أحلام ستيلافيستا الألف
ما عاد أحد يأتي إلى “فرميليون ساندز” ولا أعتقد أنّ الكثير من الناس قد سمعوا بها. إنما قبل عشر سنوات، حين انتقلت وفاي للعيش في 99 ستيلافيستا، قبل أن ينهار زواجنا تماماً، كانت المستعمرة ما زالت ماثلة في الذاكرة بوصفها مرتع نجوم السينما، والوريثات الغريبات الأطوار والمواطنين الكوزموبوليتيين الذين كانوا يمرحون هنا خلال السنوات الرائعة التي سبقت الركود. وحقيقة الأمر أنّ معظم الفلل والقصور التجريدية كانت في ذلك الحين باتت فارغة، وغطّت الحشائش البرّية حدائقها الفسيحة، وجفّت المياه منذ زمن طويل في برك السباحة ذات الطبقتين، وانحطّ المنتجع برمّته مثل مدينة ملاه مهجورة، ورغم ذلك، فقد ظلّت أجواء الفخامة تحيط بالمكان، مما يجعلك تشعر أنّ العمالقة غادروه للتو فحسب.
أذكر يوم اصطحبنا الوكيل العقاريّ بسيارته أوّل مرّة إلى مجمّع ستيلافيستا، وكم كنا متحمسين، على الرغم من القناع البورجوازيّ البارد الذي تقنّعنا به. بل إنّ فاي، على ما أعتقد، كانت هلعة بعض الشيء– إذ أن اسماً أو اسمين من الشخصيات اللامعة ما زالا يعيشان خلف الشرفات المغلقة – ويمكن القول إننا كنا العميلين الأسهل اللذين يقابلهما الوكيل الشاب منذ شهور.
ربما لهذا السبب حاول أن يعرض علينا في البداية المنازل الأغرب. وبدا واضحاً أنّ المنازل الستة تلك، ليست سوى منتجات قديمة غير مباعة معروضة بأمل أن يسقط العميل في الفخّ، أو أن يكون مجرّداً من أيّ حسّ نقدي فيشتري أوّل ما يُعرض عليه.
أحد المنازل، عند تقاطع ستيلافيستا والجادة م، يمكن أن يصدم حتى أكثر السرياليين تطرّفاً خلال انتشائه بالهيروين. وقد احتجب عن الطريق بأجمة من نباتات الوردية المتربة، ويتكوّن من ستّ كرات ضخمة من الألمنيوم معلّقة مثل عناصر متحرّكة من رمح خرسانيّ ضخم. وقد ضمّت الكرة الأكبر غرفة المعيشة، أما الكرات الأخرى، وبالتدرّج من الأكبر إلى الأصغر حجماً، فقد ضمّت غرف النوم والمطبخ. وكانت معظم ألواح الألمنيوم مثقوبة، وكان الهيكل بأكمله ملطّخاً قليلاً، ويرتفع فوق الأعشاب البرية التي نبتت من الشقوق المتصدّعة في الفناء مثل مجموعة من سفن الفضاء المنسيّة في قطعة أرض خالية.
تركنا ستامرز، الوكيل العقاريّ، في السيارة، بجوار الوشيعة التي تحجب المنزل بعض الشيء. ودخل البيت بسرعة وأشعل الإنارة (غنيّ عن القول إنّ جميع منازل “فرميليون ساندز”، قائمة على المؤثّرات العقلية)، فسُمع طنين باهت وأخذت الكرات تدور، وتحفّ بالحشائش.
بقيت فاي في السيارة تحدّق بذهول بهذا الشيء العجيب، أما أنا ومن باب الفضول فقد ذهبت إلى مدخل المنزل، ولاحظت الكرة الرئيسة تبُطئ سرعتها مع دنوي منها، وتبعتها الكرات الأخرى.
بحسب الكتيّب، فقد بُني البيت قبل ثماني سنوات ليكون ملاذاً في عطل نهاية الأسبوع لأحد كبار ملاك محطّات التلفزة. ثم تسلسل المالكون بعد ذلك، ليشتملوا على نجمتي سينما، وطبيب نفسي، ومؤلف مقطوعات فوق صوتية (الراحل ديميتري شومان، وهو مجنون سيء السمعة، تذكّرت أنه دعا عدداً كبيراً من الضيوف إلى حفل انتحاره لكنّ أحداً لم يتجشّم عناء المجيء. فألغى المحاولة)، ومصمّم سيارات. مع تاريخ كهذا، كان يفترض أن يكون البيت قد بيع في غضون أسبوع، حتى في “فرميليون ساندز”. ومع ذلك فقد كان معروضاً منذ شهور، إن لم يكن سنوات، وهو ما يشير إلى أنّ ساكنيه السابقين لم يكونوا سعداء فيه على نحو خاص.
على بعد نحو مترين مني، تذبذبت الكرة الكبيرة ببطء، وفتحت باب الدخول إليها. وقف ستامرز عند المدخل المفتوح، مبتسماً ابتسامة تشجيعية، لكنّ البيت بدا متوتراً من أمر ما. حين خطوت إلى الأمام لكي أدخل تراجع المدخل فجأة كأنّه خائف، وارتجف الهيكل برمّته.
من الشيّق دوماً مشاهدة كيف يتعامل المنزل الـ “سيكوتروبي” مع الغرباء، لاسيما المرتابون منهم أو من هم على أهبّة الاستعداد لذلك. فيتفاعل بعدّة طرق، مازجاً ردود الفعل القديمة مع المشاعر السلبية، من قبيل عدوانية الشاغلين السابقين له، أو الذكرى المؤلمة لمرور لصّ أو متشرّد (مع أنّ هؤلاء عادة يبقون بعيدين عن هذه المنازل، خشية أن تنقلب الشرفة أو يضيق الرواق). وبالتالي، فإنّ ردة الفعل الأولى للمنزل ربما تكون مؤشّراً موثوقاً على حالته الفعلية، أكثر من أيّ شيء قد يخبرك به الوكيل العقاريّ حول القوة الكهربائية للمنزل أو مرونته النموذجية.
هذا المنزل كان يتخذ قطعاً وضعية دفاعية. حين صعدت السلّم إلى المدخل كان ستامرز يصارع بشدّة مع لوح التحكّم الموضوع خلف الباب، في محاولة لإبقاء مستوى الصوت في الحدّ الأدنى. عادة ما يختار الوكلاء العقاريون مستوى الصوت المتوسط أو المرتفع، لإبراز ردود الفعل النفسيّة للمنزل.
قابلني بابتسامة طفيفة، قائلاً: “الدارات الكهربائية قديمة بعض الشيء. ليس بالأمر الخطير، سوف نستبدلها مثلما ينصّ العقد عليه. بعض المالكين السابقين كانوا ممن يعملون في العروض الفنية، وكان مفهومهم عن امتلاء الوجود مفرطاً في التبسيط”.
أومأت برأسي، واتجهت إلى الشرفة التي تحيط بكامل غرفة المعيشة المنخفضة. كانت غرفة رائعة، جدرانها من البلاستكس الغامق وسقفها من الفلوغلاس الأبيض، إنما يبدو أنّ شيئاً رهيباً قد حدث هناك. إذ تعاملت الغرفة مع وجودي فيها، بأن ارتفع سقفها قليلاً وصارت جدرانها أقلّ تعتيماً، استجابة مع عينيّ الباحثتين عن منظور. لاحظت أنّ ثمة عُقداً غريبة متشكّلة في المواضع التي تعرّضت فيها الغرفة للإجهاد الشديد وتشافت منها بصورة سيّئة. أخذت شقوق مخفيّة تشوّه الكرة، وهي تنفخ أحد التجاويف مثل فقاعة علكة نُفخت أكثر من اللازم.
