أحبّكِ يا ميدوسا

مونودراما تؤديها ممثلة واحدة
الخميس 2021/07/01
لوحة: سارة شمه

نورا: في بداية الأربعين

المشهد الأول

(صالة ضيوف في بيت متواضع تحتوي على بضع أرائك ومكتبة وتلفزيون وحامل لوحات الرسم (ستاند)، وأشياء أخرى يُترك اختيارها للمخرج. لا أحد في الصالة. يرن جرس الباب، فيُسمع صوت السيدة نورا تنادي على ابنتها من المطبخ)

نورا: صوفيا؟ أين أنت يا صوفيا؟ اذهبي وافتحي الباب.

(لا تسمع رداً)

أين أنت يا صوفيا؟ أين ذهبت البنت؟

(صمت)

ياه. ظننت أن اليوم جمعة.

(تدخل وتنظر إلى ساعة الحائط)

لا تزال أمامها ثلاث ساعات حتى تعود من المدرسة.

(تتجه إلى الباب وتفتحه، تستلم من أحدهم مغلفاً صغيراً من تلك المغلفات التي توضع فيها بطاقات دعوة لحضور الحفلات، ثم تغلق الباب وتسند ظهرها إليه وتتفحص المغلف)

بطاقة دعوة من غير اسم. أخشى أن تكون وصلتني عن طريق الخطأ. ربما تكون مرسلة لجيراننا.

(تفتح الباب وتتطلع إلى الخارج)

غادر الصبي مسرعاً. لن أفتحها، ربما سيعود لأخذها. من يدعونا نحن المنسيين؟ منذ وفاة زوجي قبل ثلاث سنوات لم يدْعنا أحد لحضور حفلة زواج أو تخرج.

 (تتفحص المغلف مرة أخرى)

لأفتحه وليكن ما يكون.

(تفتح المغلف بقلق فتجد في داخله رسالة، وتقرأها بصوت مسموع مسجّل)

لو وهبني الله حياةً أطول لكان من المحتمل ألاّ أقول كل ما أفكر فيه، لكنني بالقطع كنت سأفكر في كل ما أقوله.

كنت سأنام أقلّ، وأحلم أكثر،

كنت سأسير بينما يتوقف الآخرون.

(تسير نورا باتجاه المرآة)

أظل يقظاً بينما يخلد آخرون للنوم،

لو أن الله أهداني بعض الوقت لأعيشه كنت سأرتدي البسيط من الثياب،

كنت سأتمدد في الشمس تاركاً جسدي مكشوفاً، بل وروحي أيضاً.

لو أن لي قليلاً من الوقت لكنت كتبت بعضاً منّي على الجليد وانتظرت شروق الشمس.

لو كان مقدّراً لي أن أعيش وقتاً أطول، لما تركت يوماً واحداً يمر دون أن أقول للناس إنني أحبهم، أحبهم جميعاً،

كنت سأجعل المسنين يدركون أن تقدم العمر ليس هو الذي يجعلنا نموت بل الموت الحقيقي هو النسيان.

لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر.

تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل غير مدركين أن سرّ السعادة يكمن في تسلقه.

لو كنت أعرف أن هذه هي آخر مرة أسمع فيها صوتك لكنت سجلت كل كلمة من كلماتك لكي أعيد سماعها إلى الأبد.

(تتوقف عن القراءة مشدوهةً وتحدث نفسها)

تُرى من كتب هذه الكلمات الرائعة؟ هل هو الشخص الذي أرسلها لي دون أن يضع اسمه عليها أم شخص آخر، شاعر أو كاتب؟ من الواضح أنها كلمات صادرة عن قلب كبير.

(صمت)

لكن هل يوجد اليوم من يحمل قلباً كبيراً؟ كل ما حولنا بغض وكراهية، قلوب زائفة مقفلة على أنانيتها وهوسها بالعنف والدمار.

(تسير محدقةً إلى الرسالة محاولةً الحصول على إجابة عن تساؤلاتها، وفجأةً يخطر في بالها أمر ما، فتتجه إلى منضدة الكومبيوتر وتفتحه. تُسمع موسيقى خلال الانتظار، ثم تكتب شيئاً ما وتبحث في الإنترنت، وحين تظهر النتيجة تتغير قسمات وجهها إلى الحبور)

لقد كان في داخلي هاجس يقول إنه هو، ومن غيره صاحب القلب الكبير يكتب مثل هذا الكلام؟ لا أصدّق أن كل هذا الفيض الوجداني يصدر عن إنسان مخرّف. كيف واتتك الجرأة يا خايمي* فأعلنت أنه مصاب بالخرف؟ سامحك الله لعلك تسرّعت. آه يا ماركيز ما أجملك، حتى وأنت على حافة الموت تكتب وداعيةً للناس تلخّص فيها حبك لهم وللحياة؟ لكن من أرسلها إليّ، لا بدّ أنه أحد أصدقاء سلمان، لا لا، مَن مِن أصدقائه يتذكرني بعد ربع قرن، وكيف يعرف عنوان البيت؟ أكيد أنه أحد أقربائنا. كثيرون منهم رأوا كتب ماركيز في المكتبة وعرفوا مدى تعلقي به.

