوماً من مفاهيم السياسة الثقافية في أواخر ستينات القرن الماضي ثم تنوعت حقوله متوزعة بين السياسة ورأس المال والهوية والنقد الاجتماعي كما تباينت أغراضه بين ما هو إيجابي وما هو سلبي. وعلى الرغم من الاهتمام الذي حظي به هذا المفهوم من لدن المفكرين والمهتمين بالدراسات الثقافية ونقاد مرحلة ما بعد الحداثية؛ فإن لا أرضية واضحة يمكن الاستناد عليها في دراسته، ما يعني أنه لم يصل إلى درجة الاصطلاح بعد، وإن كان بعض النقاد الغربيين قد عدّوه كذلك.
ولا يعني عدم الاتفاق حول مفهوم الاختلاف، أنّ هناك إشكالاً معرفياً في فهمه؛ وإنما هو الاعتراف الذي يقتضيه تعدده وتنوعه تجانساً وتماسكاً وتخلصاً أو هو “الاحتكار والتشاكل باسم التنوع والتغاير في إضفاء الطابع التاريخي والسياقي والتعددي على هذا المفهوم”. (مفاتيح اصطلاحية، تحرير طوني بيتيت وآخرين، ترجمة سعيد الغانمي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2010، ص56).
ويعد الاختلاف واحداً من المفاهيم المهمة التي برزت إلى السطح مع الألفية الثالثة، ومعه أثيرت مسائل التعدد الهوياتي للشتات والمهاجرين وما يتّصل بها من قيم المواطنة والمساواة والتسامح ومآزق الاندماج والتنوع والاحتواء والاستهلاك والانتماء القومي والعرقي والانفتاح الكوني وغيرها كثير.
ولأن للاختلاف الثقافي أبعاداً بعضها إنساني ومادي، وبعضها الآخر تاريخي، يصبح الأساس المفهوماتي له دائراً في واحد من التموقعات (بين/حول/عبر/ما بعد) تمرحلاً وعبوراً وتموقعاً وانتقالاً وتعاقباً واستقطاباً واستعادةً وانفتاحاً. والسبيل للتبصر في واحد من هذه التموقعات أو كلها إنما يكون بالاستيعاب الكامل للبنى المبدئية التي تقوم عليها أسسه، ومنها التفاهم والتحاور والتفاوض بعيداً عن التخاصم والتنافر والاحتراب.
ولنبدأ بالتموقع البيني الذي فيه يرتكز الاختلاف الثقافي بين وسيطين متجاورين، أحدهما يضاد الآخر كاتجاه فكري وكحدود استراتيجية وصيرورة تمثيلية. فيكون التعدد البيني فرضية فيها يندمج المختلفون محافظين على خصوصياتهم، فلا يخسر أحدهم سماته بل يفيد مما لدى المختلف عنه من تغاير يساعده في تدعيم خصوصيات اختلافه الثقافي. وبذلك تبطل دعاوى أن الاختلاف يلغي السمات الذاتية أو أنه يعمق أفكار الهيمنة والتفريق والتنافر والازدراء والتشابك الثقافية.
وإذا انتقلنا إلى التموقع بالماحَوْل؛ فإن المتحقق هو ارتكاز وتيرة تمثيل الاختلاف الثقافي على التمحور والدوران والتوالي والاسترداد والتعاقب والتلاقي والتواتر وبحسب القدرة على التموضع المتسارع الذي به يحقق الاختلاف تحولات تاريخية اندماجاً وتهجيناً.
أما إذا افترضنا أنّ التموقع الثقافي للاختلاف يكمن في الـ”عبر” فإن من نتائجه تجسير المسافات وتوصيل الماضي بالحاضر وتحويل الفوارق في الهويات والتواريخ والأعراق واللغات المختلفة إلى كتلة متجانسة لا تفقد خصوصياتها، بل تحتفظ بها، وبالشكل الذي يقوّي الاختلافات الثقافية العابرة فلا تضيع أصولها وفي الآن نفسه لا تنغلق عليها فتتحجر وتذوي.
إن هذا التباين في تموقعات الاختلاف الثقافي يؤشر حقيقة واحدة هي أنه مفهوم إنتاجي، سماته التغاير والتفاعل بأشكال متعددة، منها الانفتاح الحضاري والتضامن الإنساني والاندماج الكوني الذي فيه تتمفصل وتيرة الذات والآخر ويتقوى الجزء بالكل.
