ألانا المضادة والعودة إلى الذات
![](/sites/default/files/styles/article_image_800x450_scale/public/2025-02/image-10.jpg?itok=vhNsJZ5D)
ما الحاجة إلى التفلسف؟ فتح لي السؤال سؤالين: ما التفلسف؟ وما الحاجة إليه؟ لما كان التفلسف مصدرا لفعل تفلسف، وهذا المصدر تساوي حروفه حروف فعله في تعبير عن الحال المعنوي. التفلسف يشير إلى ممارسة القول الفلسفي. لكن التفلسف أحوال، التفلسف على غير غرار، والتفلسف اتكاءً على من تفلسف على غير غرار. إذاً نحن أمام صورتين من صور التفلسف مختلفتين: التفلسف إبداعاً والتفلسف نهجاً على. وهو ذو تاريخ الفلسفة.
الفيلسوف المبدع لا يسأل ما حاجتي إلى التفلسف، بل هو الذي يطرح السؤال: ما حاجة الآخرين إلى التفلسف، ما حاجة الآخرين إلى التفلسف ليس سوى مد العقل بمناهج الفلسفة ومفاهيمها.
إذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فهناك فرق كبير بين الفيلسوف والمتفلسف، كل فيلسوف متفلسف، وليس كل متفلسف فيلسوف.
قلنا إذا الفيلسوف لا يسأل ما حاجتي إلى الفلسفة شأنه شأن الشاعر والفنان، فليس هناك سبب خارجي للإبداع، لكنه باستطاعته أن يجيب عن سؤال ما حاجة الآخرين إلى الفلسفة.
فكل ما ينتمي إلى المبدع فمن العبث أن نسأل ما حاجة المبدع إلى إبداعه، لكننا نسأل ما حاجة الناس إلى ما أبدع. وما حاجة الوسيط بين المبدع والناس، كالناقد والشارح والمؤرخ والأستاذ المتخصص وهكذا.
دعوني أطرح السؤال: ما التفلسف إبداعاً، هذا سؤال عن الماهية، ماهية التفلسف.
يتفلسف الفيلسوف حين يغامر عقله الأرستقراطي بطرح سؤاله الذي يؤسس لهمه الفلسفي ولقلقه الوجودي.
يتفلسف الفيلسوف لكي يمنح الآخرين القدرة على التفلسف، حين يمنحهم مفهومه الأثير الذي انشغل به وصار أداة معرفية لفض ما ينشغل به العقل.
إذا تفلسف الفيلسوف هو الذي يخلق حقل قراءة التفلسف الذي صار فلسفة، وهنا يواجه الفيلسوف المشكلة الأبرز في علاقة النص بالقراءة. وهي مشكلة ناتجة عن الهوة التي تفصل بين عقله الأرستقراطي وعزوف الآخر عن الانشغال بما يولده الفيلسوف من نص مختلف عمّا ورثه العقل العادي من وعي بالعالم.
فالتفلسف بما هو عقل متمرد على العقل المألوف والمعهود والعادي والمعروف ليس باستطاعته أن يدخل عالم الوعي العادي ببساطة، ولهذا وقعت الشبهة به بأنه يعيش في برجه العاجي غير مكترث بالواقع الذي يعترفون به وبمعرفتهم العادية به.
نشأت الفلسفة، في الأصل، من طبقة الأحرار الأرستقراطيين، إنها ثمرة الأحرار الذين يفكرون متحررين من الحاجة، كل فكر إنما يصدر عن عملية التفكير وليس كل تفكير يخلق فلسفة. الفلسفة هي الأثر الباقي عن عملية تفكير مقصودها الوصول إلى أحكام كلية حول المجتمع والتاريخ والمعرفة والوجود والإنسان. والقول بأن الفلسفة أرستقراطية لا يعني سوى أنها تصدر عن نخبة دون ارتباط مباشر بالنخبة الحاكمة، والعامة معاً وهذا هو معنى أرستقراطيتها. وأرستقراطية الفلسفة تعني أن تتحرر من العقل العام وأسلوبه، لا رغبة في التميّز، بل لأن مهمة الفلسفة هي العقل في أعلى درجات حريته المنطقية البرهانية.