(تذهب إلى المكتبة وتسحب منها إحدى روايات ماركيز)

كان هذا الكتاب آخر ما قرأنا له أنا وصوفيا، فيه بوح مذهل وجرأة على نبش المستور من أعمق طيات نفسه. سألتني صوفيا أول مرة عمّن أرشدني إلى ماركيز، فترددت برهةً وقلت: أحد معارفي. كان يحبه كثيراً، ويحلم بأن يكتب روايةً على غرار رواياته، فردّت قائلةً: كان هذا منذ زمن طويل، ولا بدّ أنه كتبها فيما بعد. أجبتها بنبرة تخفي حسرةً دفينةً: ليته يا صوفيا كتبها. لكنها تظاهرت بأنها تسمع به أول مرة وسألتني: هل أستطيع أن أعرف اسمه؟ تردّدتُ في بداية الأمر، إلاّ أنني اضطررت إلى ذكر اسمه، سلمان البدر، ثم أطرقت رأسي وأسبلت عيني، وحين فتحتهما كانتا مخضلتين بالدموع.

(صمت)

غدت ابنتي بعد ذلك تنافسني في حب ماركيز، ولا تفوّت كتاباً من كتبه، وتركتها أنا تكتشف بنفسها أن اسمها مأخوذ من اسم “صوفيا” في روايته “مائة عام من العزلة”، صوفيا التي تزوجها “بوينديا”، وأنجب منها “ريميديوس” الجميلة، وكان ذلك حافزاً آخر لها كي تتعلق به أكثر، وتقنع حبيبها فادي بقراءة رواياته، لكن كلما سألها أحدهم عن سبب شغفها به قالت لأنه رقيق القلب يرفض الموت لأبطاله، وإذا اضطرّ لقتل أحدهم فإنه يبكيهم كما لو كانوا أصدقاءً.

(موسيقى، تعيد نورا الكتاب إلى المكتبة، وتسحب منها صورةً فوتوغرافيةً لسلمان وهو شاب)

مضت خمس وعشرون سنة على أول غياب لسلمان. حدث ذلك في السنة السادسة للحرب، لكني اعتدت على رؤيته في الحلم باستمرار. كان شغوفاً بماركيز على نحو جنوني، يحمل كتبه بلغتها الأصلية حتى في الخط الأمامي للجبهة، ويسميه أحياناً بلقبه الشعبي “غابو”، وكأن أمه ولدته في بوغوتا.

(يسمع صوت انفجار في الخارج، فتضع نورا الصورة على الأريكة، وتهرع إلى الشباك وتتطلع إلى الشارع، ثم تعود)

كالعادة موسيقى الموت البغيضة

(تستدرك أنها أخطأت في التعبير)

لكن لا لا، من الخطأ أن أشبّه هذا الدوي الشيطاني بالموسيقى، الموسيقى أسمى الأصوات في الكون، إنه انفجار بعيد، ربما كان في أحد الشوارع الرئيسة، لكن العصافير فرّت من الأشجار كما في كل مرة، لم تعد تشعر بالأمان حتى مع هبّة ريح خفيفة. لا بدّ أن تكون سيارةً مفخخةً في سوق مزدحم، أو أمام مؤسسة حكومية أو أحد المقرات الحزبية، وفي كل الأحوال القتلى والجرحى أناس أبرياء. إلى متى يا إلهي تستمر هذه الكارثة؟ ألم يكتفوا من القتل وسفك الدماء؟ أنا وحدي فقدت ثلاثة، أخي وحبيبي وزوجي.

(تبكي، ويعقب بكاءها صمت)

يُقال إن القط هو الحيوان الوحيد الذي يقتل من أجل القتل لذاته، وليس من أجل إشباع غريزة الجوع، لكن بعض الناس في بلادنا صار ينافس هذا الحيوان.

(تسمع مواء قط)

لولا خالتي ألماس لما سمحت لصوفيا بالاحتفاظ به. أنا أتشاءم من القطط، الكلب أكثر وفاءً منها. يموء حتى لو كان متخماً. لا أدري من أين جلبه لها فادي. يقول إنه قط شيرازي أرستقراطي، لكني لا أحبه كثيراً رغم جمال عينيه الزرقاوين. متقلب الطباع ولا يحب المداعبة. تمشّطه صوفيا يومياً بمشط ناعم حتى يزيل الشعر المتساقط ويعطيه مظهره الجذاب. آه يا فادي! لكم أتمنى أن يزول حاجز الدين بينكما وتتزوجان، وتسعد ابنتي الوحيدة، ويجنبكما القدر مأساتي مع سلمان.

