أحمدك ربّي لأنك خلقتني شهرزاد!

السبت 2021/05/01
لوحة: أسامة دياب

أحمدك ربّي لأنك لم تخلقني رجلا، يصيرا ذكرا يعدل نفسه بك فيتعالى ويتكبّر، وينسى عدلك ورحمتك فيطغى ويظلم ويتجبّر! أحمدك ربّي لأنك لم تخلقني رجلا يرى أن طاعته من طاعتك ومعصيته من معصيتك، ويتغاضى عن رفعتك وجلالتك ونزاهتك، فيخوض في المعاصي والرذائل والدناءة، ويتلذذ بهتك الأعراض، ثم يقتل لصون الأعراض التي هتكها! أحمدك ربّي لأنك لم تخلقني رجلا يعتقد أنه كليّ القدرة وكلّي العلم وكليّ المعرفة، ويتغافل عن كونك القدير عالم الغيب والشهادة، فيجهّل كل من سواه، ولا يستنكف عن تجهيل من خلقه فسوّاه فعدله! أحمدك ربّي لأنك لم تخلقني “شهريار” يلتذّ بسفك دماء العذارى كل ليلة، ثم يغط في النوم، ويعلو شخيره، بدون أن يرف له جفن على ما اقترفه من إثم. أحمدك ربّي لأنك خلقتني وفق مشيئتك، أحمدك ربي لأنك خلقتني امرأة، أحمدك ربّي لأنك خلقتني “شهرزاد” تحقن الدماء بالسرد، وبه تعالج عقد شهريار.

ترعرعتُ في بيت لم يخل من ضروب التمييز بين الذكر والأنثى، حالي حال الكثيرات ممن ينتمين إلى المجتمعات الشرقية عموما والعربية على وجه الخصوص. فقد علمتنا أمي أن الفتاة لا يجوز أن تسمح لأحد من الرجال بأن يلمس جسدها لأنه سيلوّثه، وإذا أصبحت الفتاة وسخة، فمصيرها حالك السواد، ولذلك وجدت نفسي اعتدت عبارة: لا تفعلي كذا، ولا تفعلي كذا، وكنت وأخواتي محاصرات بعدد من اللاءات التي تخص البنات، بينما لم أسمع مثلها موجهة لإخوتي من الذكور، فكنت أغبطهم لأنهم يفعلون كل ما يحلو لهم، ولا أجد من يقول لهم: افعلوا ولا تفعلوا! وحينما كنت أتمرد على بعض الأوامر، وأحاول الخروج على النواهي، وأسأل لماذا لا توجّه مثلها لإخوتي الصبيان، كنت أتلقى إجابة واحدة دون تعليل وهي: لأنك بنت وهو صبي، إلى درجة تمنيت فيها سرًا أن أكون ولدًا.

ولمّا كبرت، بدأت أتعرف بشكل أفضل وأعي إشكالية الذكر والأنثى، وألمح الظلم الذي يطال الفتاة من لحظة الولادة إلى لحظة الموت، وأنا أراها محاطة بمقولات جاهزة عن المرأة، وما ينبغي أن تكونه، ومصيرها الذي يتربص بها، ولأن الموضوع كان يسترعي انتباهي؛ فقد وجدت نفسي متورطة به، ولعلّي عشت جميع تحولات النظريات النسوية، فقد بدأت بالتمرد على وضعي بوصفي امرأة في البداية، واتخذت موقفًا عدائيًا من الرجل، وانتقلت إلى محاكاة الرجال في مرحلة من المراحل، باعتبارهم النموذج المتحكم في المجتمع، وانتهيت إلى ما انتهت إليه النسويات من وعي خصوصية جسد المرأة، وجسد الرجل، وعدم أفضلية أحدهما على الآخر لأسباب بيولوجية متعلقة بالجسد. وأدركت أن الرجل والمرأة هما ضحية العقلية الذكورية المتغلغلة في اللاوعي، وأن موضوع تغيير تلك العقلية يحتاج إلى بحث معمق، وزمن من أجل التغيير، وإعادة التوازن المفقود في المركزية الاجتماعية التي أعلت من شأن الذكور، وحطّت من شأن الإناث، وكان الجسد الأنثوي هو تلك الشماعة التي عُلّق عليها الكثير؛ لتحقيق تلك المركزية منذ أرسطو إلى يومنا الحالي.