ربّت ستامرز ذراعي: “إنه يتجاوب بشكل جيد، أليس كذلك يا سيّد تالبوت؟”، وضع يده على الجدار خلفنا. فتراجع إلى الخلف مثل معجون أسنان يغلي، ثم شكّل نوعاً من المقعد الذي جلس عليه ستامرز لتتمدّد مادة الحائط سريعاً بالتناغم مع خطوط جسده، مشكّلة مساند للظهر والذراعين، “تفضل بالجلوس يا سيّد تالبوت، اعتبر نفسك في بيتك”.
التفّ المقعد من حولي مثل يد بيضاء هائلة وسريعاً هدأت الجدران والسقف. بدا واضحاً أنّ من أولويات ستامرز دفع العملاء إلى الجلوس قبل أن تؤدّي حركتهم التي لا تهدأ إلى إحداث ضرر ما. لا بدّ من أن أحد القاطنين السابقين عذّب المنزل بمشيه المزعج ونقره بالأصابع على الأسطح.
قال ستامرز: “من الواضح أنّ كلّ شيء هنا مصمّم على الطلب، سلاسل الفنيل في البلاستكس صُنعت يدويّاً بالكامل”.
شعرت بالغرفة تموج من حولي. فتمدّد السقف وانكمش في اختلاجات ثابتة، في ردّ فعل عبثيّ مبالغ به على وقع تنفّسنا، لكنّ تلك التشنجات اعترضتها تشنّجات عرضية، توحي بأنه تجاوب ناجم عن اعتلال قلبي ما.
لم يكن المنزل مرعوباً منا فحسب، بل كان يعاني من مرض عضال. أحدهم، ربما يكون ديمتري شومان، المفعم بمشاعر كره الذات، ألحق أذى بالغاً في نفسه، وكان المنزل يستذكر ردة فعله السابقة على ذلك. كنت سأسأل ستامرز ما إذا شهدت تلك الغرفة حفلة الانتحار تلك حين جلس وأخذ ينظر حوله بقلق.
في الوقت نفسه بدأت أسمع طنيناً في أذنيّ. كان الضغط الجوّي داخل الغرفة يرتفع بصورة غامضة، وأخذ غبار قديم يحوم في الرواق نحو مدخل المنزل.
وقف ستامرز، فتراجع المقعد إلى الجدار.
“حسناً يا سيّد تالبوت، فلنتمشّ في الحديقة، إنها تعطيك شعوراً بـ..”.
صمت، ولاحت على وجهه علائم القلق. فقد أخذ السقف الذي يرتفع فوق رؤوسنا مسافة متر فحسب، ينكمش مثل مثانة بيضاء ضخمة.
“… الاسترخاء”، أنهى ستامرز جملته بصورة آلية، ممسكاً ذراعي، “لا أفهم هذا”، همهم ونحن نندفع في الرواق، والهواء يعصف بنا.
كانت لديّ فكرة عمّا حدث، ومثلما توقّعت وجدنا فاي تقف أمام لوح التحكّم، عابثة بمفاتيح الصوت.
دفعها ستامرز بقوّة بعيداً. كدنا نُسحب إلى غرفة المعيشة، بينما بدأ السقف العودة إلى وضعه السابق مما جعل الهواء يندفع عبر الباب. قام ستامرز من فوره بإطفاء المنزل باستخدام وحدة الطوارئ.
بعينين فاغرتين، زرّر قميصه، قائلاً: “كان ذلك وشيكاً يا سيّد تالبوت، وشيكاً للغاية”، وضحك ضحكة هستيرية قصيرة.
حين عدنا إلى السيارة، واستقرّت الكرات الضخمة بين الحشائش البرية، قال ستامرز: “حسناً يا سيّد تالبوت إنه منزل جيد. تاريخ رائع لمنزل عمره ثماني سنوات فحسب. تحدّ مثير، مثلما تعلم، بُعد جديد للعيش”.
قابلته بابتسامة واهنة: “ربما، لكنه لا يناسبنا نحن تماماً، أليس كذلك؟”.
كنا نعيش في “فرميليون ساندز” منذ سنتين، أسّست خلالهما مكتباً للمحاماة في وسط “ريد بيتش” على بعد ثلاثين كيلومتراً. بصرف النظر عن الغبار، والضباب الدخاني والأسعار الملتهبة في “ريد بيتش”، فقد كان لديّ دافع قوي للاستقرار في “فرميليون ساندز”، وهو العدد الكبير المحتمل من العملاء الذين يذوون هناك في البيوت القديمة؛ نجمات سينما منسيات، منتجون وحيدون وما شابه ذلك، بعض أكثر الناس ميلاً للنزاع في العالم. ما إن أستقرّ هناك، حتى أشرع في جولاتي بين طاولات البريدج وحفلات العشاء، مثيراً بحنكة مسألة القيام بتعديلات ضرورية على نزاعات الإرث وبنود خرق العقود.
غير أنه، خلال جولتنا في ستيلافيستا، تساءلت إن كنا سنجد أيّ مسكن مناسب. عبرنا مسرعين بمبنى يحاكي سقورة آشورية (المالك الأخير كان يعاني من مرض “رقاص سيدنهام” العصبي، والمنزل بأكمله لا يزال متشنّجاً مثل برج بيزا مصاب بشحنة كهربائية)، ثم مررنا بحظيرة تشبه غوّاصة مقلوبة (هنا كانت مشكلة الساكن السابق الإدمان على الكحول، وأحسسنا بالكآبة واليأس ينسلان من تلك الجدران المرتفعة الكئيبة).
أخيراً، استسلم ستامرز وعاد بنا إلى أرض الواقع. للأسف، لم تكن منازله التقليدية أفضل حالاً. المشكلة الوحيدة أنّ معظم “فرميليون ساندز” مكوّن من منازل سيكوتروبية قديمة أو بدائية فانتازية، تعود إلى الزمن الذي كان فيه البلاستيك الحيويّ يعبث بعقول المهندسين المعماريين. مرّت بضع سنوات قبل التوصل إلى حلّ وسط بين المنازل التفاعلية بالكامل وتلك الجامدة اللا تفاعلية التي تنتمي إلى الماضي. أولى البيوت الحيوية البلاستيكية احتوت على الكثير من خلايا الاستشعار، لتحاكي كلّ تحوّل في مزاج أو حركة قاطنيها، إلى درجة أنّ العيش في واحد من تلك البيوت كان أشبه بالسكن داخل دماغ شخص آخر.
لسوء الحظّ، فإنّ تلك البيوت تحتاج إلى الكثير من المران وإلا تتصلّب وتنهار، والكثير من الناس يعتقدون أنّ هذه الأبنية تُزوّد بذكريات خفية غير ضرورية مما يجعلها فائقة الحساسية – ثمة القصة المشكوك بصحّتها عن مليونير ينحدر من بليبان طُرد حرفياً من بيت اشتراه بمليون دولار من عائلة أرستقراطية. كان المكان مدرّباً على التفاعل مع فظاظة ساكنيه ومزاجهم السيء، فتفاعل بصورة متعارضة وهو يكيّف نفسه على المليونير، ودون قصد سخر من تهذيبه ونبرة صوته الناعمة.