ولا مناص بعد ذلك من أن يكون الاختلاف الثقافي غير متصادم مع مفهوم التعددية الثقافية؛ بل هما سيّان في المنظور البيني والحولي والخلالي العابر والمابعدي. والاعتراف بهما يعني الإقرار بحقيقة اجتماع المعنى ونقيضه معا. وبالشكل الذي يحقق للحياة التوازن فلا يعود هناك غالب ومغلوب وفوقي وتحتي وأصل وفرع. فالاختلاف هو التعدد كصيرورة مونادية بمفهوم ليبنتيز، والوحدة الأساسية في هذا التعدد عبارة عن جوهر يحافظ على أصالته لكنه مع ذلك قابل للتغيير غير منغلق ولا متجذر.
وليس من مرحلة تحتاج منا إلى الاعتراف بالاختلاف الثقافي والإفادة منه مثل مرحلتنا الراهنة التي هي نتاج حتمي لما رافق الألفية الثالثة من تسارع فائق في القوة السبرانية الناعمة والتغييرات الديموغرافية الهائلة التي سببتها الحروب والنزاعات والهجرات الجماعية وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والتقلبات البيئية واضطراب الأنظمة الصحية.
وبهذا الاحتدام الكوكبي الجديد الذي نعيشه اليوم يغدو محتماً تطوير منظوراتنا للاختلاف الثقافي، بعد أن صار الفرد واحداً ومتعدداً في الآن نفسه كما يقول إدغار موران.( تربية المستقبل، إدغار موران، ترجمة لزرق الحجوجي، دار توبقال للنشر والتوزيع، المغرب، ط1، 2002، ص53). ومن ثم لا خصوص إلا مع العموم ولا نقاء إلا مع الهجنة ولا انتماء إلا مع التحرر ولا استقلال إلا مع التكامل.
وبالتوفيق والتوافق والتقريب والتقارب والتكميل والتكامل يكون عالمنا عالما متسعاً للجميع ليس فيه من هو متقدم ولا من هو متأخر ضمن مجتمع تعددي جديد هو ترجمة ثقافية لكل مظاهر الاختلاف التي بإقرارنا بها نكون قد عرفنا كيف نحوّل النقص إلى اكتفاء، والازدراء إلى تحابب، والتعالي إلى تواضع، والافتقار إلى غنى، والرسملة إلى تشارك، والترحيل إلى استقرار، واللاتقدير إلى احترام.
وقد تثير هذه الرؤية تساؤلات باستفهامات مختلفة من قبيل: ما الذي يجعل الاختلاف في الهويات والجماعات عاملاً مهماً في الاندماج؟ وكيف يتلاقى الاختلاف الثقافي مع التعددية الثقافية داخل مجتمع واحد؟ ألا يعني إقرارنا باختلاف الآخر أننا نعلن انهزامنا وخسارتنا لذواتنا؟ وكيف نتمكن من أن نحوّل اختلافنا عن غيرنا واختلاف غيرنا عنا إلى يوتوبيا حياتية وهناك تابوهات لا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها؟
لا عجب أنّ الاختلاف الثقافي هو المفارقة الحياتية التي فيها يتكاتف المنطقي بالتاريخي، والعام بالخاص ضمن دوامة ذات مساقات عمومية، فيها ترمّم الذوات المتفاعلة نواقصها محافظة على خصوصياتها. وهو ما عرفته أقدم الحضارات التي ما أن تناست هذه المفارقة التاريخية التي ينطوي عليها الاختلاف الثقافي حتى أفل نجمها وقد ضيعت اختلافها بالتعالي وأزاحت تفوقها بالانغلاق على نقائها وأضعفت قوتها بالتصارع من أجل مركزيتها.
ولقد تداركت الأمم المتشكلة حديثا ومنها الأمة الأميركية ما تقدم من خلال اتخاذها الاختلاف والتعدد طريقاً إلى إثبات وجودها فسبقت غيرها حضارياً معتمدة النظام الفيدرالي الذي يفترض فيه أن يكون المركز غير متضاد مع الهامش والنقاء لا يلغيه التنوع والنخبوية لا تهددها الشعوبية وبلا تمييز ولا تناحر ولا تواطؤ ولا تورط في الاتحاد والتشارك.