بل قل الفيلسوف هو الأرستقراطي الوحيد الذي يفكر بالحقيقة دون أن يكلفه أحد بذلك ولهذا ما من فيلسوف إلا يسعى لإبداع قول جديد في الفلسفة، إلا ويطرح على نفسه سؤال ما الفلسفة، سواء أجاء السؤال صريحًا أم مضمرًا؛ فالفيلسوف عندما يكتشف سؤالًا جديدًا، أو يعيد طرح سؤال قديم، ويعمل على صوغ الجواب، فإنه يقدم لنا تحديدًا جديدًا للفلسفة، يقدم الفلسفة كما يراها، وكأنه يجيب عن السؤال: ما الفلسفة؟ إنه يقدم لنا طريقة في التفلسف، ويظل في حقل ماهية الفلسفة، بوصفها نظرة إلى العالم، ومنهجًا في التفكير، الفلسفة منهج في التفكير؛ حكم تعريفي لا يقول – بعد – شيئًا عن المنهج، ولاسيما المفهومات، ينتقل هذا التعريف المجرد إلى المتعين حينما يعيد الفيلسوف طرح السؤال: ما الفلسفة؟ إنه- أي الفيلسوف – حين يذهب إلى المتعين؛ ليمتلكه نظريًا، يجيب عن السؤال: ما الفلسفة؟ إن سؤال: ما الفلسفة هو نفسه سؤال: ما المنهج الذي يسمح لنا بامتلاك العالم نظريًا، وما المنهج سؤال حول المفهومات المجردة التي صاغها الفيلسوف، بوصفها تعبيرًا عن الواقع، وتأكيدًا لوحدة الفكر والوجود؛ فالفيلسوف، وهو يكتشف المشكلة، يكتشف معها أدوات تناولها، أي: العدة المعرفية لامتلاكها نظريا.
كان الوجود، بدلالاته كلها – وما زال – مشكلة فلسفية، غير أن الزاوية التي نظر من خلالها إلى الوجود حددت – على نحو ما – منهج التفكير في الوجود، وحقل المفهومات المعبرة عنه. فحين نظر إسبينوزا إلى الوجود، بوصفه واحدًا لحل مشكلة ثنائية الوجود عند ديكارت، صار لديه مفهوم الجوهر الواحد، والصفة، والحال، والقائم بذاته، وسبب ذاته، والطبيعة الطابعة، والطبيعة المطبوعة، والضرورة لكنه – عمليًا – كان يجيب عن سؤال: ما الفلسفة؟ بحيث لو سألنا: ما الفلسفة عند إسبينوزا لأجبنا بكل اطمئنان: الفلسفة عند إسبينوزا هي معرفة الوجود، بوصفه جوهرًا قائما بذاته، وسبب ذاته، ومعرفة صفاته وأحواله.
تتميز المفهومات النظرية بأنها كائنات حية، تتطور وتتغير دلالاتها، وتموت أيضًا وحياة المفهوم ذات ارتباط بصيرورة المعرفة وسيرورتها؛ فهناك تاريخ لمفهوم الحق، يمكن رصده عبر مسيرة وعي الحق، وقس على ذلك الحكم، والديمقراطية، وهكذا.
وإذا كانت المفهومات هي حقل التفكير العقلاني – المنطقي – الواقعي، فإنه يقع في تناقض التصورات اللاهوتية التي تقوم لدى صاحبها بوظيفة المفهوم، وتتحول إلى أحكام، يحولها المنطق الصوري إلى حقائق، وعندئذ لا تقوم الحقيقة، وأحكامها، على مبدأ مطابقة ما في الأذهان مع ما في الأعيان، كما تقول العرب، بل تكون مع ما في الأذهان، فحسب، حتى إنْ كان هناك تناقض وتضاد ما بين الأذهان والأعيان.
هل باستطاعتنا أن نقول بأن المعركة ما زالت قائمة بين سلطة المفهوم، وسلطة التصور. أجل. ويبدو أن زمنًا طويلًا قد يمضي من دون أن تنتصر سلطة المفهومات الانتصار الذي يجعل من سلطة التصور سلطة أضعف من أن تحكم الحياة.