بيد أنه، ورغم أنّ أصداء السكان السابقين يمكن أن تكون مزعجة، فإنّ لها ميزاتها أيضاً. فالكثير من البيوت الحيوية ذات الأسعار المعقولة، تتردّد فيها ضحكات العائلات السعيدة، أو التناغم السلميّ في الزيجات الناجحة. كان هذا أريده لي ولفاي. فخلال العام السابق بدأت علاقتنا تبهت بعض الشيء، ومنزل يتمتع بردود أفعال صحية وإيجابية – على سبيل المثال منزل مدير مصرف مزدهر وزوجته المخلصة – يمكن أن يكون له أثر إيجابي في سدّ الفجوة بيننا.
كنت أقلّب كتيّبات المنازل، حين وصلنا إلى نهاية ستيلافيستا، تبيّن لي أنّ مدراء المصارف المتمدّنين هم عملة نادرة في “فرميليون ساندز”. فالمنازل إما فارغة وإما مكتظّة بمدراء محطّات التلفزة التنفيذيين المصابين بالقرحة والمطلقين أربع مرّات.
كان المنزل رقم 99 في مجمّع ستيلافيستا ينتمي إلى الفئة الثانية. حين خرجنا من السيارة وعبرنا الممرّ القصير المؤدّي إلى البيت، بحثت عن معلومات عن السكان السابقين، لكنّ المعلومات كانت متوافرة فقط عن المالك الأصلي، وهي سيّدة تدعى إيما سلاك، ولم تتوافر معلومات عن حالتها النفسيّة.
كان من الجليّ أنه منزل امرأة. فشكله يحاكي أوركيدة ضخمة تمتدّ منها بتلتان من البلاستكس، ويقوم على منصّة منخفضة محاطة بشريط من الحصى الأزرق السماوي. ويضمّ جناحاه الأبيضان غرفة المعيشة وغرفة النوم الرئيسة على الجانب الآخر، وقد ترامت شرفة واسعة في الهواء الطلق حول حوض سباحة صغير على شكل قلب. أما مرافق البيت الأخرى فاشتملت على غرفة سائق ومطبخ فسيح مزدوج.
بدا البيت في حال جيدة. لم يكن من خدوش على سطح البلاستكس، وقد امتدّت خطوطه الرفيعة بسلاسة إلى الحواف مثل عروق ورقة شجر ضخمة.
بصورة غريبة، لم يكن ستامرز مستعجلاً لإضاءة مفتاح تشغيل البيت. أشار إلى اليسار واليمين خلال صعودنا السلّم الزجاجي إلى السطيحة، وعلّق على العديد من السمات الجاذبة، لكنه لم يبذل جهداً للعثور على لوح التحكّم، وشككت في أنّ البيت قد يكون هامداً؛ العديد من البيوت الحيويّة يتجمّد في هذه الوضعية أو تلك في نهاية حياته العملية، وتصبح بيوتاً ساكنة.
قلت معترفاً: “ليس سيئاً”، ونظرت إلى مياه حوض السباحة الزرقاء، في حين أخذ ستامرز يستخدم أفعل التفضيل بعد الآخر. انعكست على القاع الزجاجيّ للبركة السيارة المركونة بجوارها، فبدت حوتاً ملوّناً غافياً على ضفاف المحيط. قلت له: “هذا هو المطلوب فعلاً، لكن ماذا عن تشغيل البيت؟”.
التفّ ستامرز حولي واقترب من فاي، قائلاً: “سترغب في رؤية المطبخ أولاً يا سيّد تالبوت. ليس من عجلة، فلتألف البيت أولاً”.
كان المطبخ رائعاً، ومليئاً بوحدات التحكّم الأوتوماتيكية اللمّاعة. كان كلّ شيء مدمجاً ومنمّقاً ومتناغم الألوان، وكانت الأجهزة المعقّدة قابلة للطي داخل خزائن ذاتية الإقفال. سلق بيضة هناك قد يستغرق مني يومين.
علّقت بالقول: “يا له من بيت جميل”، أما فاي فأخذت تتحسّس بانتشاء الأسطح المعدنيّة اللماعة، وقالت: “سنتمكّن من إنتاج البنسلين هنا”.
ثم ربّت الكتيب، وسألت ستامرز: “لكنْ لماذا هو رخيص إلى هذا الحدّ؟ بسعر خمسة وعشرين ألفاً، يبدو أقرب إلى البيع بالمجان”.
لمعت عينا ستامرز. وقابلني بابتسامة تآمرية عريضة كأنّه يقول لي إنّ هذا العام هو عام سعدي، واليوم هو يومي الموعود. اصطحبني في جولة على حجرة اللعب والمكتبة، وراح ينهال عليّ بمزايا البيت، مثنياً على خطة شركته للدفع بالتقسيط الميسّر على خمسة وثلاثين عاماً (كانوا يريدون كلّ شيء إلا الدفع النقدي، فلا ربح يتأتّى من ذلك) وجمال الحديقة وبساطتها (تتكوّن غالباً من النباتات المعمّرة من البولي يوريثين المرن).
أخيراً، حين بدا مقتنعاً بأنني سأشتري البيت، قام بتشغيله.
لم أعرف في حينه ماهية ما شعرت به، لكنّ شيئاً غريباً ما حصل في ذلك البيت. لا بدّ من أنّ إيما سلاك كانت سيّدة ذات شخصية قوية معقّدة. جلت ببطء في أرجاء غرفة المعيشة الواسعة، فشعرت بجدرانها تبتعد، وأبوابها تتسع كلما اقتربت. كانت أصداء الذكريات تعتمل في أوصال البيت. ومع أنّ ردود أفعاله لم تكن محدّدة، إلا أنها انطوت على شيء من الغرابة والاضطراب، مثل شخص يراقبك باستمرار، وجعلت كلّ غرفة تعدّل نفسها مع خطواتي العشوائية، كأنّ هذه الأخيرة تتضمّن احتمال انفجار عاطفي أو مزاجيّ ما.
أملت رأسي، فشعرت أنني أسمع أصداء أخرى، رقيقة وأنثوية، حركة رشيقة تنساب في أحد الأركان، وتتكشّف عند فتح باب القبو أو خزانة في جدار. ثم فجأة، يتغيّر المزاج، ويستأنف الفراغ المخيف حضوره.
لمست فاي ذراعي: “هوارد! هذا غريب”.
“لكنه مثير للاهتمام. تذكّري أنّ انفعالاتنا نحن ستغطّي على هذه الانفعالات خلال أيام وجيزة”.
هزّت فاي رأسها: “لا أطيق هذا المكان يا هوارد. لا بدّ من أنّ السيّد ستامرز لديه مكان طبيعيّ”.
“عزيزتي، فرميليون ساندز هي فرميليون ساندز. لا تتوقّعي العثور على الأوضاع الاعتيادية التي تجدينها في الضواحي. سكان هذا المكان ذوو نزعات فردية”.
نظرت إلى فاي، وجهها البيضاوي الصغير، وفمها ووجنتاها، كلّ سماتها الطفولية جنباً إلى جنب غرّة شعرها الشقراء وأنفها الصغير، بدت مشتتة قلقة.
أحطت كتفيها بذراعي: “حسناً يا حبيبتي، أنت مصيبة تماماً. فلنعثر على مكان آخر يمكننا وضع أقدامنا فيه والاسترخاء. الآن ماذا سنقول لستامرز؟”.