ولا خفاء في أنّ الفهم الكولونيالي للاختلاف الثقافي هو غيره الفهم ما بعد الكولونيالي كون الأول ينظر للاختلاف كمشكلة بلا حل وعائق لا خلاص منه بينما ينظر الثاني له كمفتاح سيرورة وتقارب وأتمتة وتجاذب. فجاك دريدا يجد في الاختلاف مغايرة تقتضي الإرجاء الذي فيه تظل سيرورة الاختلاف لا نهائية بالتنوع والتفاعل والإحالة المكررة بالسيرورة الكتلوية الجماعية وباستراتيجية الاحتواء والاستعادة بعيدا عن الركود.
وهومي بابا يرفض الاعتراف بالاختلاف الثقافي على أساس أن التنوع الثقافي هو الذي يحتوي الاختلاف ويذيبه، بوصف التنوع الموضوع الإبستمولوجي الذي فيه الثقافة موثوقة ومؤهلة لبناء أنظمة التعيين الثقافي للهوية. أما الاختلاف الثقافي فأساس مشترك ومنطقة ضائعة في الجدالات الثقافية المعاصرة، وسيرورة تتباين عبرها أقوال الثقافة وتتمايز.( موقع الثقافة، هومي. ل. بابا، ترجمة ثائر ديب، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2014، ص93 ـ 94 ).
وحصر أندريه مالرو الفهم ما بعد الكولونيالي للاختلاف الثقافي في مسألتين هما: التحويل والصدفوية. فأما التحويل فيتمثل في الإبداع الإنساني الذي هو عابر للأزمان فنيا وحياتيا.. وضرب المثل بعبقرية سوفوكليس وفيدياس وراسين، مبينا أن هذه التحويلية جعلت فرجيل غير ملعون بالنسبة إلى دانتي وأن بمقدور المسيحي أن يقرأ أفلاطون ويظل مسيحيا. وأما الصدفوية فهي التي فيها يتجاوز الإنسان العابر المعطى المادي إلى الروحي، والواقعي إلى الخيالي، والفيزيقي إلى الميتافيزيقي وبالعكس. ومثاله العشق القادر على تقريب البشر مما هو غير مدرَك متحولا بهم من تخيل الخيال إلى متخيل الواقع.( الإنسان العابر والأدب، أندريه مالرو، ترجمة محمد سيف، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1998، ص28 و237).
وبهذه التصورات النظرية لا يغدو مفهوم الاختلاف الثقافي متنافيا مع التوافق ولا متضادا معه، كصورة من صور الديالكتيك الحياتي الذي تقوم عليه حياتنا منذ تكونها على هذه الأرض إلى اليوم، وكسمة ثقافية أيضا من سمات وجودنا الكوني الذي فيه يتعالق التنوع بالتعدد والتعايش بالاندماج والانفتاح بالتخصص.
وعلى الرغم من كل هذه التصورات النظرية للاختلاف الثقافي؛ فإنه عملياً يظل مفهوماً إشكالياً من ناحية التشارك الذي هو شرط أساس للحياة الاجتماعية ومن ناحية التوافق الذي به نضمن لحياتنا توازناً وتحضراً وسلاماً.
ولأجل أن يكون التصور النظري حول تموقعات الاختلاف الثقافي متحققاً على الصعيد الواقعي الذي فيه تتحقق الغايات المرجوة، لا بد من إعطاء الاختلاف توصيفاً يدعم أرضيته النظرية، مدللاً على نفسه ومقويا أساساته التمثيلية. والتوصيف الذي نقترحه للاختلاف الثقافي هو “العمومية” التي هي رؤية فكرية ليست شمولية ولا فوضوية ومنظور كوني فيه التعدد والتنوع والغيرية لا تمنع من الإقرار بالخصوصية وأهمية التقييد والتحييد والذاتية، من منطلق أن “العلاقة بين المفرد والمجتمع مزدوجة ذات حدين بمعنى أنها تحافظ على التضاد في التكاملية وعلى التكاملية في التضاد” (النهج إنسانية البشرية الهوية البشرية، إدغار موران، ترجمة هناء صبحي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث كلمة، ط1، 2009، ص197)، ومن أهم الدلائل التي بها تعضد العمومية مفهوم الاختلاف الثقافي ما يأتي:
1) أنها تجسد سعة العلاقات الاختلافية بين الكل والأجزاء ضمن أكثر من سياق.