وهنا من الضرورة الإشارة إلى أن التفلسف بهذا المعنى تحرر من تصورات اللاهوت. فمرجعية الفيلسوف هي الواقع والمعرفة البشرية بكل أنواعها، والمعرفة الفلسفية لا تدعي إطلاقاً أنها أجابت عن الأسئلة إجابة مطلقة، ومن ثم فإن تعدد إجابات الفلسفة عن مشكلة واحدة من مشكلاتها، دليل على حيوية شديدة لا تتوقف في الفهم والتفسير. أما مرجع اللاهوتي الأول هو النص ذو المصدر الإلهي. فالنص الإلهي قابل للتفسير وللتأويل إذا كان غامضاً لكن يظل قولاً فصلاً. فإذا قلت للاهوتي اليهودي مثلاً: ما الحكمة من أن يعد يهوه أتباعه في أرض ليست أرضهم؟ سيأتيك الجواب هكذا شاء. أو سيفسر لك الحكمة من ذلك كما يتصورها عند يهوه. أو سيقول لك هكذا جاء في التوراة الكتاب المقدس. وتترتب على ذلك مسألة مازال اللاهوتي يعتقد أنه مصيب بها، فإن قلت للاهوتي أن الفلسفة هي تفكير عقلي وفق مناهج التفكير الإنساني، قال لك إن النص يدعو إلى استخدام العقل. ولكن في حين أن الفلسفة ترتاد عبر العقل جميع المشكلات الممكن تناولها فلسفياً، دون أيّ قيد إلا قيود المنطق والمنهج، فإن اللاهوتي يحوّل العقل إلى خادم لأفكاره المسبقة، وبالتالي تختلف وظيفته في اللاهوت عن وظيفته في الفلسفة.
وإذا تعرض فيلسوف ما إلى لوثة لاهوتية فإنه بهذا قد آثر الخروج من الفلسفة والعودة إلى الذهنية القديمة وهذا هو النكوص. وقس على ذلك الأيديولوجيا، أي أيديولوجيا بوصفها مفسدة للعقل، فهي تجمده في ما تعتقده من وعي لا يرقى إليه الشك، وبحقيقة مطلقة يمكن التضحية بالذات من أجلها. فهاجس الأيديولوجيا يكون هو المصلحة وليس الحقيقة.
سؤال الأنا والذات
الآن: ما السؤال الفلسفي القمين بالتفلسف الذي أطرح أمامكم؟ إنه سؤال الأنا والذات؟
القول الفلسفي في (الأنا) هو وعي حقيقي لمشكلة الإنسان في الوطن العربي، وقد يراه البعض قولًا فلسفيًا مجردًا، وهو كذلك، لكن هاجسه الأساس هو الإنسان في علاقته بالتاريخ والواقع، فلا يصنع التاريخَ إلا “أنَوات” واعية بدورها في هذا العالم، لا يصنع التاريخَ إلا إنسانٌ يعي قيمته الفردية في هذا العالم. الإنسان في الوطن العربي لم يمُت، لأنه لم يعش كي يموت، ولم ينتهِ، لأنه لم يبدأ كي ينتهي، ولم يغب، لأنه لم يكن حاضرًا كي يغيب. والانتصار للأنا دعوة إلى ولادة الإنسان، دفاع عن الإنسان بوصفه “أنا” ضد هذا الـ“نحن”، ضد القطيع الذي يسلب الكائن البشري أهم عناصر وجوده: أناه التي تميزه عن غيره. عندما تنتصر “الأنا”، بوصفها وعيًا ذاتيًا بالتفرد، يصبح تعدد “الأنوات” دافعًا لها باتجاه صنع تاريخها الواعي، لماذا؟ لأنها، إذ تصل إلى مرحلة الكائن الأنا، تكون قد وعَت حريتها في الفعل والممارسة والقول، دون أي مخاوف على وجودها الذاتي.