فوجئت بردّة فعل ستامرز التي خلت من التفاجؤ. حين أومأت برأسي معلناً رفض البيت، أبدى احتجاجاً رمزياً، لكنه استسلم وأطفأ البيت.
قال خلال هبوطنا السلّم: “أفهم شعور السيّدة تالبوت، بعض هذه الأماكن فيها فائض من الشخصية. العيش مع شخص مثل غلوريا تريماين ليس بالأمر البسيط”.
توقّفت، قبل درجتين من أسفل السلّم، وقد رنّ الاسم في رأسي بصورة أليفة.
“غلوريا تريماين؟ ظننت أنّ المالكة الوحيدة كانت السيّدة إيما سلاك”.
“أجل، غلوريا تريماين. إيما سلاك هو اسمها الحقيقي. لا تقل لأحد أنني أخبرتك، وإن كان كلّ من يعيش هنا يعرف ذلك. نحتفظ بالأمر سرّاً قدر المستطاع. لو قلنا إنها غلوريا تريماين لما نظر أحد إلى المكان حتى”.
كرّرت فاي بذهول: “غلوريا تريماين، لقد كانت النجمة السينمائية التي قتلت زوجها، أليس كذلك؟ كان مهندساً معمارياً شهيراً، هوارد ألم تتولّ أنت هذه القضية؟”.
بينما واصلت فاي الكلام، استدرت ونظرت إلى السلّم باتجاه الشرفة المشمسة في الأعلى، وعادت بي الذاكرة عشر سنوات خلت إلى إحدى أشهر محاكمات العقد الماضي، والتي كان مسارها والحكم الذي نجم عنها، مثل كلّ شيء آخر، علامة على نهاية جيل، وأظهرا انعدام المسؤولية الذي كان العالم غارقاً فيه قبل الركود. على الرغم من تبرئة غلوريا تريماين، فالجميع كان متيقناً من أنها قتلت زوجها المعماري مايلز فاندن ستار، بدم بارد. وحدها مرافعة دانيال هاميت، محاميها الحذق اللسان، بمساعدة محام شاب يدعى هوارد تالبوت، هي التي أنقذتها.
أجبت فاي: “أجل، لقد ساعدت في الدفاع عنها. يبدو ذلك منذ زمن بعيد. انتظريني في السيارة حبيبتي. أريد التأكّد من أمر ما”.
قبل أن تتمكّن من مرافقتي، هرعت صاعداً السلّم إلى الشرفة وأقفلت الأبواب الزجاجية المزدوجة خلفي. كانت الجدران البيض، وقد حلّ عليها السكون التام، ترتفع نحو السماء من طرفي حوض السباحة الذي شكّلت مياهه الساكنة كتلة شفّافة من الزمن المكثّف، رأيت على سطحها خيالي فاي وستامرز في السيارة، مثل قطعة محنّطة من مستقبلي.
طوال أسابيع ثلاثة، خلال المحاكمة التي وقعت قبل عشر سنوات، كنت على بعد أمتار قليلة من غلوريا تريماين، ومثل جميع من حالفهم الحظّ للتواجد في قاعة المحكمة المزدحمة، لا أنسى قناعها الجليديّ، وعينيها الباردتين وهما تحدّقان بكلّ من الشهود خلال إدلائهم بشهاداتهم: السائق، والخبير الطبي، والجيران الذين سمعوا الأعيرة النارية. مثل عنكبوت محاط بضحاياه، لم تُظهر قطّ أدنى عاطفة. بينما يفكّكون نسيجها، طبقة بعد طبقة، جلست ببرود في وسط الشبكة، دون أن تمنح هاميت أيّ تشجيع، راضية في الركون إلى صورتها الذاتية (“الوجه الجليديّ”)، الذي عُرض أمام العالم بأسره خلال الخمسة عشر عاماً السابقة.
ربما هذا ما أنقذها في نهاية المطاف. لم يستطع المحلّفون تجاوز الصورة الغامضة. أما أنا فخلال الأسبوع الأخير من المحاكمة فقدت كلّ اهتمامي بها. بينما ساعدت هاميت في مرافعاته، فاتحاً ومقفلاً حقيبته الخشبية الحمراء (علامة تخص هاميت، وتعمل على تشويش انتباه المحلفين) كلما أشار إلى ذلك، انصبّ انتباهي كله على غلوريا تريماين، محاولاً أن أجد ثغرة ما أخترق القناع من خلالها إلى شخصيتها. أفترض أنني كنت شاباً أغرّ ساذجاً آخر وقع في غرام الأسطورة التي صنعها آلاف وكلاء الإعلانات، ولكنْ بالنسبة إليّ فقد اختلط هذا الشعور بالواقع، وحين بُرّئت من الجريمة عاود العالم دورانه.
لم يعنِ تضليل العدالة شيئاً. هاميت، بصورة غريبة، آمن ببراءتها. فهو، مثل الكثير من المحامين الناجحين، أسّس حياته المهنية على مبدأ إدانة المذنب والدفاع عن البريء، وبهذه الطريقة كان متأكّداً أنّ نسبة كبيرة من النجاح ستمنحه سمعة أنه محام لامع لا يهزم. حين دافع عن غلوريا تريماين ظنّ معظم المحامين أنه تخلّى عن مبادئه برشوة كبيرة من شركة الإنتاج السينمائي التي تعمل لصالحها، لكنه في الواقع تطوّع لتولي القضية. ربما هو الآخر تولّى القضية انطلاقاً من عاطفة خفية نحوها.
بالطبع، لم أرها بعد ذلك. ما إن عُرض فيلمها التالي، حتى تخلّت عنها شركة الإنتاج. لتظهر مجدّداً بعد ذلك لفترة وجيزة بتهمة حيازة المخدّرات بعد حادث سير، ثم طواها النسيان بين مشافي الإدمان على الكحول والعيادات النفسيّة. حين توفّيت بعد ذلك بخمس سنوات، قليل من الصحف أفرد أكثر من سطرين لخبر وفاتها.
في الأسفل، أطلق ستامرز بوق السيارة. عدت ببطء عبر غرفة المعيشة وغرف النوم، ملقياً نظرة على الأرضيات الفارغة، متلمّساً الجدران الناعمة، مسروراً بتحسّس شخصية غلوريا تريماين من جديد. بصورة مباركة، حضورها يملأ البيت، ألف صدى منها يقطن كلّ خلية من خلايا البيت، وكلّ لحظة مشحونة عاطفياً في انعكاس أكثر حميميّة من أن يعرفها أيّ شخص باستثناء زوجها الميت. غلوريا تريماين التي أُغرمت بها لم تعد موجودة، لكنّ هذا البيت هو المعبد المختومة جدرانه بختم روحها.
في البداية مضى كلّ شيء على ما يرام. اعترضت فاي، لكنّني وعدتها بمعطف من فرو المينك مما وفّرناه من شراء هذا البيت. حرصت بعد ذلك على إبقاء الصوت منخفضاً خلال الأسابيع القليلة الأولى، بحيث لا ينشب صراع بين الإرادتين النسويتين. فإحدى أكبر مشكلات البيوت السيكوتروبية هو أنه بعد بضعة أشهر على المرء أن يرفع مستوى الصوت لكي يحتفظ بصورة المالك السابق، وهذا يزيد حساسية خلايا الذاكرة ويرفع معدّل تلوثها. في الوقت نفسه، فإنّ توسيع القاعدة النفسيّة الكامنة يُبرز الأساس العاطفيّ الأصليّ. فيبدأ المرء في تذوّق الرواسب بدلاً من أفضل ما في الساكن السابق. أردت تذوّق غلوريا تريماين لأطول فترة ممكنة لذا فإنني قنّنت الأمر قدر الإمكان، مُخفضاً مستوى الصوت خلال النهار، حين أكون في الخارج، ثم أرفعه فقط حيث أكون جالساً في الأماسي.