(موسيقى)

قبل سنتين حدثت المعجزة، عاد حبيبي سلمان من الأسر بعد ثلاثة وعشرين عاماً، وكنت أحسبه شهيداً طوال ذلك الوقت. ليس وحدي من سلّم بذلك بعد دفن جثته، بل أهله وكل أصدقائه ومعارفه. عاد مثل مَن بُعث حياً من الموت. يومها اتصل بي هاتفياً وأنا هنا في البيت، فاضطربتُ بشدة حين سمعت صوته. كان يمكن أن يتبادر إليّ أنني لست يقظةً، لكن رنين الهاتف جاء في لحظة يستحيل أن تكون غير واقعية. في البدء سألني الصوت: هل أكلّم السيدة نورا؟ أحدثت نبرته هزةً في داخلي، فقلت متلعثمةً: نعم، نعم، أنا هي، من معي؟ قال: تغير صوتكِ كثيراً. لم يعد مثلما كان قبل سنوات بعيدة. تسارعت نبضات قلبي وقلت له: من أنت؟ صوتك ليس غريباً عني، أجاب: ستعرفينني إن وضعتِ الهاتف على قلبك، شعرتُ برعشة تسري في جسدي، وقلت: مستحيل! أنت تتكلم بصوت ليس صوتك. انتبهت صوفيا إلى الذهول الذي اعتراني، فأخفضت على الفور صوت التلفزيون. قال الصوت: هل أنتِ وحدك في البيت؟

(هنا تؤدي نورا صوت سلمان إضافةً إلى صوتها)

– لا لا، معي ابنتي.

– صوفيا؟

– تعرف اسمها أيضاً؟

– كيف لا أعرف، ألم يكن هذا اتفاقاً بيننا؟

– مستحيل! أنت لست هو.

– حاولي أن تحدثيني على انفراد.

هرعتُ إلى غرفة النوم وأغلقت الباب. وضعت الهاتف على قلبي، ثم أعدته إلى أذني بعد برهة، وقلت:

– لا تخدعني، الصوت صوته. نعم. لكنك لست هو بالتأكيد.

– صدقيني أنا هو.

– يا إلهي، كيف يمكن أن تكون هو وقد..؟

– ستعرفين حينما نلتقي. هل ما زلت ترسمين؟

–  أجل أجل، لكن من أين حصلت على رقمي؟

– من أحدهم. هل ما زلت تحبين مودلياني؟

– لا، لا، أنت لست سلمان، ربما تكون جنياً تلبستَ شخصيته.

 – لا أصدق أنك تؤمنين بهذه الخزعبلات، هل ما زال ماركيز كاتبك المفضّل؟

 – يا إلهي أكاد أُجن. لو أعطيتني تفسيراً صغيراً فقط.

 – أنتظرك بعد ساعة في المكتبة العامة.

لم تستغرق المكالمة بيني وبينه سوى بضع دقائق، أغلق هاتفه وتركني غارقةً في ذهول شديد. تهاويت على سريري وغطيت وجهي بكفيّ، فاشتعلت نار ذكراه في أعماقي، وأخذت أستعيد لهيبها مذ رأيته، أول مرة، في يوم ربيعي من شهر اللوز قبل خمس وعشرين سنة، وكانت خامدةً طوال العقدين الماضيين اللذين عشتهما زوجةً لرجل حاول أن يسعدني ويعوّضني عما فقدته.

(موسيقى. تتجه نورا إلى حامل لوحات الرسم وتخاطب اللوحة)

هل تذكر يا سلمان ذلك اليوم البعيد؟ كنتُ خارجةً، رفقة خالتي ألماس، من بوابة ضريح الولي، حيث اعتادت النساء، أيام العيد، على التجمّع في باحته للتبرّك به وطلب المراد منه. كانت خالتي آنذاك تقترب من العنوسة، فأقنعتها بأن تعقد قطعة قماش، دونما إحكام، وترميها من سطح مبنى الضريح، مثلما تفعل الأخريات، لعل العقدة تنحل عندما تلامس الأرض، فتنال مرادها. في الحقيقة أنا التي كنت أرغب، منذ بداية مراهقتي، في ممارسة ذلك الطقس، فشاركت خالتي في رمي كيس مملوء بالحلوى.

(تتحدث للمتلقين)

كان سلمان يقف في الممشى الخارجي المؤدي إلى بوابة الضريح، في صف طويل من الشبان الآتين ليستعرضوا أنفسهم أمام الفتيات الزائرات، أملاً في أن يجدن مرادهنّ فيهم. وحين أقبلتُ صوبه، مختالةً بنفسي أمشي أمام خالتي، رمقني بنظرة عميقة متلهفة، كأنه يعرفني منذ زمن طويل، وأردفها بابتسامة أشعرتني بأنه يتشهى معانقتي، فرفعت يدي، لا إرادياً، ومررت بأصابعي على خصلات من شعري حركتها الريح، وبادلته ابتسامةً خاطفةً.

