أدب الاعتراف ومسوغات الغياب
البحث في هذا المضمار دائما يكون بمحاكاة الغرب كمركز، مقابل أطراف تتم مقارنتها بسلوك مركز ثقافي حداثي، وهذه المحاكاة فيها الكثير من التجني على الثقافة العربيّة؛ لأن الغرب ذاته ليس واحدا في هذا الجانب، فالثقافة الغربية التي عرفت بهذا أكثر من غيرها خصوصا في ألمانيا وفرنسا، إذ ثمّة اختلافات ثقافيّة واجتماعيّة واضحة المعالم حتى في الثقافة الغربيّة.
كيف إذن نحاكي الثقافة العربيّة بالثقافة الفرنسيّة، فهناك تباين في الكثير من الجوانب، والمحاكاة أساسا مرفوضة، وما يبقى سوى المقارنة والتوصيف لما هو قائم وتعليله. الأمر الآخر أن هناك في الثقافة العربيّة تداخلا وخلطا في بعض الأحيان بين مفهوم السيرة الذاتيّة وما يسمى بـ”أدب الاعتراف”، حيث كانت السيرة الذاتيّة هي تأريخ لحياة الإنسان، خصوصا هؤلاء الذين لهم أدوار مؤثرة في المجتمع ويجد الناس متعة في معرفة بداياتهم ومشوار حياتهم، بوصفهم أنموذجا للنجاح والتأثير المعنوي.
أدب الاعتراف رهانات الواقع
يذهب بعض النقاد إلى أن الترجمة الذاتية بالمفهوم الحديث لم يكن لها وجود في الأدب الغربي قبل عام 1600. ثم ظهرت بعد ذلك التاريخ الواحدة تلو الأخرى، في فترات طويلة إلى أن كانت سنة 1800، حيث أخذ الكتاب يتوخون ما يشبه السنن الأدبية في كتابتها، دون أن يبلغوا مبلغ الطريق الجديدة التي يمكن أن يقال معها إنهم اصطنعوا جنسا جديدا من الأجناس الأدبية. (الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث: يحيى إبراهيم عبدالدايم، ص12).
لكن الترجمة الذاتية، ليس هي تلك التي يكتبها صاحبها على شكل “مذكرات” ويعنى فيها بتصوير الأحداث التاريخية، أكثر من عنايته بتصوير واقعه الذاتي. وليست هي التي تكتب على صورة “ذكريات”، يعنى فيها صاحبها بتصوير البيئة والمجتمع والمشاهدات أكثر من عنايته بتصوير ذاته. وليست هي المكتوبة على شكل “يوميات”، تبدو فيها الأحداث على نحو منقطع غير رتيب، وليست في آخر الأمر “اعترافات” يخرج فيها صاحبها على نهج الاعتراف الصحيح. وليست هي الرواية الفنية التي تعتمد في أحداثها ومواقفها على الحياة الخاصة لكاتبها، فكل هذه الأشكال فيها ملامح من الترجمة الذاتية، وليست هي؛ لأنها تفتقر إلى الكثير من الأسس التي تعتمد عليها الترجمة الذاتية الفنية. (يحيى إبراهيم عبدالدايم، الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث، ص3).
أما أدب الاعتراف وأعتقد أنه مفهوم حديث يتم توظيفه مع مفاهيم وأجناس الأدب الحداثي.أي كونه ارتبط بمفاهيم جاءت بها الحداثة وظهور مفهوم الفرد أو الذات المفكرة وما يتعلق بالتذاوت بين الذوات على صعيد الحوار والتواصل المعرفي والثقافي وما ارتبط بالتواصل الحديث مع ظهور سلطة الإعلام والمجتمع العمومي في الغرب.