أهملت فاي منذ البداية. ليس فقط بسبب انهماكنا بمشكلات التأقلم الاعتيادية التي يواجهها كلّ زوجين ينتقلان إلى بيت جديد – التعرّي في غرفة النوم الرئيسة في الليلة الأولى بدا أشبه بشهر عسل جديد، لكنني كنت منغمساً كلياً في شخصية غلوريا البهيّة، مستكشفاً كلّ كوّة وثقب بحثاً عنها.
في المساء، صرت أجلس في المكتبة، مستشعراً وجودها حولي على الجدران المتحرّكة، شاعراً بها على مقربة مني وأنا أفرغ الصناديق وكأنّها قرين شبق. مرتشفاً من كأس الويسكي بينما يرخي الليل سدوله فوق الحوض الأزرق المعتم، رحت أحلّل بعناية شخصيتها، متعمّداً تنويع أمزجتي لكي أستثير نطاقاً واسعاً من ردود الأفعال. كانت خلايا الذاكرة في البيت شديدة الترابط، لا تكشف أيّ عيوب في شخصية غلوريا، فهي دوماً هادئة مسيطرة على ذاتها. لو قفزت من سرير وبدّلت الأسطوانة فجأة من سترافينسكي إلى ستان كينتون أو رباعيّ الجاز المعاصر، فالغرفة تعدّل مزاجها وإيقاعها على الفور.
ومع ذلك، كم مضى من الوقت قبل أن أكتشف وجود شخصية أخرى في البيت، وأشعر بالهالة المخيفة التي شعرت بها وفاي حين وضع ستامرز البيت في وضعية التشغيل؟ عدّة أسابيع بكلّ تأكيد، حين كان البيت ما زال يتجاوب مع سطوة النجومية عليّ. طالما كان إخلاصي لروح الراحلة غلوريا تريماين هو المزاج المسيطر، فإنّ البيت يضبط نفسه بالتوافق مع ذلك، مكرّراً فقط النواحي الهادئة من شخصية غلوريا تريماين.
إلا أنّه سرعان ما بدأت المرآة تُظلم.
كانت فاي هي من كسرت السحر. لاحظت بسرعة أنّ ردود الفعل الأولى تعلوها أخرى، أكثر شجواً، من الماضي، ومن وجهة نظرها، كانت ردود الفعل تلك أخطر أيضاً. بعد بذل قصارى جهدها لتقبّلها، قامت ببضع محاولات حذرة لكي تخرج غلوريا، رافعة ومخفضة مستوى الصوت في ألواح التحكّم، متخيّرة الحد الأقصى، الذي يولّد ردود الفعل الذكورية، ومستبعدة الحدّ الأدنى.
ذات صباح، وجدتها جاثية بجوار لوح التحكّم، وكانت تغرز مفكّاً في وحدة الذاكرة، في محاولة جليّة لمحو كلّ شيء.
انتزعت المفكّ منها، وأقفلت اللوح ووضعت المفتاح في سلسلتي.
“عزيزتي، شركة الرهن العقاري قد تقاضينا لتدمير هذه الذكريات. فمن دونها لا قيمة للبيت، ما الذي تحاولين فعله؟”.
نفضت فاي الغبار عن يديها وتنورتها وأخذت تحدّق بعينيّ باستياء واضح.
“أحاول استعادة بعض العقل هنا وإن أمكن العثور على زواجي من جديد. ظننت أنه قد يكون في مكان ما هنا”.
أحطتها بذراعي وأعدتها إلى المطبخ، قائلاً: “حبيبتي، إنك تفرطين في الحساسية من جديد. استرخي فحسب، لا تحاولي تخريب كلّ شيء”.
“تخريب؟ هوارد ما الذي تقوله؟ ألا حقّ لي في زوجي؟ لقد سئمت مشاركته مع ذهانية انتحارية توفيت قبل خمس سنوات. هذا شنيع دون نقاش”.
أجفلت لذكرها ذلك، مستشعراً الجدران في الرواق تعتم وتتراجع بصورة دفاعية. صار الهواء ضبابياً محموماً مثل يوم كئيب مليء بالعواصف.
“فاي، أنت تعرفين ميلك إلى المبالغة…”، نظرت حولي في المطبخ، وتشتّت انتباهي لهنيهة بينما تراجعت الجدران إلى الخلف، “أنت لا تعرفين كم أنك محظوظة..”.
قاطعتني قبل أن أكمل كلامي، وفي غضون ثوانٍ كنّا في خضمّ شجار عنيف. رمت فاي كلّ اتزانها في مهبّ الريح، متعمّدة على ما أظنّ، في أمل إلحاق ضرر نهائيّ بالبيت، بينما وبغباء سمحت لنفسي بصبّ وابل من الغضب اللا واعي تجاهها. أخيراً انزوت في غرفة نومها وذهبت أنا إلى غرفة المعيشة المضطربة، وأغفوت بغضب على الأريكة.
أخذ السقف يتلوّى ويرتعش، وتخضّل لونه، هنا وهناك، بلون الشرايين الغاضبة التي جعلت الجدران تتراكب فوق بعضها البعض. ارتفع ضغط الهواء لكنني كنت متعباً للغاية فلم أفتح النافذة، وجلست أغلي داخل قِدر من الغضب الأسود.
لا بدّ من أنني في ذلك الحين لاحظت حضور مايلز فاندن ستار. تلاشت جميع أصداء شخصية غلوريا تريماين، وللمرّة الأولى منذ الانتقال إلى البيت استعدت منظوري الطبيعيّ للأمور. استمرّ مزاج الغضب والاستياء في غرفة المعيشة، لفترة أطول بكثير مما توقعت. واصلت الجدران النبض والالتواء أكثر من نصف ساعة، بعد وقت طويل من استعادتي هدوئي، عندما جلست أنظر إلى الغرفة بذهن صاف.
كان الغضب ذكورياً وعميقاً بشكل جليّ. افترضت، مصيباً، أنّ المصدر الأصليّ هو فاندن ستار الذي صمّم البيت لغلوريا تريماين وعاش فيه أكثر من عام قبل موته. أن تكون ذاكرة البيت قد تحرّكت على هذا النحو، فهذا يعني أنّ هذا الجوّ من العدوانية الذهانية العمياء كان قائماً معظم الوقت.
مع تلاشي الحنق ببطء، تبيّن لي أنّ فاي نجحت مؤقّتاً في تحقيق غرضها. فاختفت شخصية غلوريا تريماين الساكنة، وإن ظلّت المسحة الأنثوية قائمة وإنما في مستوى أعلى وأصخب، لكنّ الحضور الطاغي كان لفاندن ستار. وذكّرني هذا المزاج الجديد في البيت بصوره الفوتوغرافية التي عُرضت في قاعة المحكمة؛ ومنها صوره في الخمسينيات مع لو كوربوزييه ولويد رايت، أو خلال مطاردة مشروع سكني في شيكاغو أو طوكيو مثل ديكتاتور صغير، بفكّ عريض، وحنجرة كبيرة، وعينين واسعتين لامعتين، ثم هناك صورة له حملت عنوان “فرميليون ساندز: 1970″، تناسب مستعمرة السينما مثل حوت في حوض أسماك ذهبية.