(موسيقى)

لم يخطر لي أنني سألتقي سلمان مرةً أخرى، لكن الحب كان أقوى مما تصوره عقلي الصغير وأنا في سن الثامنة عشر. اهتدى سلمان إلى بيت خالتي في اليوم التالي، وأقسم لها بأنه أحبني بصدق ويريد أن يرتبط بي، فرتبت لنا موعداً عندها.

(موسيقى)

جاء سلمان فرحاً مثل طفل، حاملاً في يده علبة حلويات. استغربت من الصورة الرهيبة المطبوعة على العلبة، كانت لامرأة شعرها من ثعابين، سألته عنها فقال إنها رأس الميدوسا، وروى لي أن حكايتها وردت في أساطير اليونان، وأن نظرةً منها إلى أي مخلوق كانت كافيةً لتحويله إلى حجر، إلاّ أنها في الأصل كانت إلهةً وعشيقةً لإله البحر، فغضب عليها كبير الآلهة ومسخها هي وأختيها إلى كائنات بشعة.

(موسيقى)

يومها عرفت أن سلمان يهوى الأدب، ويدرس اللغة الإسبانية في الجامعة، ويتمنى أن يوظف حكاية الميدوسا في رواية يحلم بكتابتها، يشتبك فيها الواقعي بالغرائبي، ويسميها “أحبك يا ميدوسا”. قلت له مستغربةً: أتحب هذه المخلوقة البشعة؟ قال: هي لم تكن بشعةً في الأصل، بل امرأةً جميلةً تمثّل سلطان الأنثى بدلاً من الشر، وقد غدر بها إله مستبد يجسّد الذكورة في أبشع صورها.

(موسيقى. تخاطب اللوحة)

ما أكثر الأحاسيس التي انتابتني ذلك اليوم وأنا أتهيأ لتزيين نفسي. طليت أظافري بلون زهري، وسرّحت شعري بعناية، وجعلته ينسدل على كتفيّ.

(تستعيد نورا ذكرى ذلك اليوم بإيماءات وحركات جسدية)

ثم وقفت أمام خزانة ملابسي طويلاً، أستعرض محتوياتها في حيرة، وتمنيت خلال لحظات لو أستطيع الاتصال بك لأسألك ماذا تحب أن ألبس، لكني وجدت أن ذلك يجعلني أبدو منقادةً إليك من البداية، فعزمت على مفاجأتك بارتداء ما أراه جميلاً ومناسباً.

(موسيقى)

وقع اختياري أخيراً على فستان أبيض موشى بدانتيلا مذهبة، وأخذته معي إلى منزل خالتي وارتديته هناك، ورششت رقبتي وأسفل أذنيّ بالعطر.

قالت لي خالتي إن شكلي يبدو أقرب إلى شكل عروس، فملأني كلامها غبطةً. ثم نصحتني أن أودع الفستان عندها حينما أعود إلى منزلنا.

(تخاطب المتلقين)

في البدء مكثتْ معنا، بخّرت الصالة جيداً ببخور النرجس، وجلست تصغي إلى ما يدور بيننا، ثم نهضت وفتحت التلفزيون، ومضت إلى المطبخ.

كان سلمان يجلس على مبعدة عني، تفصلنا مسافة تكفي لشخصين على الأريكة، وحين غادرت خالتي اقترب مني، وأخرج من جيبه علبةً صغيرةً، فتحها والتقط منها ساعةً، وسحب يدي برقة ووضعها في معصمي، فيما كانت عيناه توجهان سهامهما إلى عينيّ.

شكرته على الهدية وأخذت أتأملها، كان لون قرصها بلون فستاني وعقاربها بلون شعري. وبعد هنيهة أمال رأسه إليّ وشرع يغازلني بأسلوبه الشاعري، ويدلّعني باسم “نورين”، فبعث كلامه في نفسي إحساساً بالاسترخاء والخدر، كأنني خرجت من مغطس، وراح خيالي يسرح بعيداً.

(موسيقى)

تحدثنا ساعتين تقريباً على انفراد، تخللتهما ملامسات بالأصابع على استحياء، جعلت كياني كله يضطرب، وكدت أفلت كأس العصير من يدي.

قطع التلفزيون خلوتنا الغرامية فجأةً، وراح يبث خبراً حربياً مزعجاً. يا إلهي! إنه هجوم بريّ على الجبهة التي فيها أخي الكبير.

(مارش عسكري يليه صمت)

شعر سلمان بالانقباض، ودهمني أنا قلق شديد، وكان ذلك سبباً كافياً لأن ينتهي لقاؤنا الأول.

(صمت)

كان ذلك اليوم استثنائياً في حياتي، عشت مشاعر متناقضةً جداً، سعادتي بلقاء سلمان وخوفي على أخي، ورحت أتساءل مع نفسي: لماذا نفقد إحساسنا بالزمن حين يطغى علينا الفرح، بينما يغدو ثقيلاً، كئيباً حين يغشانا القلق؟

(موسيقى حزينة)

نظرتُ إلى “رأس الميدوزا” فانتابتني مشاعر سوداوية. تخيّلت الحرب أفعى مجلجلةً عملاقةً تلتف على أجساد الجنود، وتقطع جريان الدماء في شرايينهم.