أحسبُ أنني نجوتُ نسبيًا من ذلك الكبح الدائم للمرأة، مما تعرضت له كثير من نساء جيلي، والجيل الذي سبقه في العصر الحديث، فظنّي أنني أنتمي للجيل الثالث من النساء اللواتي شغلن بحال المرأة في المجال العام؛ لأنني جعلت من الوعي وسيلة للحرية، فأردت أن أحقق به ترسيخ تلك السوية التي هي من طبعي، فما تبحث عنه النساء هو قبول المجتمعات لسويتهنّ البشرية، والاعتراف بهويتهن النسوية، ووجهة نظرهن في الحياة، ولا يتحقق ذلك بمناهضة الرجال، بل بمشاركتهم في صنع تلك الحياة. ولطالما خالجني شعور أنني سوف أنصرف لمعالجة موضوع المرأة الذي شغلت به زمنا طويلا، منذ أن كنت شابة يافعة تلحظ التناقضات في محيطها بشكل غير واع، ومرورًا بتشكل الوعي، وانتهاء بما تحصّلت عليه من أدوات النبش والتنقيب في واقع المرأة من أجل الكشف عن أحوالها المتداعية.

على أنه ينبغي الاعتراف بأنّ قضية المرأة ليست من ابتكاري، وما هي بابنة خواطري، فقد خاض غمارها رجال ونساء لا سبيل إلى عدّهم، فلم تغب عن الفكر الإنساني قديمه وحديثه، وتأدّى عن ذلك الاهتمام تباين في التعاطي معها خلال حقب التاريخ، ومعلوم بأنه جرى تهميش المرأة من طرف الثقافة الذكورية، فنتج عن ذلك اضطهاد لها، وتنكيل بها، وتقليص لدورها إلى حدوده الدنيا، فكاد يقتصر دورها على المتعة والإنجاب، وإلى كل ذلك فقد سُنّت تشريعات مجحفة بحقّها الإنساني والشرعي. ومع تفتّح وعي المرأة، وتنامي دورها في المجتمع خلال العصور الحديثة، وبخاصة بعد ظهور الحركات النسوية، انتبهت المرأة إلى حالها المهين في الواقع، وفي التاريخ، وفي الثقافة، بل وتجاوز ذلك إلى دورها في الكتابة الأدبية، والسردية منها على وجه الخصوص. وكان من الطبيعي أن ينتج عن ذلك تمثيل سردي معبّر عن رؤيتها للعالم بعين الأنثى، والكشف عن الجوانب الخفية والقضايا المسكوت عنها لدى المرأة، وفضح التاريخ المزوّر الذي أقصى المرأة وحال من دون بروز دورها في المجتمع، بل وحال بينها وبين ذاتها التي ألفتها غريبة عنها، لتجد نفسها مرهونة بحدود تشلّ حركتها، وقيود تكبّل حريتها، وقوانين مجحفة بحقها لا تراعي خصوصيتها؛ لأنها لم تشارك في وضعها، بيد أنّ وعي المشكلة بذاته غير كاف لحلّها، ولاسيما في مجتمع ترسّخت فيه الأعراف المدعومة بقوة دينية، وضربت بجذورها في صميمه، وتغلغلت في لاوعيه، ومن ثم كان على المرأة أن تخوض صراعًا مريرًا في سبيل التغيير، وأن تتعثر بمقاومة من المجتمع الذكوري، وأن تلقى المقاومة من بنات جنسها أنفسهن؛ لتشبعهن بتلك الثقافة، وإعادة إنتاجهن لها.