إلا أنه كان ثمة قوّة وراء تلك الدوافع المهلكة. إذ استدعاه شجارنا، فإنّ حضور فاندن ستار هبط فوق 99 ستيلافيستا مثل غيمة عاصفة. حاولت في البداية استعادة المزاج المثاليّ السابق، لكنه كان قد اختفى ولم يزد استيائي من جرّاء ذلك الأمر إلا سوءاً. إحدى سيئات البيوت السيكوتروبية هو الأصداء المتكرّرة؛ فالشخصيات المتعارضة سرعان ما تستقر علاقتها، ويتجه الصدى بصورة حتمية إلى المصدر الجديد. أما حينما تكون الشخصيات متماثلة في ذبذباتها وحجمها، فإنها تفرض نفسها بصورة متبادلة، ويتكيّف كلّ منها مع راحة شخصية الآخر. سرعان ما بدأت أتخذ شخصية فاندن ستار، وغضبي المتزايد من فاي، أخذ من البيت واجهة عدوانية أشدّ.
علمت لاحقاً أنني كنت في حقيقة الأمر، أعامل فاي بالطريقة نفسها التي عامل بها فاندن ستار غلوريا تريماين، مقتفياً آثار مأساتهما بعواقب كارثيّة مثلها.
لاحظت فاي تغيّر مزاج البيت فوراً، فسألتني بتهكّم خلال تناول العشاء مساء اليوم التالي: “ماذا حصل لضيفتنا؟ يبدو أن شبحنا الرائع يزدريك. هل الروح غير مستعدّة مع أنّ الجسد مطواع؟”.
صرخت بعنف: “الله أعلم، أظنّ أنك خرّبت البيت”.
نظرت حولي بحثاً عن أيّ صدى لغلوريا تريماين، لكنها كانت قد رحلت. ذهبت فاي إلى المطبخ وجلست أحملق بشرود بطبقي نصف المأكول، حين شعرت بذبذبة مفاجئة في الجدار خلفي، سهم فضيّ سريع اختفى بمجرّد أن نظرت نحوه. حاولت استعادته بالتركيز دون أن أصيب نجاحاً، كان ذلك الصدى الأوّل لغلوريا منذ شجارنا، لكنْ لاحقاً ذلك المساء، حين ذهبت إلى غرفة نوم فاي، سمعتها تبكي، ولاحظت الأمر ثانية.
كانت فاي ذهبت إلى الحمام. وكنت بصدد العثور عليها، حين أحسست الصدى نفسه لعذاب المرأة الأنثوي، وقد أيقظته دموع فاي، لكنْ مثلما أنّ غضبي هو الذي حرّك مزاج فاندن ستار السيء، فإنّ معاناة المرأة تواصلت بعد أن هدأت مشاعر فاي. تبعت أثره إلى الرواق حين تلاشى من الغرفة لكنه انتشر نحو السقف ولبث هناك دون حراك.
اتجهت إلى غرفة المعيشة، وقد أدركت أنّ البيت يراقبني مثل حيوان جريح.
بعد يومين وقع الهجوم على فاي.
كنت قد عدت إلى البيت من المكتب، منزعجاً بصورة صبيانية من فاي لركنها السيارة في الحيّز المخصّص لسيارتي في المرأب. في الردهة، حاولت قمع هذا الغضب، لكنّ الخلايا الحسّية للمنزل كانت قد قد استجابت بالفعل مع الإغراء وبدأت تتغذّى على الكراهية والاستفزاز، وتعيد حقنهما في الهواء حتى أظلمت جدران الردهة.
ألقيت بعض الشتائم غير المبرّرة على فاي التي كانت في غرفة المعيشة، لأسمعها تصرخ بعد قليل: “هوارد! تعال بسرعة!”.
جريت نحوها، واندفعت نحو الباب متوقّعاً أن يُفتح تلقائياً. لكنه ظلّ صلباً ثابتاً في إطاره. صار البيت برمّته رمادي اللون مضطرباً، وفي الخارج تحوّلت بركة السباحة حوضاً من الرصاص البارد.
صرخت فاي من جديد. أمسكت المقبض الحديديّ اليدويّ وفتحت الباب.
كانت فاي غير ظاهرة تقريباً، على إحدى الأرائك وسط الغرفة، مدفونة تحت السقف الذي انهار فوقها، وقد شكّل البلاستيكس كرة قطرها نحو متر فوق رأسها.
تمكّنت من رفع البلاستيكس الرخو عن فاي التي غاصت في الأريكة ولم يعد يبرز منها سوى قدميها. تلوّت خارجة وأحاطتني بذراعيها، وهي تنشج دون صوت.
“هوارد هذا البيت مجنون، أظنّ أنه يحاول قتلي!”.
“بحقّ الربّ يا فاي، لا تكوني سخيفة، لقد كان تراكماً غريباً فحسب لخلايا الاستشعار. لعلّ تنفسك هو الذي أطلق ردّة الفعل هذه”. ربّت كتفيها، متذكّراً الطفلة التي تزوّجتها قبل بضع سنوات. مبتسماً لنفسي، رأيت السقف يعود إلى وضعه السابق، وجلبة الجدران تغدو أخفّ.
“هوارد ألا يمكننا مغادرة هذا المكان؟ فلنذهب ونعش في منزل ساكن. أعرف أنه مملّ، ولكنْ ما يهم..؟”.
أجبت: “حسناً، ليس أنه مملّ فحسب، بل ميت. لا تقلقي يا ملاكي، ستتعلمين أن تحبّي هذا البيت”.
انتفضت فاي مبتعدة عني: “هوارد لا يمكنني البقاء أكثر من ذلك في هذا البيت. لقد كنتَ شديد الانشغال في الفترة الأخيرة، لقد تغيرت تماماً”، أخذت تبكي من جديد وأشارت إلى السقف، قائلة: “لو لم أكن ممدّدة هنا، أتلاحظ أنه كان سيقتلني؟”.
نفضت الغبار عن طرف الكنبة: “أجل أرى العلامات على قدمك”، بدأ الاستياء يتفاقم في داخلي قبل أن أتمكّن من وقفه، فقلت: “ظننتُ أنني قلت لك ألا تتمدّدي هنا. هذا ليس شاطئاً يا فاي، تعرفين أنه يزعجني”. بدأت الجدران من حولنا تغيم ويتغيّر لونها.
لماذا تغضبني فاي بهذه السهولة؟ أيكون السبب مثلما افترضت في حينه، أي الغضب اللا شعوري الذي يعتمل في داخلي، أم أنني كنت أداة للعدوانية التي تراكمت في زواج فاندن ستار من غلوريا تريماين التعس، وها هي تلك العدوانية تعبّر عن نفسها في وجه التعسين اللذين لحقاهما إلى 99 ستيلافيستا؟ ربما كنت حسن النية أكثر من اللزوم تجاه نفسي بحيث افترضت الاحتمال الثاني، لكنني وفاي كنا سعيدين إلى حدّ معقول خلال سنوات زواجنا الخمس، وأنا واثق من أنّ افتتاني بغلوريا تريماين الذي كان منشؤه الحنين ما كان ليهزّ الأرض من تحتي بهذه الشاكلة.