(صمت)

أردتُ أن أستحضر لتلك المخلوقة صورة الأنثى الجميلة المغدورة، بدلاً من صورتها البشعة، لكني لم أستطع. أفرغت الحلويات في صحن ورميت العلبة في برميل القمامة.

(موسيقى)

مساء ذلك اليوم كلمتني صديقتي بولينا متألمةً، وكأن أحدهم قذف رأسها بحجر، أخبرتني أن فرقة أخيها العسكرية تعرضت أيضاً إلى هجوم، وودعتني قائلةً إنها ستذهب صباح غد الأحد إلى الكنيسة لتصلي من أجل أن تقف الحرب.

(تشم رائحة احتراق الطعام في المطبخ)

اللعنة. احترق الطعام في القدر وأنا أثرثر.

(تهرع إلى المطبخ، وتخفت الإضاءة مع الموسيقى)

المشهد الثاني

Thumbnail

(المكان نفسه، الوقت مساء، نورا تقف أمام حامل لوحات الرسم تمسك بيدها اليمنى فرشاة، وبالأخرى قطعة خشب خلط الألوان. تتراجع إلى الخلف لتعاين اللوحة عن بعد، ثم تتقدم إليها، وتكرر الحركة عدة مرات، وفجأةً ينقطع التيار الكهربائي)

منذ سنين ونحن على هذه الحال.

(تشعل شمعة، أو مصباح طوارئ قابل للشحن)

لو كانت محطات الكهرباء تُستورد من المريخ لوصلت قبل عدة سنين. لكن من يحفل بنا وهم غارقون في صراعهم اليومي على الكراسي، وتنافسهم الدنيء على سرقة أموال البلد. تفو عليهم جميعاً، لا أدري من أيّ طينة خسيسة جُبلوا.

(تسمع نغمة رسالة من هاتفها النقال فتفتحه)

رسالة من رقم مخفي. ماذا تقول؟

(تقرأ الرسالة)

هل أعجبتك وداعية ماركيز. أحببت أن تقرئيها لعل قلبك يرقّ وتستجيبين لنداء قلبي. أمس حلمت بسلمان فطلب مني أن أوصيك على لسانه بأن تخفّفي من حزنك، وتفتحي قلبك لحبيب آخر، فالحياة مستمرة في تدفقها، ولا يضيرها إن ذبلت نبتة أو جفّ جدول صغير فيها. ميم.

(تغلق الهاتف)

من يكون ميم؟ كذاب، لا أحد يحلم بسلمان غيري أنا. ميم؟ ميم؟ ميم؟ محمود؟ مجدي؟ مهند؟ مناف؟ أجل، أجل عرفته، مناف صديق سلمان أيام العسكرية. عرض عليّ الزواج بعد انتهاء الحرب فرفضت. ما الذي ذكّره بي؟ ربما انفصل عن زوجته أو أصبح أرمل. جاء إلى بيتنا مرةً واحدةً في عزاء زوجي.

(تشعل شمعة ثانيةً)

كنت أود أن أنتهي الليلة من رسم اللوحة. لقد أرّقتني كثيراً. منذ شهر وأنا أعمل فيها. لا الفرشاة ولا الألوان تطاوعني على تجسيد ما أريد، ما أتمنى. ربما لأنني لست رسامةً محترفةً.

(تخاطب اللوحة)

 أريد أن أتخيّل فيها وجهك بعد ثلاث وعشرين سنةً من الغياب. ماذا كان سيحدث لو أنني رأيتك حياً للحظات. لماذا سرقك الموت مني وأنا مصدومة من معجزة عودتك المفاجئة؟ آه يا حبة قلبي! هل توجد امرأة في الكون تحب رجلاً مثلما أحبك؟

(تشعل شمعةً ثالثة وتخاطب المتلقين)

صرنا نلتقي أنا وإياه كلما عاد من الجامعة في نهاية الأسبوع، ونتهاتف يومياً. في البدء كنت أخرج، مضطرّةً، مع خالتي لأجتمع به في مكان عام، وفي داخل كل منا رغبة جامحة في معانقة الآخر، ثم أخذنا نلتقي في بيت أخته بعد أن رأينا أن دور خالتي قد انتهى، وآن الأوان أن تتركنا لحالنا.

(موسيقى)

بقينا نمارس حياتنا السريّة هذه حتى أكمل الجامعة وساقوه إلى الجيش في السنة الخامسة من الحرب. لم يمكث أكثر من شهر في مركز للتدريب ثم نقلوه إلى الجبهة.