الأنا المضادة
و”الأنا” لا وجود لها خارج فعل الحرية؛ إذ أن الكائن خارج حقل الحرية مجرد شيء، وكلمة شيء تشير إلى انعدام الفاعلية، لا يمكن للـ“أنا” أن تنتقل إلى ذات فاعلة إلا في حقل الحرية. كيف لنا تخيّل إرادة تنهض بكامل وعيها، دون أن تكون إرادة حرة، إرادة أنوات حرة! لكن حرية الأنا شعورٌ يقود إلى الممارسة، شعور لا يتولد إلا إذا وصلت الأنا إلى الوعي بالعبودية المعيشة. والأنا لا تنفصل عن الذات. ما الفرق بين الـ“أنا” والذات؟ الذات هي الـ“أنا”، وقد تحولت إلى صناعة العالم: فهي، إذ تصنع العالم، تصنعه وفق رؤاها الحرة، وفق تحررها من غريزة القطيع. لذلك عالم الأنوات الحرة هو عالم “الأكباش” فقط، وليس عالم “الكبش والأغنام”، ولذلك قال الفيلسوف البريطاني قولًا قويًا: “الحرية هي التوزيع العادل للقوة”، وبناء على قولٍ كهذا؛ فإن “أفضل المجتمعات هي مجتمعات الذئاب، حيث كل أنا ذئب، وليست ذئابًا”.
هل من أفقٍ لظهور هذه الحرية في مجتمعاتنا العربية؟ هل من أفقٍ لظهور “أنوات” فاعلة؟ وما الذي يحول دون ظهور وولادة الـ “أنا” في عالمنا العربي؟ ما يحول دون ولادة الأنا ما أسميه النظام المتعالي على الـ“أنا”، هو نظام قامع لظهور الـ“أنا”، ويتكون من: النظام السياسي الذي قام على الاستبداد العسكرتاري المتخلف الذي لا يرى المجتمع إلا في صورة “كبش وحملان”، وحول هذا “الكبش” مجموعةٌ ممن فقدوا أيّ قيمة ترتبط بمكانة الإنسان وحق الآخر، ليس لديهم سوى العنف وسيلة للحفاظ على بنية “الكبش والحملان”. العنف الذي يحطم الكرامة الإنسانية، للحيلولة دون أن تدافع عن نفسها. يضاف إلى هذه السلطة السياسية السلطةُ الدينية المتمثّلة بأولئك الذين يزيّنون للسلطان (حكمته وعظمته)، أو أولئك الذين يُحصون سكنات الأنا وحركاتها، ويقيمون عليها حدود جهلهم.
وحين يرتبط الدين بالسياسة؛ يخلق سلطة أشد فتكًا من تلك السلطة العسكرتارية، وبخاصة العسكرتارية الريفية. النظام القيمي الاجتماعي، التقاليد المتوارثة قامعة لظهور الـ“أنا”، وهو نظام متوارث يفرض على الأنا الانصياع لقيمه التقليدية، من دون النظر إلى تغيّر الأحوال والأزمان. ولتجاوز هذا النظام المتعالي؛ لا بد من ظهور فئاتٍ وصلت إلى مرحلة الوعي الذاتيّ بقدرتها على تجاوز العالم، بقدرتها على تحطيم العالم القديم، وهذا ما فعلته الثورة البرجوازية في أوروبا، وهذا ما كان قابلًا أن يحدث في الخمسينات والستينات في عالمنا العربي. لكن النكوص التاريخي، منذ سبعينات القرن الماضي حتى الآن، حال دون أن تستمر حركة ولادة الـ“أنا”، والسبب الأعمق أنّ الفئات الوسطى، التي تشكل وعيها بذاتها، لم تستطع أن تكون راديكالية إلى الحد الذي تكنس فيه التاريخ؛ فانهزمت، وبانهزامها، انهزم شرط ظهور الـ“أنا” وولادته، وهذا يعني أن نعمل جاهدين، كي تنشأ هذه الفئات الواعية لذاتها، بوصفها “أنوات” وليست قطيعًا.
القول في الأنا قولٌ في السياسة وليس في الفلسفة فقط، في فلسفة السياسة، فأنت لا تستطيع أن تتحدث في السياسة إلا انطلاقًا من الفلسفة، لأنك تقدم قولًا عامًا. هل هناك إمكانية لانتصار الأنا؟ نعم. هذه الإمكانية تواجه سلطة قامعة بالمعنيين: السياسي، والأخلاقي للكلمة، لا تريد للـ“أنا” أن تنتصر في هذا العالم. لذلك، أنْ تعممَ الوعي بذاتك وبعالمك، على نحوٍ يكشف هذه العلاقة المتناحرة بين السلطة والـ“أنا”، أمرٌ في غاية الأهمية؛ لأن وجود السلطة وبقاءها رهن بالقطيع، ولهذا تخاف السلطة من الـ“أنا”، لأنها (السلطة) تخاف الحرية، ولأنها تخاف الحرية؛ فإنها تخاف الإنسان الذي يمكن أن يصبح فردًا أو “أنا”.