2) أنها تدلل على الاختلاف كمجموع فيه أجزاء، وكل جزء يرتبط بما هو مختلف عنه أما بعلاقة ارتدادية أو تنظيمية.
3) أنها تدعم الاختلاف الثقافي كرأسمال رمزي، فيه نحافظ على معتقداتنا وأفكارنا.
وأغلب المسائل التي يحتاج النظر فيها إلى العمومية هي المسائل الجدلية المتشابكة والمتداخلة التي لا مجال واضحاً لحسم الاختلاف فيها أو الخروج من شائكية التعاطي المتضاد مع مفاهيمها. ومن ثم تبقى هناك أمور تضيق أو تعيق، وبهيئات وصور غير محسومة ولا نهائية كما هو الحال في مسائل النسوية والهوية والآخر والنزعة الإنسانوية والحداثوية وغيرها.
وما تعمله العمومية هو أنها تضفي علينا كمختلفين ثقافيين تحرزاً به نتجنب الوقوع في شرك الفهم الواحدي للجدليات، فننجو من عسف النظر الأحادي للتنوع والتعدد، ونتمكن من إقامة شراكة مجتمعية فيها يندمج الانغلاق بالانفتاح والخاص بالكل العام، فيتحول الاختلاف إلى توافق، ويغدو المجتمع منظم الأجزاء ومن دون أن نفقد ذواتنا ولا نخسر خصوصياتنا.
ويعضد هذا الفهم العمومي للاختلاف ما رآه تيري ايغلتن من أن لا تضاد بين الاختلاف والخصوصية، بل هي شمولية أن توجد من أجل شخص ما ولا وجود لأيّ شخص تعمل الشمولية من أجله (أوهام ما بعد الحداثة، تيري ايجلتون، ترجمة منى سلام المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2005، ص24ـ25 )، ناظرا إلى الثقافة بوصفها سياقات شديدة الاختلاف، هي نوع من التربية الأخلاقية التي تصوغنا لكي نتلاءم مع المواطنة السياسة. أما الفهم الجزئي للثقافة فيجعلها تنتقل من كونها جزءا من كل إلى أن تكون جزءا من المشكلة في قاموس الصراع السياسي (فكرة الثقافة، تيري إيجلتون، ترجمة شوقي جلال، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2005، ص57ـ58).
وهذه الشراكة التي تعكسها مفردة العمومية تعطي للاختلاف الثقافي اتساعاً معرفياً فيه يتلاقى الشمول بالتخصيص. وبعبارة أدق نقول إن عمومية الاختلاف التي تجعله توافقياً هي نفسها اختلافية العموم التي تجعله تخصيصاً. وبهذا يتناسب الاختلاف تناسبا طرديا مع العموم، فكلما ازداد الاختلاف ازدادت عمومية توافقه واتفاقه تغايرا وتنوعا. وليس في هذا التوافق والتخصيص تقاطعا مع الاختلاف والتعميم؛ بل هي مفارقة أن لا يكون الواحد متضادا في اختلافه مع الآخر.
وأبسط مراجعة تاريخية للسلالات والكيانات الحضارية تؤكد لنا أنها ما استطاعت أن تمد حدودها وتوسع تأثيراتها إلا بإفادتها من اختلافها الثقافي معززة به تجذرها ونموها.