على أيّ حال، لم تنتظر فاي محاولة ثانية. بعدها بيومين عدت إلى البيت لأجد شريطاً جديداً في مذياع المطبخ. شغّلت الجهاز وسمعتها تقول إنها ما عادت قادرة على العيش معي ولا في 99 ستيلافيستا وإنها عائدة شرقاً للعيش مع شقيقتها.
إلا أنّ شعوري الأول، بعد الاستياء المبدئيّ، كان الراحة الصرفة. كنت ما زلت أعتقد أنّ فاي هي المسؤولة عن اختفاء غلوريا تريماين وظهور فاندن ستار، وأنّ رحيلها سوف يعيد الأيام الأولى من الرومانسية والشاعرية.
كنت مصيباً جزئياً فحسب. غلوريا تريماين عادت بالفعل، إنما ليس في الدور الذي توقّعته. كنت من ساعد على الدفاع عنها في محاكمتها، وبالتالي كان يجب أن أعرف أفضل من ذلك.
بعد أيام قليلة من رحيل فاي، أدركت أنّ البيت اتخذ وجوداً منفصلاً، وصارت ذكرياته السرّية تفصح عن نفسها باستقلالية عن تصرّفاتي. غالباً حين أعود إلى البيت في المساء، توّاقاً للاسترخاء خلال ارتشاف نصف كأس من الويسكي، أجد شبحي مايلز فاندن ستار وغلوريا تريماين حرّين طليقين. شخصية ستار السوداء المخيفة تكثّف حضورها بعد حضور زوجته الواهن إنما المثابر. تلك المثابرة كانت سيفاً ذا ذي حدين ويمكن ملاحظتها حرفياً، إذ تتصلّب جدران غرفة المعيشة وتُعتم في دوامة من الغضب التي تتركّز في منطقة صغيرة من الظلمة في أحد التجاويف، وكأنّها تخفي حضورها، إنما في اللحظة الأخيرة تختفي شخصية غلوريا سريعاً، تاركة الغرفة تغلي وتتلوّى.
كانت فاي قد فجّرت روح المقاومة هذه، وتخيّلت غلوريا تريماين تمرّ بفترة مشابهة من الجحيم الحيّ. مع عودة ظهور شخصيتها في دورها الجديد، راقبتها بعناية، رافعاً مستوى الصوت إلى أعلى درجة رغم الضرر الذي قد يلحق بالبيت نفسه. مرّة مرّ ستامرز وعرض عليّ فحص الدارات الكهربائية. كان قد رأى المنزل من الطريق، يتلوّى ويبدّل لونه مثل حبّار يتعذب. شكرته واختلقت عذراً ما ورفضت عرضه. لاحقاً أخبرني أنني طردته بصورة غير مباشرة؛ من الجليّ أنه بالكاد تعرّفني؛ كنت أذرع المكان المنتفض المظلم مثل مجنون في تراجيديا رعب من العصر الإليزابيثي، غافلاً عن كلّ ما حولي.
على الرغم من أنّ شخصية مايلز فاندن ستار كانت تسيطر عليّ، فقد أدركت تدريجياً، أنه هو من أفقد غلوريا تريماين صوابها. ما الذي حرّض على عدوانيته التي لا تستكين، لا يمكنني سوى تخمين أنه ربما كان يكره نجاحها، أو ربما كانت تخونه. حين ردّت أخيراً وأردته قتيلاً، فلا بدّ من أنه كان دفاعاً عن النفس.
بعد شهرين من رحيل فاي شرقاً، طلبت الطلاق. اتصلت بها وقد جنّ جنوني، وقلت لها إنني سأكون ممتناً إن أجّلت ذلك، إذ أنّ الدعاية التي ستنتج عن ذلك سوف تقتل مكتبي الجديد. لكنّ فاي تمسّكت بموقفها. وأكثر ما أزعجني أنها بدت أفضل مما كانت عليه منذ سنوات، كانت سعيدة بالفعل ثانية. حين ناشدتها قالت إنها تحتاج الطلاق حتى تعاود الزواج، ثم، كقشة قصمت ظهر البعير، رفضت أن تخبرني بهوية الرجل.
حين وضعت سمّاعة الهاتف من يدي غاضباً، كانت أعصابي تشتعل مثل مسبار يتجه نحو القمر. غادرت المكتب باكراً وبدأت أطوف الحانات في “ريد بيتش”، ثم عدت ببطء إلى “فرميليون ساندز”. وصلت إلى “99 ستيلافيستا” مثل كتيبة من شخص واحد، محطّماً بالسيارة معظم زهور الماغنوليا في الممرّ المؤدّي إلى البيت، ثم مندفعاً إلى المرأب بعد تحطيم البوابتين الآليتين.
علقت مفاتيحي في قفل الباب واضطررت أخيراً إلى تحطيم أحد الألواح الزجاجية. صعدت إلى الطابق الأوّل وخرجت إلى السطيحة المعتمة، رميت قبعتي ومعطفي في حوض السباحة ثم ارتميت في غرفة المعيشة. بحلول الساعة الثانية، بينما سكبت لنفسي كأساً ووضعت آخر فصل من دراما “غروب الآلهة” [1] في الستيريو، كان المكان بأسره يتحمّى.
في طريقي إلى النوم دخلت مترنّحاً غرفة فاي لأرى أيّ ضرر يمكنني أن أحدثه بما بقي من ذكراها، فركلت خزانة الملابس ورميت المرتبة أرضاً، وحوّلت الجدران إلى اللون الأزرق بوابل من الشتائم.
بعد الثالثة بقليل غفوت، والبيت يدور حولي مثل طاولة دوّارة ضخمة.
لا بدّ من أنها كانت الرابعة فجراً حين أفقت، مدركاً الصمت المريب الذي يلفّ الغرفة المظلمة. كنت مرتمياً على السرير، وإحدى يديّ حول زجاجة الويسكي، والأخرى تحمل عقب سيجارة منطفئ.
كانت الجدران ساكنة، لا تحرّكها حتى الدوّامات المترسّبة التي تعصف في البيت السيكوتروبي حين يكون سكانه نائمين.
تغيّر شيء ما في منظور الغرفة. حاولت التركيز على السقف الرمادي، وأصخت السمع لخطوات أقدام في الخارج. بدأت جدران الرواق تنكمش. والمدخل، وهو عادة بعرض ستّ بوصات، اتّسع لكي يدخل أحدهم. لم يدخل أحد، لكنّ الغرفة تمدّدت لكي تتّسع لحضور إضافي، وارتفع السقف إلى الأعلى. وسط ذهولي، حاولت ألا أحرّك رأسي، ورحت أراقب منطقة الضغط الشاغرة، وهي تزحف بسرعة إلى داخل الحجرة نحو السرير، في حركة تظللها قبّة صغيرة في السقف.
توقّفت منطقة الضغط على حافة السرير وتريّثت لبضع ثوان. لكنْ بدلاً من أن تستقرّ الجدران، فقد أخذت ترتعش بسرعة، محدثة على سطحها انتفاخات غريبة، مشعّة بإحساس من التردّد والإلحاح الدقيق.
ثم، فجأة، سكنت الغرفة. بعدها بهنيهة، حين نهضت مستنداً إلى مرفقي، تشنّجت الغرفة بعنف، وانبعجت الجدران متسبّبة بارتفاع السرير عن الأرض. أخذ البيت بأكمله يهتزّ ويتلوّى. وفي خضمّ هذه النوبة، انكمشت غرفة النوم وتمدّدت مثل قلب يحتضر، وأخذ السقف يرتفع وينخفض.