يجب أن تعيش الـ“أنا” اغترابًا؛ كي تتجاوز العالم. التجاوز عبر مفهوم الاغتراب الضروري للمثقف وللفاعل الاجتماعي عن واقعه المعيشي، لأنك لن تستطيع تجاوز عالمٍ لا تشعر باغترابك عنه. أما إذا كنت منسجمًا مع عالمك ومتصالحًا معه، فلماذا تغيّره؟ لذلك فإن المثقف غير المغترب عن واقعه المعيشي ليس مثقفًا بالمعنى السارتري للكلمة. فحين يكون المثقف قطيعيًا، أنّى له أن يصبح (أنا) فاعلًا، إنه لن يكون في هذه الحال إلى الصورة المكثفة للقطيع وعيًا وسلوكًا.
ولسائلٍ أن يسألني لماذا الذات الآن، والأوروبي، بكلّ ما يملك من شعورٍ بالتفوق، كان قد أعلن منذ منتصف القرن الماضي موتَ الذات؟.
لستُ ممّن يسيرون وراء طغاة الفلسفة وتلامذتهم، لست مهموماً بهَمٍّ زائف، مثل العودة إلى السلف أو استعادته لأسأله أجوبة عن مشكلات وجودي. ولست مُكترثاً بإيجاد التشابه، ولا بإزالة الاختلاف.
لماذا العودة إلى الذات؟
العودة إلى الذات ليست عودةً رومانسية إلى الطبيعة، بل عودةً إلى الطبيعة من أجل حمايتها من التدمير الإجرامي الذي يُمارسه الرأسمال التقني والسلطة المدافعة عنه؛ ولهذا آنَ لنا.. أن ننتقل من حافة الفلسفة إلى الدخول في أتونها، مُتكئين على وعي أوليٍّ بالفلسفة.
لا.. ليست مهمةُ الفلسفة إضاءةَ الكهف وإبقاء الناس فيه، بل.. إخراج الناس من الكهف إلى الكينونة الحرة؛ غير أن مهمةً كهذه.. تتطلب أولاً وقبل كلِّ وعيٍ، وعياً بالكهوف نفسها؛ وبحال الساكنين فيها.
الذات هذه التي أسعى وراءها؛ هي الذات التي أُعيد لها صوتها بعد أن.. أصمتوها، أزيل خفر الظهور عن وجهها بعد أن.. حجَّبوها، أعيد لها قلبها بعد أن.. حجَّروها، أكشف عن جمالها بعد أن.. قبّحوها، أنشر تنوّعها بعد أن.. قتلوها، أعيد لعقلها حقَّ التفكير بعد أن.. شلّوها، أعيد جناحيها إليها بعد أن.. سمَّروها، ثم أضع بيدها المرفوعة الشُعلةَ بعد أن.. رمَّدوها.
وبهذا تستجيب الفلسفة لنداء الواقع، الواقع الذي ينطوي على الحقيقة الغائبة التي يسعى الفيلسوف لإحضارها، الواقع الذي ينطوي على الممكن في أحشائه.
ولأن الفيلسوف هو عقل الواقع والممكن فإنه ينتمي إلى سؤاله الذي ألهمه إياه الواقع، وهذا يتطلب تحرر فيلسوفنا من تلك العلاقة التي تحدث عنها جدنا ابن خلدون الذي قال: والمغلوب مولع بتقليد الغالب.
صناعة الفلسفة
كتب جدّنا الفيلسوف، يعقوب بن إسحاق الكندي (185 هـ/805م – 256 هـ/873م) قبل ألف ومئة وإحدى وخمسين سنة، رسالة إلى المعتصم، جاء فيها: «إن أعلى الصناعات منزلة، وأشرفها مرتبة صناعة الفلسفة، التي حدها: علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، لأن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله العمل بالحق. وينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، وليس يبخس الحق، ولا يصغر بقائله، ولا بالآتي به، ولا أحد بخس الحق، بل كان يشرفه الحق». تنطوي الرسالة على فكرتين رئيسيتين: الفلسفة علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، هذا أولاً، ثم ثانياً: اقتناء الحق من الأمم المباينة لأمتنا.