ولعل سائلا يسأل إذا كانت عمومية الاختلاف تجعل الذات تضم في داخلها ما يتعارض مع خصوصيتها، فما الفارق إذن بين العمومية والشمولية والكونية؟ وهل يمكن اختيار الكونية بدلا عن العمومية؟
إن أهم سمة في أيّ مفهوم يراد له الثبات هو أن يكون ذا حدود تختلف عن حدود أيّ مفهوم قد يرادفه أو يتشاكل معه. والعمومية في حدودها المفهوماتية لا يترادف معها لفظ يدل على بعضٍ منها لا كلها. فالشمولية تدل على اللاتناهي بالمفهوم الباشلاري بينما لا تتضمن الكونية معنى الحدية التي تنطوي عليها العمومية.. وبهذا تضيق حدود الاتساعية المادية والنظرية التي تعكسها لفظتا الكونية والشمولية. وكان تودوروف قد حذّر من الخطابات ذات السمة الكونية لأنها زائفة في حقيقة ما توصف به من اللانهائية التي تجعلها تمتلك الجرأة على مستوى التفكير في المحال فقط، بينما تفقد ذلك على مستوى العمل والتفاعل مع الآخر واحترام قدراته، فنبدو مثلا متمسكين بالإقرار بالخصوصية الفردية والمناداة بالتنوع الإنساني وفي الوقت نفسه نجد أنفسنا نتسلح بالقوة الناعمة التي بها نتعدى على تلك الخصوصية دافعين بمجتمعاتنا نحو التصادم.
ولا سبيل لأيّ فكرة تريد أن تكون حضارية إلا بقدرتها العمومية على الاعتراف بإنسانية الآخر المختلف أيا كانت أشكال تموقعه الثقافي. وعمومية الاختلاف الثقافي موجودة مع الفرد منذ ولادته وهي مستمرة معه داخل العائلة والمدرسة وعادة ما يكون ابتداؤها في الواحد ومنتهاها في المجموع.
وما تضيفه العمومية على الاختلاف الثقافي هو تقليل الفارق بينه وبين التخصص. وإذا كان القرن العشرون قرن التخصص في المعرفة العلمية والتقنية؛ فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن الاختلاف ضمن فضاء كوني عام وكلي، فيه العالم متعايش ومتواصل ومتوحد إلى درجة أن على الفرد الواحد أن يحسب حسابا لمسافة تواجده مع المجموع قربا وبعدا، محافظا من جهة على خصوصية تواجده ماضيا وحاضرا وغير متعارض من جهة أخرى مع عمومية تفاعله مع الآخرين.
وعلى وفق الدراسات المستقبلية فإن اتجاهات الاختلاف الثقافي وأنماط تمثيلاته ستتميز بالتسارع والتنوع والنعومة والتأنيث وسيعززها التعولم والسبرانية بعيدا عن العداء الإثني والفكر الأحادي والهيمنة الذكورية.
ولا نعدم أن نجد في التاريخ العام شواهد حية على دور الاختلاف الثقافي في نشوء الأمم وقيام الحضارات الكبرى. ومن ثم لا فارق في فاعلية عموميته بين الأمس واليوم مع تفاوت نسب هذه الفاعلية من حقبة إلى أخرى. وإذا بحثنا عن مجتمعات بشرية امتلكت تاريخا فيه أمثلة واضحة على عمومية الاختلاف الثقافي، فإننا سنجدها في حضارات شكلت العصب الكوني للحياة الإنسانية في تاريخها القديم كما هو الحال في حضارات البحر المتوسط قبل أن يتحول هذا العصب إلى المحيط الأطلسي مع اكتشاف الأميركيتين.
عمومية الاختلاف الثقافي والإرث الحضاري
إن الحديث عن الاختلاف الثقافي هو حديث عن الفكر في عمومية رؤيته الموضوعية والواعية للعالم. وكلما كان الفكر الإنساني منفتحا ومتصالحا كان الاختلاف مع الآخر عاملاً مهماً في التقارب الحضاري. والاختلاف رأسمال رمزي ذو طاقات وقدرات لها أهميتها إذا ما تم استثماره استثماراً ثقافياً، لذا تغدو مظاهره كثيرة يدلل عليها الارتقاء والوحدة والتنوع والتجدد والتجانس والتحضر والمدنية.
ولقد عرفت أكثر حضارات العالم على طول تاريخها كيف تستثمر ما لديها من اختلاف ثقافي في اللغات والهويات والأعراق والتقاليد والعادات والبيئات استثمارا حافظت فيه على خصوصياتها وفي الآن نفسه فتحت مجالات التداخل والتنافذ على مختلف صعد الحياة حتى تحولت ثقافاتها إلى العالمية أخذا وعطاء كما هو الحال في الحضارة الاغريقية.
