أحلام وردية وأوهام فاوستية
حينما نتناول ظاهرة أنتجتها البني السوسيو-التاريخية بتظافر مع البني الثقافية والاجتماعية، فإن الواقع سيكون أصدق إنباء من الكتب. ولا أنكر أن تناول هذه الظاهرة لا يخلو من تشعبات وتعقيدات، إن لم نقل مآزق فكثيرا ما استبد بي اليأس وأنا أجول في شعاب هذا الموضوع: لقد كانت ظاهرة الدواعش ” قضية درايفوس″ في تونس بعد الثورة، إذ تحدثت الأرقام والإحصائيات عن أعداد مهولة من الشبان التونسيين الذين التحقوا ببؤر التوتر لنصرة الدولة الإسلامية تحركهم في ذلك أحلام وردية وأوهام فاوستية.
هذا كله جعل تونس تقريبا في مقدمة الدول العربية التي أمدت داعش برأس مال بشري لا بأس به. فلا ضير إذن أن يثير ذلك تساؤلات واشكاليات ما انفكت تملأ الأنفس حيرة والعقول أرقا. فانكبّ بذلك علماء الاجتماع على دراسة هذه الظاهرة ولكن بدون العودة إلى فهم الواقع التونسي تاريخيا أي بمساءلة التاريخ التونسي. في هذا الإطار لا بد من الاعتماد على مقاربة سوسيو-تاريخية يعود فيها المؤرخ إلى غياهب التاريخ ليكتشف البنى المستترة التي تعمل وفق نظام هادئ لكنه صارم؛ ذلك هو تاريخ الذهنيات. فهل هو كفيل بأن يجعلنا نفهم هذه الظاهرة. إذ كيف لبلاد مسالمة عبر التاريخ أن تنتج هذا الكم الهائل من الأفكار المتطرفة؟ كيف يمكن لتونسي عاش في بلاد متحررة فكريا أن يكون بهذا الانغلاق والتعصب؟ هذا هو ما سنحاول الإجابة عنه.
العودة إلى الجذور أو “الحفر في قاع الخابية”
لا تخلو مساءلة التاريخ من متعة إذ تجد نفسك تهوي بفكرك نحو عصور سحيقة ضاربة في القدم فتكتشف بذلك التونسي الفينيقي والتونسي القرطاجي والتونسي البونيقي، فكأنك تحفر حقا في واقع أبعد غورا وأعمق جذورا. هذا الحفر في قاع الخابية يمكننا من فهم التونسي العتيق الذي لا يزال حاضرا في مخيال التونسي الفيسبوكي ابن القرن الحادي والعشرين.
تستوقفنا في العهد القرطاجي ظاهرة خطيرة تندرج ضمن الخصائص الدينية لقرطاج البونية: ألا وهي ظاهرة القرابين البشرية، فهذه الظاهرة السامية (ظهرت في بلاد كنعان وفينيقيا القديمة) أثبتت النصوص التاريخية والنقائش وجودها عند القرطاجيين على الرغم من الجدل المحتدم الذي لا يزال قائما إلى اليوم بخصوص إثبات وجودها أو نفيه. وعلى كل فإن حضور ظاهرة حرق الأطفال وتقديمها كقرابين بشرية للآلهة تثبت شدة إيمان المجتمع البوني آنذاك، فهو قادر على التضحية بأغلى ما يملك إرضاء للآلهة. فلماذا كل هذا العنف الديني؟ ألا يقودنا ذلك للحديث عن أن التونسي القرطاجي المتعصب للدين لا يزال يعتمل داخل ذهنية التونسي اليوم؟ ألم تحرك الشباب التونسي حماسة دينية غير مسبوقة للالتحاق بداعش؟ الأمر يبقى محل نقاش.
ننتقل الآن إلى العهد الروماني لتستوقفنا الحركة الدوناتية والتي مثلت خروجا على الكنيسة القرطاجية وثورة آنذاك. تروي المصادر التاريخية تعصب وعنف هذه الحركة فحتى القديس أوغسطينوس فشل في ثني عزائم معتنقيها. مرة أخرى نجد التعصب والعنف الدينيين حاضرين بقوة في الشخصية التاريخية التونسية.
أما في العصور الإسلامية فقد شهدت منطقة الغرب الإسلامي في القرون الأولى ما يسمّى بثورات الخوارج وعلى الرغم من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي حركت هؤلاء للثورة على السلطة فإن العقيدة الخارجية لم تكن تتسم بأيّ نوع من التسامح: فالخوارج هم في الأصل القراء الذين خرجوا على علي بن أبي طالب متّهمينه في ذلك بالكفر والفسوق لينتهي بهم الأمر إلى تكفير المسلمين قاطبة.
ما أردت أن أميط اللثام عنه هو أن الحفر في الجذور التاريخية للشخصية التونسية يجعلك تكتشف ممارسات لا تقل عنفا عن ممارسات الدواعش الآن. فهل كل هذه التراكمات لا تزال تفعل فعلها اليوم؟ ألا نرى شبابا يكفر المسلمين جميعا مثلما كان يفعل الخوارج تماما؟ النقاش يبقى مفتوحا.
