إضاءة في سجلّ الثقافة العربية المعاصرة

الثلاثاء 2022/02/01
لوحة: أسامة دياب

“الجديد” جسّدت خلال مسيرتها ما تشتمل عليه حروفها من معانٍ وما تستبطنه وتنفتح عليه من تأويلات كذلك، ففتحت ملفات عديدة بجدّية، وحاولت طرح الكثير من الأسئلة الجريئة في زمن هدأت فيه الأصوات الحادّة والجادّة والمنتقدة، ابتعدت عن الاستقطابات، وسعت لأن تعبّر عن الجديد في عالم الفكر والثقافة والفلسفة والأدب والفنّ في العالم العربيّ، فكانت خير ممثّلة لزمن بدا في كثير من منعطفاته كابوسيّاً مَدمياً يسير في أنفاق معتمة نحو غد ملبّد بالغيوم بدوره.

ألقت “الجديد” في كلّ عدد من أعدادها على مدار السنوات الست الماضية حجراً في مياه بدت راكدة هنا وهناك، حرّكتها وضخّت أفكاراً جديدة في ثناياها في مسعى منها لتحريرها من أيّ بؤر يمكن أن تسير بها إلى الاستنقاع أو تصمها به.

اجتهدت “الجديد” في طرق أبواب التجديد في الفكر والأدب والفنّ والثقافة، قدّمت كثيراً من الأصوات الجديدة، من مختلف أنحاء العالم العربي ومن المهاجر، تلك الأصوات التي وجدت فيها منبراً حرّاً ومستقلاً وجسراً نحو مستقبلها المنشود، وبذلك شكّلت حلقة الوصل بين اليوم والغد، تأخذ بيد الأدباء الجدد وتطرح آراءهم وتصوّراتهم ومقترحاتهم لقضايا أدبية وفكرية في ملفّات عميقة مع أصوات مفكّرين وأدباء كبار من مختلف أنحاء العالم العربي، لتوصل بين الأجيال وتلغي المسافات وتعبّد المسارات للتواصل والتحاور والتساجل من دون قيود أو شروط.

لم تتردّد “الجديد” في نزع الأقنعة عن إشكالات فكرية وأدبية، وحاولت تكريس ثقافة الاختلاف من دون استعداء، ونقد من دون إساءة أو تجريح، وتقدير الإبداعات في مختلف حقول المعرفة والفكر والأدب من دون بخس الحقوق، ومن دون التعتيم على أيّ صوت مخالف أو مختلف.

تواصل “الجديد” ترسيخ رسالتها بتعميق دور الأدب والفكر في عالم ينحو نحو الإغراق في السرعة لدرجة أنّه يحاول تمييع كلّ شيء في طريقه، وكأنّ المطلوب هو محو ذاكرة الأجيال لتكون من دون ذاكرة، ومن دون ماضٍ يسندها وتتّكئ عليه في رحلتها نحو غدها، وبذلك كانت أحد أبرز حرّاس الذاكرة في راهننا المترع بالإشكالات والمحبطات التي تحاول إظهار السطحية في الكثير من التفاصيل وكأنّها سمة من سمات العصر. ومن هنا كانت الجديد إضاءة في سجلّ الثقافة العربية المعاصرة وستحتفظ بمكانها ومكانتها في الذاكرة والواقع.

المئات من الأسماء الكبيرة نهضت جنباً إلى جنب مع عشرات الأسماء الجديدة بأدوار التحليل والتفكيك والنقد والتجريب بحثاً عن سبل تكفل استمرار نهوض الفكر بدوره التنويري التجديدي الدائم في عالم اليوم، بغية محاصرة المفاهيم السائلة التي تحاول اجتياح ميادين الثقافة والأدب، لذلك مثّلت “الجديد” خطّاً يراهن على العقل والمنطق والابتكار والتجديد ويرسّخ الدور الرياديّ للثقافة في الصحافة وعالم التكنولوجيا الحديثة.

تكامل الموقع الإلكترونيّ لمجلة “الجديد” على الشبكة العنكبوتية مع الإخراج المميز والجمال الإبداعيّ والفنّي للنسخ الورقية لها، وبذلك كانت حاضرة بقوّة وتمّيز في العالمين؛ الرقمي والورقيّ معاً، وأثبتت أنّها قادرة على الجمع بين عالمين وظُفت أدواتهما وتقنياتهما ببراعة واحترافية لافتتين.

مرّت “الجديد” بعدد من المحطّات خلال رحلتها هذه السنوات، وقد كان لي شرف الكتابة والمشاركة فيها منذ عددها الأوّل، وكنت من الشاهدين على انطلاقتها وحضور ندوتها التي أقيمت في لندن في فبراير 2015 بحضور نخبة من أدباء ومبدعين ومفكرين كبار من العالم العربي، لتحتلّ مكانتها في صدارة المجلّات العربية المطبوعة، وذلك بإصرار منقطع النظير على تحدّي الصعاب ومجابهة العراقيل والتغلّب عليها، وتحقيق الإنجاز تلو الآخر، بحيث أنّ كلّ عدد كان إضافة إلى ما سبقه، وكانت تمضي برحلة تصاعدية متجدّدة تراهن على الجدّة والجدّية والتجديد في كلّ ما تطرحه وتقاربه وتتعمّق فيه.

بقيت “الجديد” راقية ومتجدّدة بجهود رئيس تحريرها الشاعر نوري الجراح الذي تفانى في تقديم الأفضل بهمّة عالية وصبر لا يعرف الكلل، وبمتابعة حثيثة وكرم من ناشرها الدكتور هيثم الزبيدي الذي حرص على استمرارها بالشكل الأنسب والصيغة المثلى، بالإضافة إلى مشاركات الأدباء والمفكرين الذين أثروها بأفكارهم ورؤاهم لتكون خير معبّر عن واقعنا وخير شاهد على ما نضح به من متغيرات ومفاجآت.

هنيئاً للثقافة والفكر والأدب في العالم العربي بهذه المجلّة الرائدة الراسخة وهنيئاً للأدباء، المكرّسين والجدد، بهذه المساحة الإبداعية الجميلة التي تضيء جوانب من الطريق إلى المستقبل بوعي وصدق ومسؤولية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.