في تأويل هاتين الفكرتين نقول «إن تعريف الفلسفة بوصفها علم الأشياء بحقيقتها، لا يعنى سوى أن الفلسفة هي علم الحقيقة، ولما كانت الحقيقة ليست معطاة لنا في الظاهر فإن الفلسفة تكشف عمّا وراء الظواهر، وما وراء الظواهر ليس سوى المعنى الكلي، والمعنى الكلي لا يكون إلا بكشف ماهية الأشياء، وماهية الأشياء هي الصفة الجوهرية، التي تجعل الشيء شيئاً».
أما معنى: «بقدر طاقة الإنسان فهو دلالة على قدرة العقل على كشف الحقيقة، فطاقة الإنسان العقلية وحدها القادرة على الوصول إلى حقائق الأشياء. إذاً الفلسفة هي العقل في رحلته المعرفية، وهذا العقل يتزود في رحلته بطاقات جديدة، فطاقة العقل تغتني، وتتجدد مع كل كشف عن حقائق الأشياء».
المسألة الأخرى ذات الأهمية هي الحق في اكتساب المعرفة من أيّ نبع كان، وهذا تفسير لأثر الفلسفة اليونانية، وشرعية استحسان الحق منها. إنها فكرة منهجية ما زال النقاش حولها حاضراً في حياتنا الثقافية بين من يسمّون بأصحاب الأصالة، وأنصار المعاصرة، فكونية المعرفة بكل أنواعها هي التي تسمح بارتحالها، بسبب الحاجة إليها.
إن عودتنا إلى الفيلسوف الأول في العربية لا تعني أبداً تناول المشكلات الميتافيزيقية، التي نظر فيها، بل من أجل تأكيد أهمية الفلسفة في وعينا الراهن لعالمنا ومشكلاتنا، من جهة، والدخول في العصر المعيش باكتساب آخر منجزات الحضارة العالمية، فما زال هناك نوع من الخطاب المعادي للفلسفة في عالمنا العربي، خطاب ينسى الإرث الفلسفي العربي المهم والثري، والذي صنعه الكندي والفارابي وابن سينا وابن باحة وابن طفيل وابن رشد وأبوالعلاء المعري، وآخرون كثر.
ولسائل أن يسأل: هل من الحكمة أن نقوم بترديد ما قالته العرب فلسفياً وما يقوله فلاسفة الغرب، بحيث يكون الفيلسوف العربي صورة إما شبيهة بماض وإما شبيهة بالآخر؟
الجواب: لا بالإطلاق، فاكتساب المعرفة يعني تحولها في العقل الطليق إلى حوار نقدي مع الآخر، وإلى تجديد مناهج تفكيرنا في اجتراح الأجوبة الخاصة على أسئلتنا، فلنحدد أسئلتنا كي نحدد أجوبتنا، وعندها يمكن الحديث عن صور من الفلسفة العربية المعاصرة.
إن قول الكندي يعيدنا مرة أخرى إلى التفكير في تجربة التفلسف بوصفها تجربة فلسفة الواقع المعيش، فالتفلسف بوصفه الامتلاك النظري لحركة التاريخ والثقافة والمعرفة والقيم وللمجتمع بعامة، والكشف عمّا وراء هذه الحركة يحملنا على التفكير بواقع ينتج أسئلته، كما تقودنا هذه الأسئلة إلى أجوبة كلية قابلة بطبيعتها المجردة على الارتحال.
وهذا هو الذي يفسر ارتحال ابن رشد إلى أوروبا، ونشأة الرشدية اللاتينية، مع العلم بأن كتابه “فصل المقال” جواب كليّ عن سؤال واقع عربي، فنحن نشهد اليوم عملية ترجمة واسعة لكتب أعلام الفلسفة الأوروبية والأميركية المعاصرة، كما نشهد حركة كتابة فلسفية عربية، ونشهد حواراً واختلافاً ومؤتمرات وندوات، وكل ذلك يؤكد أهمية حضور الفلسفة في حياتنا الفكرية.