ننتقل الآن إلى الكشف عن بعض التناقضات التي تعصف بالشخصية التونسية اليوم.
الشخصية التونسية بين فكي كماشة: ثقل الماضي ووزره من جهة والاصطدام بحداثة هجينة وسطحية من جهة أخرى
مما لا يختلف فيه اثنان أن العالم العربي الإسلامي لم يتخلص بعد من عقدة الماضي فكل حديث عن التراث يثير في الأنفس نقاشات حادة أزلية وأبدية. فالشخصية التونسية لا تزال ترزح تحت ثقل الماضي ووزره، إذ هناك تراكمات تاريخية لا تزال تعتمل في ذهنية التونسي، فالقطيعة بين المدينة والبادية والتي تبلورت بعمق في العهد الحفصي لا تزال إلى اليوم حاضرة فالتبدي كان دائما يدفع إلى التعصب والتطرف. ذلك كله يقودنا للحديث عن قطيعة هامة في الشخصية التونسية ألا وهي مسألة المركز والهوامش أو الحاضرة والأطراف. فلا يمكن أبدا أن نفهم هذا الحضور القوي للدين اليوم بدون أن نتطرق إلى محركات اقتصادية واجتماعية. فالبوادي منذ العهد الحفصي إلى اليوم مرورا بالعهد البورقيبي ظلت مهمشة: ومن تلك البوادي يبرز الثوار المتمردون ولكن كذلك المتطرفون والمتعصبون.
هناك أيضا الذهنية القبلية التي لا تزال حاضرة بقوة في المخيال الجمعي التونسي، وكما لا ننسى كذلك النظرة التقديسية للإسلام والتاريخ الإسلامي عموما، ويعضدها في ذلك فراغ ثقافي ولكن أيضا نفسي. فبعد الثورة وأمام فشل السياسي في تحقيق وعود الشباب وجد هؤلاء أنفسهم في فراغ نفسي عميق. فهم أمام واقع محبط انتصرت فيه الإمبرياليات العالمية فوجدوا في داعش متنفساً لهم بما يستحضر هذا الأخير من محاكاة للدولة الإسلامية في صدر الإسلام. كل ذلك دفعهم دفعا زرادشتيا نحو الالتحاق بالدولة العصرية لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي: دولة البغدادي.
نلاحظ كذلك انعدام التماسك الذي يظهر بقوة في الشخصية التونسية حينما نتناول خاصة حركة التحديث. فقد أفاق المسلمون على صدى مدافع نابليون وهي تدك طوابي الإسكندرية معلنة عن قيام الحداثة الأوروبية التي أنتجت علما وثقافة وحضارة ولكن أيضا أسلحة وقوة وجبروتاً. وقد انطلق التحديث في تونس في العقد الثالث من القرن التاسع عشر ليمتد إلى العهد البورقيبي: لكن كيف كانت آثاره في شخصية التونسي؟
إذا كانت الحداثة الغربية نتيجة سيرورة تاريخية طويلة امتدت منذ نهاية العصور الوسطى مرورا بالنهضة الأوروبية والتحولات السياسية وصولا إلى الثورة الصناعية، فإن التحديث الإسلامي كان هجينا وسطحيا، إذ لم يعمد المفكرون إلى تحديث الإسلام -الذي كان في حاجة لرؤية عصرية وجديدة تستأنس بمنجزات الحداثة الغربية للالتحاق بركب الحضارة- وإنما إلى أسلمة الحداثة. وهذا كله فرض فرضا ولم تفهم المجتمعات وخاصة الطبقات الشعبية ماهية التحديث وبقي في النهاية فوقيا مقتصرا على النخب السياسية ورجال البلاط والفقهاء والعلماء.
هذا يقودنا للحديث في مسألة أخرى، ألا وهي مسألة التعليم في تونس. فالإجراءات الثورية ساهمت بلا شك في ارتقاء التعليم التونسي ولكن هناك إجراءات أخرى كثيرة أحدثت شرخا عميقا في الشخصية التونسية. ولعل أهمها القضاء على التعليم الزيتوني المتسامح والمعتدل، إذ ساهم ذلك في ضعف الثقافة الدينية لدى الشباب اليوم الأمر الذي جعلهم لقمة سائغة يلتهمها داعش. وبخصوص الإجراءات التحديثية البورقيبية فإنها بقدر ما كانت ثورية ورائدة بقدر ما كانت فوقية وهجينة. فالمجتمع الذكوري التونسي لا يزال يعيش عقدة يستسيغها، عقدة مثّلتها عودة النقاب اليوم والإفراط في التديُّن الذي لم يدرك بعد معنى الحق والواجب خاصة في علاقتهما بوضعية المرأة، فهل يظل السؤال “الجندري” ماثلا والحال أنه لا بد من تجاوز طرحه إلى النظر في الواقع دون الوقوف عند جهاز المفاهيم هذا؟
تساؤلات كثيرة تطرح ونحن نجوب شعاب هذا الموضوع وما سلف محاولة متواضعة وبسيطة لإلقاء نظرة سريعة وبرقية على هذه الظاهرة، وكلي أمل أن تدرس بعمق وأن تتظافر جهود المؤرخين والأنتروبولوجيين وعلماء الاجتماع للكشف عن أغوارها.