(تفتح نورا درجاً في منضدة الكومبيوتر وتستخرج منها مجموعة رسائل وتتصفحها، ومن بعيد نسمع موالاً حزيناً عن الوداع. تختار إحدى الرسائل)

بعد أسبوع كتب لي سلمان هذه الرسالة:

(تقرأها بصوت مسموع)

 حبيبتي نورا، أكتب لك من جحر بين الصخور يسمّونه ملجأً على سفح جبل شاهق، وتحتي بلدة تشبه مسقط رأس ماركيز. الشمس تتهيأ الآن للهبوط خلف الجبل، ومن جهة الشرق بدأت غيوم سوداء تزحف ببطء صوبنا. الجبهة شبه هادئة، بعد مرور مدة على استرجاعنا المنطقة المحتلة. اطمئني، أنا وبضعة أصدقاء تعرّفت إليهم نقضي نهاراتنا وليالينا بقليل من الاسترخاء والقراءة.

أحبك إلى الأبد.

(يرن جرس هاتفها النقال)

ألو… لا لا… عفوا أخي الرقم خطأ (ترفع صوتها أكثر) أقول لك أنا ليست هي يا محترم… (بغضب) قلت لك الرقم خطأ واحفظ لسانك يا حمار.

 (تغلق الهاتف)

كم أكره هؤلاء السفلة. أقول له الرقم خطأ يقول لي متى أراك يا دارين. من أين يأتون بهذه الأسماء؟

(صمت)

أظنه اسم جزيرة أو مطربة.

(يسمع مواء القط)

أشعر بالاختناق، الحرارة صارت لا تُطاق.

(تخلع قميصها وتفتح الشباك، ثم تنادي على ابنتها صوفيا)

صوفيا افتحي شباك غرفتك وضعي القط في قفصه قبل أن تنامي.

(تعود إلى الشباك وتخرج رأسها منه)

الهواء منعش في الخارج، ولولا البيوت العالية جنْبَنا لنمنا على السطح كما كنا نفعل في السابق. (تأخذ مروحةً يدويةً وتستلقي على الأريكة تحت الشباك وتحركها أمام وجهها بعض الوقت، ثم تتوقف عن الحركة كما لو أنها غفت. موسيقى. تتغير الإضاءة دلالةً على مرور الوقت. يعود التيار الكهربائي فتصحو نورا وتحرك عضلات وجهها)

يبدو أنني غفوت

(تنظر إلى الساعة)

ربما ربع ساعة (تتثاءب) لكن الوقت ما زال مبكراً (تنادي على ابنتها) صوفيا هل نمتِ؟ (لا تسمع رداً) إنها متعبة، كان الله في عونها. منذ رجوعها من المدرسة وهي تصحح أوراق الامتحان. التدريس عمل شاق ومزعج. سامحها الله، قلت لها اختاري كلية الفنون فليس أسهل من أن تكوني مدرّسة فن، لا امتحان قواعد ولا إنشاء ولا إملاء ولا وجع رأس، لكنها اختارت اللغة الإنكليزية.

(تغلق الشباك)

الله أعلم، لولا اختيارها هذا لما تعرفت إلى فادي. أخفت عني علاقتها به مدةً طويلةً، خافت أن أعترض عليه لأنه مسيحي. لكني اكتشفت الأمر صدفةً. وصلتني منها رسالة إلى هاتفي المحمول بالخطأ. كانت تريد أن ترسلها إلى صديقتها في السويد.

(تُسمع الرسالة بصوت مسجّل)

“صديقتي العزيزة. حبيبي اسمه فادي ميخائيل. كلانا الآن في المرحلة الثانية. شاب طويل، عيناه بلون شراب التمر الهندي، ووجهه القمحي مشرق على الدوام، يحلو لي أحياناً تشبيهه بـ”موريشيو” الذي أحبته “ميم” في “مائة عام من العزلة”، فيضحك قائلاً لكنني لست ميكانيكياً مثله يا صوفيا”.

(صمت)

ماذا كانت ستفعل غيري من الأمهات؟ هل ترغم ابنتها على تركه؟ هل توافق شريطة أن يغير ديانته أم تستسلم للأمر الواقع؟

(موسيقى)

لقد استسلمت بعد امتناع أهله عن القبول بالحل الثاني. لكنهما ظلا عاجزين عن الزواج. لا أحد من أهلي وأهل أبيها يوافق عليه. لعن الله المتعصبين. ليس في كتابه الكريم ما يحرّم التزاوج بين المختلفين في العقيدة. يحرّمون ويحللون على هواهم.

(تعود إلى لوحة الرسم)

حتى الرسم والموسيقى في عرفهم حرام. فليذهبوا إلى الجحيم، بماذا أضرُّ الناس حينما أرسم وجهك؟ أليس ذلك أقرب إلى الله من أفعال الشر؟ إنه جميل ويحب الجمال. مَن الأسمى والأنبل، جدارية جواد سليم أم مشهد قطع الرؤوس؟ ابتسامة الموناليزا أم تكشيرة إرهابيّ؟

(تحمل اللوحة وتنظر إليها)

خلجاتك، زوايا الضوء، مساحات الألوان في وجهك أم أصبع قاتلك وهو يضغط على الزناد؟ كيف واتته نفسه أن يطلق النار على كائن جريح مثلك؟ هل يُعقل أن يكون من سلالة وايتمان؟ مستحيل. ذلك الشاعر الإنساني آمن بأن الحرية لا تجد متنفساً لها إلا في الحب، وتطوّع ممرضاً لمعالجة الجنود الجرحى. لا، لا، إن قاتلك أميركي بشع من سلالة المستوطنين القراصنة، أو مرتزق انضم إلى المارينز للحصول على الجنسية.