وظهرت حالة من التواصل الثقافي سميت “بأدب الاعتراف” يقوم على البوح والإفصاح والمكاشفة من جانب الكاتب أو المبدع الذي يتصدّى له، وهذا النوع من الأدب يأتي في طليعة ومقدمة الأدب الغربي، إذ دوّنه أصحابه بصراحة مؤلمة وربما بنوع أقرب إلى تطهير النفس أو جلد الذات، فهكذا أدب ارتبط مع ممكنات الحداثة بظهور سلطة الإعلام والتواصل الحديثة ومعها ولد هذا الشكل الجديد من الأدب فهو ممكن التأصيل؛ إلا أن الإشكالية مختلفة عما هو موجود في التراث الغربي والتراث العربي فهناك أشكال متنوعة من آداب متنوعة تدخل في مجال ديني وإبداعي، إلا أني أجد أن هذا الأدب ارتبط بإشكاليّة معاصرة مع ظهور مفهوم حديث للمثقف أو المبدع يتمتع بخصوصيّة فرديّة واستقلال ما وهو مفهوم حديث لم يكن متوافرا قبل الحداثة وإن كانت هناك أسماء وتجارب قابلة للدراسة؛ إلا أن المفهوم حداثي بامتياز وهذه الفرضيّة هي التي انطلق منها لمقاربة الأمر. وتبيان خصوصيّة كل مجتمع وأفق الحريات وممكنات الإعلام أيضا وظهور الأجناس الحديثة من التعبير مثل الروايّة.
عرف هذا الأدب بكونه جامعا بين الصدق في التعبير والشجاعة في الطرح والعمق في التصوير والتأثير في المتلقي الشغوف بمتابعة أسرار الكتّاب والمشاهير عامّة وهذا ما جعل المؤسسات الثقافيّة ودور النشر تعمل على دعم تلك الآداب؛ لما لها من رواج بين القراء. لكن ثمة أيضا أمرا مهما، وهو أن هذه الكتابة المغايرة للمزاج الوجداني للشعب العربي الذي يحب التورية ويكره المكاشفة والمصارحة حتى لو كان الهدف منها تطهير الذات والخلاص النفسي، ولذلك فإن هذا الأدب المكشوف مازال مرفوضا في المجتمعات العربيّة
فالمذكرات على سبيل المثال، هي “سرد كتابي لأحداث جرت خلال حياة المؤلف، وكان له فيها دور، وتختلف عن السيرة الذاتية بأنها تخص العصر وشؤونه بعناية كبرى، فتشير إلى جميع الأحداث التاريخية التي اشترك فيها، المؤلف، أو شهدها، أو سمع عنها من معاصريه، وأثرت في مجرى حياته”، (جبور عبدالنور، المعجم الأدبي، ص246). وبالتالي هذا النمط من التجنيس وما ارتبط به من ظهور فئة من المثقفين يتمتعون بحريّة فرديّة جعلتهم يتمتعون باستقلاليّة عن المحيط الاجتماعي يمثل حالة نادرة قبل الحداثة، وبالآتي فهكذا فن اتّسم بالذاتيّة وارتبط بالآداب الغربيّة وخصوصا الفرنسيّة منها، حالة تختلف تماما عن الحالة الدينيّة التي تعرف بفكرة الاعتراف الكنسيّة، فتلك عامّة ومرتبطة بطقس ديني لا علاقة له بهذا النمط من الأدب الذي يتمتع بخصوصيّة استقلال المثقف من ناحية والطابع الإشهاري الذي يجعل منه الإعلام وسيلة ممكنة للربح والترويج والإمتاع.
مع بقاء الهدف هو التطهر الذي يذكرنا بأحد أهداف المسرح “التطهير”، وقد أصبح وسيلة لهذا الجنس الجديد بوصفه وسيلة لراحة الضمير والاعتراف معتمدا على أشكال أدبيّة حداثيّة (مثل المذكرات والرسائل والسير الذاتيّة)، إذ أنها ظهرت لدى فلاسفة التنوير وأدباء الحداثة المبشرين بتحول جديد للحداثة (مثل جان جاك روسو وبودلير ونيتشهو أوسكار وايلد أو أندريه جيد أو جان جينيه أو يوكيوميشيما).
فهكذا أفق حديث ظهرت داخله أشكال جديدة إبداعيّة يمكن من خلالها التعبير عن الذات العارفة أو المبدعة، فقد امتاز هذا الشكل الجديد في ظل أجواء أكثر انفتاحا أخذ خلالها الكثير من الفلاسفة والمبدعين يبشّرون بولادة الفكر التنويري والحداثي فهو يمهد إلى خلق قطيعة مع أشكال ثقافيّة واجتماعيّة وأدبيّة ارتبطت بالعصر الوسيط وهيمنة الكنيسة؛ فقد ظهرت بوادر الحريّات من خلال أفكار وفلسفات تعلي من قيمة الفرد واستقلاله عن الجماعة، ومن بين أشكال التعبير فيها كان أدب الاعتراف، هذا النوع الأخير يعدّ ركنا من أركان الكتابة الذاتيّة؛ لكنه يختلف عن السيرة الذاتيّة وإن تداخلت جملة من الصفات المشتركة.