والسر في عالمية هذا الاختلاف الثقافي هو في العمومية التي ضمنت له سياقاً كونياً مستقراً ومتجانساً فاختلاف شعوب البحر المتوسط مثلا كان عاملاً مهماً في التفاعل الحضاري الذي شكلت فيه قبرص حلقة الوصل بين الشرق والغرب وعلى مر العصور سواء بالتجارة او الثقافة وتبادل المصالح والمنافع والغايات. ولقد أنتج هذا التنوع الحضاري مفكرين وأدباء وكتّابا عظاما، فيهم يختصر تاريخ البحر المتوسط مثل ابن خلدون وابن عربي ودانتي وبترارك وماركو بولو وابن بطوطة وغيرهم. أما في زمننا المعاصر؛ فإن الشاعر المصري اليوناني قسطنطين كفافيس (1863 ـ 1933) مثال على الاختلاف المتوسطي كشاعر عالمي تلاقت في شعره حضارة الشرق الأوسط باليونان والعصر الإسكندري بالعصر الهلنستي وتشارك فيه أيضا الإسلام والأرثوذكسية.
ومن الحضارات المتفاعلة والمؤثرة أيضا الحضارة العربية الاسلامية التي كان لها أثرها في الأمم المجاورة القريبة والبعيدة التي امتدت من الصين شرقا حتى الأندلس غربا متفاعلة غير متعالية ومفيدة في عمقها وغناها مما لدى تلك الأمم من أدب وعلوم ومعارف وفلسفات، مجسدة بذلك الروح العمومية للاختلاف الثقافي في العصور الوسطى. وكان من نتائج استثمار هذه الحضارة للاختلاف أن ازدادت صلاتها التجارية والثقافية والعلمية بأمم العالم الأخرى.
وليس غريبا بعد ذلك أن عرفت العرب فلسفة الإغريق في المنطق والسياسة والطبيعة والخطابة والشعر ومنهم أرسطو وتحديدا في كتابيه (فن الشعر والخطابة) فضلا عن ترجمة كتب قاطيفورياس وبارميناس وغيرهما ثم التفاعل معها والإفادة من معطياتها في تضاعيف الحياة العربية.
ولا نكاد أن نقف عند أيّ علم من أعلام هذه الحضارة إلا نجده حاملا السمة العمومية نفسها، خذ مثلا الجاحظ الذي امتلك فكراً عولمياً انفتح فيه على ما عند الشعوب الأخرى من آداب وعلوم وثقافات فأفاد منها، مضيفاً إليها خصوصيات ما لدى العرب من أدب وعلم وثقافة. وكان يسمي أرسطو الحكيم آخذاً على المترجمين عدم استطاعتهم أن ينقلوا ما ترجموه عن أرسطو إلى العربية في دقائقه، قائلاً “إن الترجمان لا يؤدي أبداً ما قال الحكيم على خصائص معانيه وحقائق مذاهبه ودقائق اختصاراته وخفيات حدوده ولا يقدر أن يوفيها حقوقها ويؤدي الأمانة فيها. فهل كان رحمه الله تعالى ابن البطريق وابن ناعمة وأبوقرة وابن فهر وابن المقفع مثل أرسطوطاليس”( كتاب الحيوان، الجاحظ، تحقيق وشرح عبدالسلام هارون، ج1، ص75 ـ 76 ). وفي هذا القول تدليل لا على الروح العمومية للتنوع ولا توكيد أن ترجمة الفلسفة الإغريقية إلى العربية كانت قد تمت قبيل عصر الجاحظ حسب؛ بل أيضا أن الترجمة سبيل مهم في الاغتراف من الاختلاف الثقافي وكذلك الاعتراف به.
والمؤسف أنه بعد سقوط الدولة العربية الإسلامية وأفول حضارتها على أيدي الغزاة الأجانب تركت العرب الروح العمومية للاختلاف وتوانت عن استثماره ثقافياً واصبحت محتلة ومحكومة بالتخلف. وقد بدأت بوادر الافتقار الثقافي تظهر في أواخر العصر العباسي ومن بعده، فما عادت العرب تشعر بالحاجة إلى الاختلاف لذا انغلقت على معارفها وعلومها التي صارت تعيد نفسها. وهو ما نجده في شروح بعض البلاغيين وأقيسة النحويين وأشعار الناظمين وكتابات الناثرين التي تفتقر إلى روح التجديد والاندماج التي تحلى بها الجاحظ ومجايلوه ومن جاء بعدهم من الكتّاب والعلماء والأدباء. وتدريجيا فقدت الحضارة العربية اتصالها بالحضارات الأخرى شرقا وغربا لاسيما الحضارة الرومانية ولم يعد التجديد مظهرا من مظاهرها، فتراجع العمران والآداب والعلوم والترجمة والصناعات وطغى الجفاء على الاذواق وحوربت الفلسفة والفلاسفة وخربت الامصار والصنائع وتبدلت الأحوال.