لوحة: أسامة دياب
لوحة: أسامة دياب

لا أدّعي أنني من الاستثنائيات بين نساء قومي، غير أنني شققت طريقي في وسط اجتماعي شبه راكد، ما خال له أنّ إحدى بناته تنتهي أستاذة في الجامعة، وتصبح روائية وناقدة، وما خطر له أنها ستتولّى تقليب شؤونه الثقافية والاجتماعية بوضوح لا تنقصه الجرأة، فتخصّ النساء في مجتمعها باهتمام غايته استكشاف أحوالهن، في سياق اجتماعي حال دون أن يستأثرن بالاهتمام الذي يضفي عليهن قيمة مساوية لقيمة الرجال، أو مماثلة لها، ولست أُنكر التحيّزات الاجتماعية والدينية ضد النساء في مجتمعاتنا، والنيل من حقوقهنّ، والتلاعب بهنّ، فالقول إنّهن مشاركات، بكامل الأهْليّة، في نسج ذلك المجتمع قول لا برهان عليه إلا على سبيل التمحّل، فلم تتوفّر الشراكة الكافية، لكي تنخرط النساء في صوغ جانب من المجتمعات التي يعشن فيها، وأبعدن عن المشاركة في ضبط الإيقاع العام لها، فلا غرابة في كلّ ذلك، إذ ما زالت مجتمعاتنا تئنّ تحت وصاية ذكورية راسخة، اصطنعت لها حدودًا يحظر تجاوزها، على الرغم من اتساع المجال العام بفعل مظاهر الحداثة الاجتماعية. وضمن هذا الأفق عملت في مشروعي النقدي الذي استمر لسنوات عديدة وتمخض عنه كتابي “سيرة العنقاء، من مركزية الذكورة إلى ما بعد مركزية الأنوثة”، محاولة إضاءة جوانب من الحياة الخاصة للنساء، بالتركيز على ما يواجهن من صعاب، وما يلذن به من ضروب الاحتيال لتسويغ وجودهن، متوسلة بالتمثيل السردي النسوي الذي شغل بأحوال المرأة وقضاياها.

وصار من المسلّم به إمكانية الحديث عن موقع المرأة في السرد عبر مرحلتين مختلفتين: الأولى كانت الكتابة السردية النسوية فيها لا تميز بين كتابة الرجل والمرأة، والثانية ارتسمت فيها معالم الكتابة النسوية نتيجة وعي مختلف عما سبقه بخصوص أحوال المرأة، ورؤيتها المختلفة للعالم، ما وجد أثره ممثلًا بحضور المرأة، وموقعها في السرد النسوي.

أما فيما يخص كتابتي الروائية فأعتقد أنها تأثرت بوعيي النسوي وفق مسارين متجاورين لكنهما ليسا متماثلين: ففي روايتي الأولى “خواطر امرأة لا تعرف العشق” – وهي رواية في العشق البالغ حدّ التصوف – ظهر الوعي النسوي بشكل واضح، مع أنني لم أكن قد أنجزت مشروعي النقدي “سيرة العنقاء” بعد، ولعل أفكاري النسوية غزت الرواية بشكل ملموس، وربما كان مقحما في بعض الأحيان، وجاء متمثلا في إدانة الرجل مستجيبا إلى المرحلة الأولى الراديكالية في الفكر النسوي، فبدت صورة الرجل قاتمة في الرواية؛ إذ عرّت مفهوم الحب واختلافه بين الرجال والنساء، وكانت الرؤيا منحازة إلى المرأة التي يتسم حبها بالتوحيد، في مقابل الرجل الذي يدمغ حبه طابع التعددية فلا يعرف الاكتفاء بامرأة واحدة مهما بلغ شأنها ومهما وصلت درجة عشقه لها، وفيها إدانة للرجل الخوّان بطبعه في مقابل المرأة الوفية، إضافة إلى تركيز الرجل في حبه على الجانب المادي والحسي في معظم الأحيان، بينما تركيز المرأة يكون منصبا على ما هو معنوي وروحاني.

كما فضحت الرواية العقلية الذكورية التي تجعل الرجل يبيح لنفسه كل شيء بينما تقف المرأة على الطرف النقيض فتدفع ثمن أخطاء الرجال، وإلى ذلك أدانت الرواية قضية العنف والتنمر الذي يمارسه الرجل ضد المرأة بكافة أنواعه بدءا من العنف اللفظي كالقذف والسب والشتم، ومرورا بالعنف النفسي بممارسة الضغوطات المختلفة لجعل المرأة تستجيب لما يريده الرجل، وانتهاء بالعنف الجسدي الذي يصل إلى التشويه أو القتل في بعض الأحيان.