لكن يبقى الاعتراف جنسا أدبيا يقرر من خلاله صاحبه البوح والإفصاح عن حياته الشخصيّة وعلاقته مع غيره، ويلاحظ بحذر، الطول المتفاوت لهذه النصوص في أدب الاعتراف أو السيرة الذاتية، ومكانتها المختلفة، لدى العلماء الأوائل والسياسيين والشخصيات الدينية الذين انخرطوا في فعل الكتابة عن حياتهم الخاصة، بصرف النظر عن نمط النصوص التي أنتجوها. ففعل الكتابة عن حياة الإنسان، وليست الخصائص الشكلية للنص الناتج، هو الذي كان يحدد السيرة الذاتية، بل كان يستعمل تعبيرا فعليا، فيقول “ترجم نفسه”، أو “ترجم لنفسه”، وهي عبارة تدل، من بين ما تدل عليه من معان مترابطة (انظر ما سيأتي)، على مكتوب للذات أو النفس. (دوبت راينودز، السيرة الذاتية في الأدب العربي، 2009، ص21)
أما في الثقافة العربية فأدونيس يحاول إيقاظنا من سباتنا العميق وغفوتنا الثقيلة حين قال في إحدى الندوات الثقافيّة “ليس لدينا حتى الآن أدب الاعترافات، فالشخص العربي دائما يشاهد نفسه يولد ويكبر ويموت إنسانا معصوما من الخطأ”. قد يكون هذا حكما لقيمة نبدأ به في الحديث عن أدب الاعتراف في الثقافة العربيّة، وهل هي فعلا عرفت هذا النمط من الأدب؟
في بحثنا عن نماذج تأصيلية من أدب الاعتراف في الثقافة الوسيطة والقديمة، رغم أننا نرى أدب الاعتراف أدبا ارتبط بالحداثة وحرية التفكير لكن التأصيل يكشف لنا نماذج مختلفة عاشت حالة التحول، ومن هنا جاءت محاولتنا هذه تستهدف الوقوف عند أنموذجين من المفكرين الذين تنقلوا بين موقفين؛ وقد كانت لهم فيها إرادة دنيوية مندفعة -خصوصا أوغسطين- وقد عبر كل منهم عن تلك الحياة وعبر عنه بصورة نقدية كشف عيوبها وما فيها من حب الدنيا وقد جاء التحول من أجل معرفة الحقيقة وإدراك الله
فقد عرف هذا الأدب بكونه جامعا بين الصدق في التعبير والشجاعة في الطرح والعمق في التصوير والتأثير في المتلقي الشغوف بمتابعة أسرار الكتّاب والمشاهير عامّة وهذا ما جعل المؤسسات الثقافيّة ودور النشر تعمل على دعم تلك الآداب؛ لما لها من رواج بين القراء. لكن ثمة أيضا أمرا مهما، وهو أن هذه الكتابة المغايرة للمزاج الوجداني للشعب العربي الذي يحب التورية ويكره المكاشفة والمصارحة حتى لو كان الهدف منها تطهير الذات والخلاص النفسي، ولذلك فإن هذا الأدب المكشوف مازال مرفوضا في المجتمعات العربيّة، وارتياد الأدباء العرب لمجال الكتابة الاعترافيّة لا يزال نادرا. ومن النماذج الأدبيّة في الثقافة العربيّة المعاصرة يأتي: محمد شكري إذ كتب في باب أدب الاعتراف بالمحاكاة مع النماذج الفرنسيّة بل يعدّ في أحيان كثيرة أكثر صدقا في التعبير من كلمات سارتر.