وما جرى على الحضارة العربية الإسلامية جرى أيضا على حضارات العالم الأخرى التي ما أن استثمرت اختلافها حتى نمت وما أن تركت ذلك الاختلاف حتى انهارت؛ بيد أن من حسن الصدف أو بالأحرى من المفارقات التاريخية أن ينبغ في أكثر مراحل الانحطاط في الحضارة العربية الإسلامية عالم هو من أهم علماء العصور الوسطى فكان أمة في فرد وأعني به ابن خلدون. والسبب أنه استثمر الاختلاف الثقافي استثمارا عموميا فيه صالح الإنسانية، معوضا بانفتاحه الثقافي عن الانغلاق الحضاري ومضيفا إلى منجزات الدولة العربية الإسلامية ما كانت قد افتقرت إليه بعد أن تلاقت في فكره علوم حوض البحر المتوسط وفلسفاته ولغاته وهوياته وأعراقه، ليكون مثالا على عمومية الاختلاف الثقافي كتيارات ونظريات ومنازع.
ولقد كان عصر ابن خلدون عصراً مفككاً شاعت فيه مظاهر التفرق والتناحر وخفتت فيه مشاعل الحضارة الإسلامية أمام هجمات التتر شرقا وتقلص حكم المسلمين غربا وضعفت الأسر الحاكمة بالمؤامرات والثورات والحروب الدينية والطاعون والخرافات والأوبئة وقطاع الطرق، فسادت الفوضى واللاعقلانية والضراوة البشرية، وعم الجمود الفكري وعدم الاستقرار الاجتماعي وتدهورت الأوضاع الاقتصادية والثقافية وتلاشت هيبة الدولة وحلت محلها سلطة القبيلة وتراجعت الفلسفة وقويت شوكة الصوفية، حتى وصف جاك بيرك هذا العصر بأنه من أسوأ العصور التي عرفتها حضارات البحر الابيض المتوسط (فكر ابن خلدون العصبية والدولة، محمد عابد الجابري، دار الشؤون الثقافية العامة، طبعة خاصة ليست للتصدير، بغداد، د. ت، ص 10). وإذا كان الحال متردياً في هذا العصر، فما الذي جعل ابن خلدون ينبغ فيه ويصير عالماً وفيلسوفاً مميزاً؟
لا بد من القول إنّ الإيمان بالاختلاف الثقافي سبب رئيس في (تهذيب الطبيعة الإنسانية) كما يرى هابرماس الذي أكد أن فهم الذات لأخلاقيات التنوع الإنساني هو في الحقيقة فهم للنفس بطريقة مستقلة معتبرا التخلص من الإرث الفلسفي لعوالم معيشة تأقلما معرفيا مع الشروط الموضوعية للحياة ومظهرا مهما من مظاهر التحديث الاجتماعي (مستقبل الطبيعة الإنسانية، يورغن هابرماس، جورج كتورة، المكتبة الشرقية، بيروت، ط1، 2006، ص35ـ 36.) وبالاستناد إلى هذه الرؤية الهابرماسية لا يكون عجبا أن يمتلك ابن خلدون روحا معرفية انفتاحية ذات أسس ناقدة، بعيدة عن الانتقاء والتلفيق واللاعقلانية، مكنته من الاستقراء السليم وزودته بقوة الاستدلال متأثرا بالفلسفة اليونانية ومفيدا من علوم الرومان والفرس.