حينما شرعت في كتابة روايتي الثانية “تل الورد”، التي صوّرت حياة عائلة تعيش في قرية افتراضية في سورية تدعى «تلّ الورد» حياة مطمئنة هادئة، ما لبثت أن اضطربت لتتشظى العائلة، ويلقى أفرادها مصائر متقاطعة تشبه مصائر الشخصيات في الملاحم القديمة، أعدت فيها تمثيل التحولات المأساوية لما يجري في بلدي سورية ولما هو عليه الوضع في الوطن العربي وما يعانيه المواطن المغلوب على أمره، كنت قد انتهيت من كتابي “سيرة العنقاء” وفرّغت فيه كل ما في جعبتي، وفكّكت المركزية الاجتماعية التي أنتجت الفكر الأبوي الذكوري، ودمغت المجتمعات بثقافة ضربت بجذورها عميقا في المجتمع، وكنت قد تحولت بأفكاري النسوية، فتجاوزت مرحلتيّ التمرد والمحاكاة، لأصل إلى وعي الخصوصية في قضية المرأة والرجل.

ووصلت إلى الوعي الكامل بضرورة الانفصال قدر الإمكان عن تجربتي النقدية واهتماماتي بالدراسات النسوية؛ خشية أن يمسخ الحس النقدي شخصياتي فيجعلها شخصيات جامدة ومجردة بلا روح تنطق بأفكاري، فسعيت إلى جعلها من لحم ودم تعبر عن نفسها، وكثيرا ما كانت الشخصية هي التي تقودني لا أنا من يقودها، فهناك شخصيات نمت وسارت في خط لم أكن قد حدّدته لها، ولكن هذا لا يمنع من وجود آثار لوعيي النسوي، الذي جعل شخصياتي النسوية كلها تعاني من القمع الذكوري، بعد أن أصبحت المرأة في ظل الأحداث المأساوية مجالا لتصفية الحسابات والانتقام بين الأطراف المتصارعة، فشخصياتي النّسوية كلها تعرضت للقهر والاغتصاب، ولكنها لم تستسلم وقاومت حتى النهاية، بل إن النساء في تلّ الورد حلّلن مكان الرجال في أعمال كثيرة بعد أن خلت تل الورد من رجالها بسبب القتل أو الخطف والاعتقال، فصرن يقمن بمختلف الأعمال التي تصنّف على أنها أعمال ذكورية.

وعلى الرغم من أن بطلات روايتي الثالثة “عماتي الثلاث” كن نساء، وهن من ضحايا الثقافة الذكورية، إلا أن صورة الرجل لم تكن قاتمة، وقد تجلّت بمختلف تمثلاتها في الحياة، فهناك الرجل بصورته الإيجابية التي جسّدتها شخصية الحاج عبدالهادي عبر علاقته الشفافة بشقيقته الرغدة سيدة البيت الكبير، حيث جمعتهما علاقة أخوّة مميزة، فلم يكونا شقيقين يشعر أحدهما بالآخر ويجلّه ويقدّره فحسب، بل بدا كما لوكانا توأمين يتنفسان من رئة واحدة، ولم تكن علاقته ببقيّة نساء البيت، والمرأة عموما سوى فيض من ذلك التعامل الراقي الذي لا يرى في المرأة كائنا ناقصا أو مشوّها، بل ناله حظ وافر من نزق زوجته البتول ومزاجيتها الحادة، ولم يخرجه ذلك عن حلمه وهدوئه، وكان يلتمس لها الأعذار دائما. كذلك ظهر وفاء الرجل للمرأة التي يحبّ في شخصية وسيم، زوج العمّة كريمة، التي لم يقدّر لها إنجاب الأطفال لسبب يتعلق بها، فلم يتخل عنها، ولم يستجب لضغوطات أهله، والمجتمع الذي ينتمي إليه، وظلّ يرفض استبدالها بأخرى حتى وافته المنيّة. وبالمقابل ظهرت شخصية الرجل السلبية المتمثلة في نزق بعض الرجال واستبدادهم بالمرأة واستغلالهم لها، أو تخليهم عنها.

وختاما فلست أستنكف من أن يقال عني بأنني كاتبة نسويّة، كما في حال كثيرات من الكاتبات اللواتي رفضن هذه التسمية، ولم يقبلن التمييز بين كتابة الرجل وكتابة المرأة، منطلقات من أن الأدب هو الأدب سواء أكتبه رجل أم امرأة، بيد أني وبحكم غوصي في هذا المجال، أعي تماما الفروقات بين الطرفين في الوعي والتجربة والرؤيا والأسلوب، وأفهم التمييز على أنه نوع من الخصوصية لكل طرف، وليس فيه أيّ مجال للتفاضل بينهما.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.