(موسيقى حزينة، تخاطب اللوحة)

Thumbnail

يصعب أن أنسى لحظة سماعي نبأ استشهادك أول مرة، أصابني بصدمة شديدة، اتصل بي أخوك هاشم ليبلغني بالفاجعة. كان قد مضى على دفنك يومان. أردت أن أصرخ فلم أستطع، بقي فمي مفتوحاً، وشعرت بتجمد عضلات وجهي وأطرافي. وحين خفّ أثر الصدمة بكيت بكاءً مراً.

(صمت)

صديقك مناف نقل جثمانك إلى أهلك. أوصله كومة عظام متفحمة في نعش ملفوف بعلم، وطلب منهم ألا يلقوا نظرةً عليه.

(صمت)

دفنوك دون أن يتأكدوا إن كان جثمانك أم جثمان شخص آخر.

(موسيقى)

على مدى سنين طويلة حاولت أن أبقي صورتك طي النسيان، لكنها كانت تبزغ رغماً عني، مثل نجمة شاردة، وتؤرقني كلما قرأت كتاباً لماركيز، أو مقالةً عنه. وحين أصبحت عندي، بعد زواجي، مكتبة تضم كل ما تُرجم له، لم يعد بوسعي أن أفصل بين صورتيكما، أقف أمامها بخشوع مثلما تقف صديقتي بولينا أمام أيقونة يسوع. في مرات كثيرة كنت أضع إحدى رواياته تحت وسادتي، وأنتظر حتى ينام زوجي لأقرأ فصلاً منها، وكان يتهيأ لي أنك مضطجع جنبي في السرير، تضوع منك رائحة زكية.

(تعيد اللوحة إلى الحامل)

بعد ثلاثة وعشرين عاماً ظهرت الحقيقة. لم يكن ذلك الجثمان إلاّ لجندي مجهول، أما سلمان فقد كان أسيراً في مكان بعيد، مغضوباً عليه في قفص سري، وغير مسجَّل لدى الصليب الأحمر، ولا مسموحا له بكتابة رسالة واحدة لأهله.

(صمت)

يا لخستهم. لم يكن سلمان مرتزقاً ولا جاسوساً حتى يذلوه ويتحفظوا عليه، وألا يفرجوا عنه إلا بعد اثني عشر عاماً على انتهاء الحرب.

 (تسمع أبواق سيارة في الخارج)

صرت أمقت هذا الصوت بسبب كرهي للسيارات. حين كان فادي ينتظر صوفيا أمام الباب ليأخذها إلى الكلية لا يتجرأ على استعمال بوق سيارته. منذ مدة وأنا أذهب إلى السوق مشياً على قدميّ. أقطع المسافة ذهاباً وإياباً في نصف ساعة. أغلب العبوات الناسفة تصيب السيارات. نعش الجندي المجهول جاء محمولاً على سقف سيارة أجرة! وزوجي انفجرت على مقربة منه سيارة مفخخة، وخالتي دعستها سيارة، وسلمان قُتل في سيارة أخيه وهو في طريقه إلى ملاقاتي.

(صمت. تتجه الى اللوحة مرة أخرى)

انتظرتك عند سور المكتبة. ارتديت ملابس ملونةً، الألوان التي تحبها: الأزرق والأبيض والفيروزي. أبقيتُ هاتفي في يدي، ورحت أتخيّل شكلك بعد ثلاثة وعشرين عاماً على غيابك، وأسأل نفسي “كيف ستكون مشاعري حين تتلاقى نظراتنا؟ هل سيخفق قلبي بشدة وأتسمّر في مكاني؟ هل أعانقك وأقبّلك أمام الناس؟ هل أدفن رأسي في صدرك وأنخرط في البكاء؟ وماذا بعد لقائي بك؟ إلى أين نذهب؟ هل آخذك إلى بيتي؟ لكنني يا ربي لست وحدي، معي ابنتي، ماذا أقول لها، وكيف ستكون ردة فعلها؟. لا، لا، من الأفضل أن أمكث معك في حديقة المكتبة، أو نذهب إلى مطعم قريب. ربما لا تدري أن مطاعم عائليةً كثيرةً افتتحت في المدينة رغم الخراب. الناس ألفوا المفخخات والأحزمة الناسفة. أصبحت حياتهم في ذمة القدر.