ثبّت نفسي على السرير المتمايل وتدريجياً توقّف الانكماش، وعادت الجدران إلى وضعها السابق. نهضت وأنا أتساءل أيّ أزمة جنونية استنسخها هذا البيت السيكوتروبي الجنوني.
كانت الغرفة غارقة في الظلام، وشعاع القمر يتسلل عبر فتحات التهوئة الصغيرة خلف السرير. وكانت هذه تنقبض بينما الجدران تنغلق على بعضها. ضغطت بيدي على السقف، فأحسست به يضغط بقوة إلى الأسفل. كانت حواف الأرضية تندمج مع الجدران بينما الغرفة تحوّل نفسها كرة.
تراكم ضغط الهواء. هرعت إلى فتحات التهوئة، ووصلت إليها فأحكمت إغلاق نفسها حول قبضتي يديّ، وأخذ الهواء يصفر عبر أصابعي. ألصقت وجهي بالفتحات، واستنشقت الهواء الليليّ البارد محاولاً تحرير يديّ.
كان لوح التحكّم الخاص بالطوارئ لإطفاء البيت، يقع فوق الباب في الطرف المقابل من الغرفة. فهرعت نحوه، وكافحت لتسلّق السرير المائل، لكنّ البلاستيكس المتدفّق كان قد غمر اللوح برمّته.
أخفضت رأسي لئلا أرتطم بالسقف، ثم خلعت ربطة عنقي، وأنا ألهث في الهواء النابض. وجدت نفسي أختنق في حين استنسخت الغرفة الأنفاس الأخيرة لفاندن ستار بعد تعرّضه لإطلاق النار. كان التشنّج الهائل ردةّ فعله على رصاصة غلوريا تريماين التي اخترقت صدره.
بحثت في جيبي عن سكين، فوجدت ولاعة السجائر، أخرجتها وأشعلتها. كانت الغرفة الآن كرة رمادية قطرها ثلاثة أمتار، وعلى سطح جدرانها برزت عروق غليظة بعرض ذراعي، محطّمة هيكل السرير.
رفعت الولاعة إلى سطح السقف، وتركتها تشتعل على الفلوغلاس المعتم. فوراً بدأ السقف يئزّ ويحتدم. اشتعلت فيه النيران وانشقت إلى شفتين ملتهبتين تفرقتا في وميض من الحرارة المضيئة.
حين انشطرت الغرفة كالشرنقة، رأيت مدخل الرواق الملتوي يتجه نحو الغرفة تحت الخطوط الخارجية المظلمة لسقف غرفة الطعام. بقدمين مرتعشتين تحت البلاستيكس المنصهر، اندفعت نحو الرواق. بدا أنّ البيت كله قد تصدّع. فانبعجت الجدران، والتفّت الأرضيات على حوافها، وانسكبت المياه من حواف حوض السباحة أما الألواح الزجاجية للسلّم فقد تمزّقت، وانبثقت أسنان تشبه الشفرات من الجدار.
هرعت إلى غرفة فاي، وعثرت على مفتاح الإطفاء وضغطت عليه.
ظلّ المنزل ينبض لكنْ بعدها بدقيقة انغلق وصار ساكناً. استندت إلى الجدار المنبعج وتركت الماء يسقط على وجهي من رشّاش السقف.
من حولي، بجناحين ممزّقين غارقين في الفوضى، انكمش البيت إلى الداخل مثل زهرة معذّبة.
وقف ستامرز بين مشاتل الزهور المسحوقة، وجعل ينظر إلى البيت وقد لاح على وجهه الذعر الممزوج بالحيرة. كان الوقت قد تجاوز السادسة، وقد غادرت آخر سيارة من سيارات الشرطة الثلاث، وأعلن الملازم المسؤول الهزيمة أخيراً قائلاً: “اللعنة، لا أستطيع اعتقال بيت بتهمة الشروع في القتل، أليس كذلك؟”. ضحكت بقوّة من سؤاله، ومشاعر الصدمة الأوّلية لدي حلّ محلها إحساس شبه هستيريّ بالطرافة.
لم يستطع ستامرز بدوره فهم ردّة فعلي.
سألني بصوت يغلب عليه الهمس: “ماذا كنت تفعل في الداخل؟”.
“لا شيء. قلت لك إنني غفوت سريعاً. لا عليك، البيت لا يمكنه سماعك. لقد أطفأته”.
سرنا على الحصى وخضنا في الماء الذي امتدّ مثل مرآة سوداء. أخذ ستامرز يهزّ رأسه، قائلاً: “لا بدّ من أنّ المكان أصيب بنوبة جنون. لو سألتني رأيي فإنه يحتاج إلى طبيب نفسي”.
قلت له: “معك حق، في الواقع كان ذلك دوري تماماً، أن أعيد تشكيل الصدمة الأصلية وأطلق مكبوتات البيت”.
“لمَ تمزح حيال الأمر؟ لقد حاول قتلك”.
“لا تكن عبثياً. المتهم الحقيقي هو فاندن ستار. لكنْ مثلما ألمح الملازم، لا يمكنك اعتقال رجل ميت منذ عشر سنوات. لقد كانت الذكرى المكبوتة لموته هي التي حاولت قتلي. حتى لو أنّ غلوريا اندفعت للضغط على الزناد، فإنّ ستار هو من صوّب المسدّس. صدّقني، لقد عشت دوره لشهرين. ما يقلقني هو أنه لو لم تتمتّع فاي برجاحة العقل وتهجرني لكنت نوّمت مغناطيسياً بشخصية غلوريا تريماين حتى تقتلني”.
وسط ذهول ستامرز، أزمعت البقاء في 99 ستيلافيستا. ناهيك عن أنني لا أملك ما يكفي من المال لشراء بيت آخر، فالمكان فيه ذكريات لم أرد نسيانها. كانت غلوريا تريماين ما زالت هناك وأنا واثق من أنّ فاندن ستار رحل أخيراً. المطبخ ووحدات الخدمة ظلّت تعمل، وبصرف النظر عن أشكالها المشوّهة فإنّ معظم الغرف ظلّت قابلة للسكن فيها. علاوة على ذلك، كنت بحاجة إلى الراحة، وليس من شيء أهدأ من بيت ساكن.
بالطبع، في الوضع الحالي، بالكاد يمكن اعتبار 99 ستيلافيستا مسكناً نموذجياً. مع ذلك، فإنّ الغرف المشوّهة والممرّات المنبعجة فيها من قوّة الشخصية بقدر ما في أيّ منزل سيكوتروبي. لوح التحكّم ما زال يعمل وذات يوم سأشغّل البيت ثانية. لكنّ ثمة أمراً واحداً يقلقني. تلك النوبات العنيفة التي مزّقت المنزل قد تكون ألحقت ضرراً ما بشخصية غلوريا تريماين. أن أعيش معها قد يكون جنوناً من طرفي، لكنّ ثمة سحراً خفياً في البيت حتى في شكله المشوّه، مثل الابتسامة الغامضة على وجه تلك الحسناء المجنونة.
غالباً ما أفتح لوح التحكّم وأفحص وحدة الذاكرة. شخصيتها، أياً تكن، موجودة هناك، وسيكون محوها أمراً في غاية السهولة. لكنني لم أستطع.
ذات يوم قريب، وأياً تكن العاقبة، أعرف أنني سأعيد تشغيل البيت من جديد.
1962