فكان فكر ابن خلدون فكرا مختلفا ثقافيا عن مجايليه في القرن الرابع عشر الميلادي (ابن خلدون البحر المتوسط في القرن الرابع عشر قيام وسقوط الإمبراطوريات، تنسيق ماريا خيسوس فيجيرا مولينز، تقديم النسخة العربية إسماعيل سراج الدين وآخرين، القاهرة، 2006)، فجادل وتضاد ومزج وفرق ونقد، متمتعا برؤى ومناهج مستحدثة. وما ذلك إلا لأنه انقلب بدينامية تفاعلية خلاّقة على ثوابت عصره المنغلقة والتعسفية والتي كانت سببا في الوصول بالحضارة الإسلامية إلى التخلف والتمزق بالحوادث المريرة والانتكاسات المتلاحقة وما تبعها من انهيارات وتراجعات.
ولعل أهم المسائل التي دللت على تفرد عقلية ابن خلدون تفسيره علاقة الدين بالدولة والمعتقد بالعصبية والحضارة بالبداوة وقوة الجاه بالاستهلاك والاقتصاد بالإنتاج والتحرر بالبيئة والمعيش بالعمران والجغرافية بالتاريخ، منتقدا بناء الدولة بناء فوقيا لبناء تحتي متضعضع بالخرافات. ومَثَلَ هذا البناء التحتي المهمشون المستضعفون الذين وقف ابن خلدون إلى جانبهم كونهم يتعرضون لاستغلال الدولة.
وإذا كان الدكتور محمد عابد الجابري قد تساءل في خاتمة كتابه “فكر ابن خلدون العصبية والدولة”: هل هناك انقطاع بين تاريخ ابن خلدون وعهد ما بعد ابن خلدون؟ فإن مرحلتنا الحالية تجعلنا نتساءل: هل يكون في خضم نظامنا ما بعد العولمي المتسم بالفوضى والانهيار الأخلاقي والتراجع القيمي والتطرف الفكري أمل بظهور فكر كوني مختلف كفكر ابن خلدون أو على الأقل استعادة قيم حضارية تجتمع فيها انفتاحية الحضارة العربية الدولة الإسلامية وعولميتها؟
إنّ الاجابة على هذا السؤال تتوقف على مدى ما تحفل به مرحلتنا الحالية من تمظهرات الاختلاف الثقافي وتمثيلاته العمومية تداخلا وتشابكا وعبورا للحدود التي لا ينبغي النظر إليها على أنها ترسيم قطعي للفصل والعزل بين المناطق والدول والجماعات؛ بل هي مناطق حرة متداخلة ثقافيا وإنسانيا، تماما كالجذمور الذي يطور نفسه إلى ما لا نهاية في فروع متصلة ومتمازجة لكنه مع ذلك يبقى محافظا على تجذره الأصلي تاريخا وهوية ولغة. ولقد كان الفكر الخلدوني فكرا كونيا عابرا للحدود، وهو ما نستوحيه من مقدمته التي فيها من المقولات والنظريات ما يصلح لعدة بيئات وأزمنة ويلائم الواقع الإنساني في عمومه وتخصصه.
ولقد ظل العبور الفكري على طول الحقب والعصور متحققا بين الشعوب على وفق معايير سياسية وجغرافية ودينية وسياسية لا تتقاطع مع الاختلافات الثقافية في التاريخ والهوية واللغة والدين والعرق والمذهب. وبالشكل الذي فيه تتجانس الثقافة بقرائن متشابكة تدلل على العقل المنفتح والسليم الذي ينحو إلى النظر إلى العالم بوصفه وحدة دينامية غير خاملة لكنها زئبقية دائمة التغير.
والمجتمع العالمي هو المجتمع الذي تتفاعل فيه الثقافات والهويات واللغات كتأكيد حقيقي أصيل على عمومية الاختلاف الذي فيه تتباين الجزئيات لكنها تتفق في الكليات ضمن نزعة كوزموبوليتانية لا تتزاحم فيها المقولات والقيم والملكيات.
وما يؤكد حاجتنا إلى مجتمع عالمي انفتاحي هي إنسانية النواميس الاجتماعية التي فيها النوع البشري واحد لكنه ثنائي ذكوري وأنثوي وكل فرد واحد ومتفرد لا يمكن تجزئته. ومن دون هذه الرؤية العمومية لمستقبل الاختلاف الثقافي في الألفية الثالثة؛ فإن التناحر والتصارع يظل قائما ومعه ستزداد الحدود شراسة، وستنحشر البشرية في مزيد من التحييد والتحجر والتقييد، ويظل الإنسان حبيس تعاليه وعزلته.