(صمت)

لكنك تأخرت، وبدأ القلق يساورني. اتصلت على الرقم الذي كلمتني منه فظل يرن دون رد، حاولت مراتٍ عديدةً لكن دون جدوى. بعدئذ أُغلق الخط نهائياً ليتركني نهباً للحزن والخيبة، وأخذت أناجي ربي: يا إلهي، أيّ يوم عصيب هذا؟ لماذا تفتح لي باب الأمل ثم تغلقه في وجهي؟ ماذا فعلت كي تعاقبني بهذه الطريقة؟ هل أجرمت لأنني أحببت؟ أليس الحب أجمل إحساس زرعته في قلوب البشر؟ ألستَ من أعاده إلى الحياة بعد كل هذه السنين، فلماذا لا تكمل فضلك وتجمعني به ثانيةً؟ لكنّ ربي لم يستجب لمناجاتي، تركني مهشّمةً وفريسةً للألم، فقررت أن أبحث عنك بنفسي.

(موسيقى. تخاطب الجمهور)

أوقفت سيارة أجرة متهالكةً، وطلبت من السائق أن يوصلني إلى الجسر الذي سيجتازه سلمان، ماذا يفعل الغريق إلاّ أن يتمسك بقشة؟ ربما حدث له أمر طارئ. لكن السائق رفض أن يسلك الشارع المؤدي إلى الجسر متحججاً بأنه مغلق، سألته مرتابةً: من أغلقه؟ قال: مَن غيرهم، لعنة الله عليهم في الدنيا والآخرة.

(هنا تؤدي نورا صوت السائق إضافةً إلى صوتها)

– عفواً، هل تعرف لماذا أغلقوه؟

– قبل وصولهم إلى الجسر تعرض رتلهم إلى صاروخ.

– وكيف كانت ردة فعلهم؟

– كالعادة، جُنّ جنونهم، فأطلقوا النار بشكل عشوائي على المارة والسيارات، ثم أغلقوا الشارع وقبضوا على الأبرياء.

– هل قتلوا أحداً؟

– الله وحده يعرف عددهم، لكني أخمّن أنهم ليسوا أقل من عشرين.

– يا ويلي! أرجوك خذني إلى المستشفى.

(صمت)

سألتُ موظف الاستعلامات عما إذا كان بين المصابين شخص اسمه سلمان البدر، فتصفح سجلاً بين يديه وقال: إنه في صالة العمليات الكبرى.

شهقت: هل حالته خطرة؟ قال: لا أدري، لكنكِ لن تستطيعي رؤيته اليوم.

شعرتُ بشيء ما تحطم في داخلي، وارتميت على الكرسي ودفنت رأسي بين يدي.

(موسيقى)

بعد نصف ساعة جلس أحدهم جنبي، التفت إليه فإذا به هاشم. سألني إن كنت قد رأيت سلمان، فتمالكت نفسي وقلت: اطمئن لن يعجز الأطباء عن معالجته. لكنه عاد فسألني كيف كانت لحظة لقائي به؟ وهل أخبرني عن الرواية التي كان يحلم بكتابتها هناك؟ قلت: لم يسمحوا لي أن أمكث معه طويلاً. صمت قليلاً ثم قال: لكن سجّانيه في الأسر حرموه من أدوات الكتابة. فغرت فمي وكدت أسقط على وجهي من هول المفاجأة: في الأسر؟ هل كان سلمان أسيراً؟! لحظتها شعرتُ بأن الأرض تميد بي، فأمسكت بطرفَي الكرسي وثبتّ جسدي عليه بصعوبة، أما هاشم فأخذ يتحدث عن صدمته أيضاً بعودته. لكني تركته يتحدث وسرت باتجاه صالة العمليات وفي رأسي يرن كلام سلمان الذي أسمعني إياه في الهاتف “لولا حبكِ لما استطعت تحمّل الأمكنة الرهيبة التي ساقوني إليها. كنتِ وحدك البلسم الذي يمنحني قوةً غامرةً، تحملين لي السكينة فتزداد مقاومتي لهم. إني أدين لك بالبقاء يا نورا، وأشعر الآن بأنني انبعثت من أجلك”.

(موسيقى)

وجدت صالة العمليات مغلقةً، نظرت إلى داخلها من نافذة الباب الزجاجية فإذا بها تغرق في العتمة، ولا شيء يوحي إلى وجود حياة فيها. أخذت أصرخ كالمعتوهة وأطرق الباب بعنف، لم يفتحه لي أحد، فعزمت على اقتحامها بكل الغضب الذي انبعث من أعماقي، لكن اثنين من الممرضين هرعا إليّ وأمسكا بي من ذراعيّ. سحَباني إلى غرفة مجاورة وأقعداني على كرسي خشبي. ظلّ الرجل واقفاً أمامي وراح يمتص انفعالي وتوتري، بينما فتحت المرأة خزانةً وأخرجت منها كأساً مملوءةً بسائل شفاف، وصبتها في جوفي دفعةً واحدةً، وأمسكتني من رأسي، فغبت عن الوعي.

(تخفت الإضاءة تدريجياً مع الموال الحزين عن الوداع)

النهاية

* الشقيق الأصغر للروائي ماركيز.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.