لكن يبقى هناك اختلاف بينه وبين أدب الاعتراف، حيث إن المهيمن هو السيرة الذاتية، وهي “بنية مركبة معقدة، يمكن تفكيكها واستنباط العلاقات التي تربط بين مختلف وظائفها في مسار قصصي معين” (عبدالعزيز شرف،آداب السيرة الذاتية، 1992، ص60). ويعتبر الحدث في السيرة الذاتية “وظيفيا” من حيث “كونه مرتبطا بسلسلة من الإحداث السابقة التي تبرره ومن حيث الأحداث اللاحقة التي تنتج عنه”. (عبدالعزيز شرف، آداب السيرة الذاتية، 1992، ص61). ففي الكتابة الذاتيّة لعميد الأدب العربي طه حسين في “الأيام”، “إن في قصة الأيام الاعترافية الذاتية وظيفتين أساسيتين؛ الأولى أنها تعبير عن الذات في مرحلة التكوين، وهي أهم مراحل العمر، وثانيتهما أنها تعبير عن موقف نفسي خاص، وعن موقف فكري عام يرتبط بزوال المجتمع التقليدي…”. (عبدالعزيز شرف، آداب السيرة الذاتية،1992 ، ص63) وهناك أيضا عباس العقاد في كتابه “أنا”، وتوفيق الحكيم في كتابه “سجن العمر”، ولويس عوض في “أوراق العمر”.
كان لهذه التجارب من المثقفين والكتّاب دور في محاكاة التجارب الغربيّة؛ إلا أن هذه التجارب في نظر مؤرخي الأفكار والبعض من النقاد لم ترتق إلى مستوى التجارب الغربية، صحيح كانت لهذه التجارب “إسهامات بارزة في هذا الاتجاه لكن ظل أدبهم وإبداعهم يدخل في إطار الأدب الذاتي وبعيدا إلى حد كبير عن أدب الاعتراف، إذ كان التدوين يراعي قيما وقيودا اجتماعيّة ترفض الجرأة المطلقة في الحديث عن الذات”.
وبالتالي فالكثير من المواقف النقديّة تعدها مجرد ذكريات أو مذكرات شخصيّة لا ترقى إلى فن كتابة أدب الاعتراف. إلى جانب أدب السيرة الذاتيّة لدى كل من
نوال السعداوي في كتابها “أوراق حياتي” وعائشة عبدالرحمن في مؤلفها “بنت الشاطئ” هناك دائما حديث عن التحولات التي مرّت بها كل منهما في حياتهما، وقد توصلتا إلى الحل في النهاية؛ ولكن مع اختلاف كل منهما في المواقف الفكريّة. وعلى مستوى الكتّاب يأتي ميخائيل نعيمة بسيرته الذاتيّة في كتاب “سبعون”، أمّا نجيب محفوظ فكما كان يلجأ إلى الرمز في أدبه لجأ أيضا إلى الرمز وهو يدوّن بعضا من تجاربه الواقعيّة وجزءا من سيرته الذاتيّة، وفعل ذلك؛ هروبا من مشكلات عديدة لم يرغب في مواجهتها. لكن ثمة أيضا خلافا بين السيرة الذاتية والتاريخ (إن السيرة الذاتية تعتمد على ذاكرة قد تسقط بعض الأمور وتغفل عن بعضها الآخر، أما التاريخ فيعتمد على الوئائق والشهادات). لكن أيضا كل هذه النماذج روت التاريخ الشخصي من منظور تسجيلي أقرب إلى كتابة المواقف والأحداث، من دون الدخول في تفاصيل البوح ولا يمكن أن نسميها بـ”أدب الاعتراف” على الرغم من أن هناك نمطا من السيرة يكشف عن علاقة عاطفيّة كانت سريّة أو غابت عن الجمهور (مثل أنور المعداوي وفدوى طوقان، وغادة السمان وغسان كنفاني، وكوليت خوري والشاعر نزار قباني). فضلا عن القاصّة العراقيّة ديزي الأمير التي كتبت منذ سنوات اعترافاتها وحكت من خلالها تفاصيل حياتها.
هنا لا بد من طرح سؤال عن الغائيّة من محاكاة الأنموذج الغربي في أدب الاعترافات على الرغم من خصوصيّة التجربة العربيّة اجتماعيا وثقافيا، وما هي القيمة الأخلاقيّة والمعرفيّة من نشر وقائع شخصيّة إذ يراها المجتمع من ضمن خانة المساوئ والانحرافات التي تعرّض لها أو ارتكبها الأديب شخصيا؛ ليقرأها الجمهور على المستوى العام. هل لها اثر أدبي أو أخلاقي أو تدخل في باب الشفاء من تكرار الأخطاء العاطفيّة أو الأخلاقيّة. فالرغبة في الإشهار ولدى الجمهور المولع بمتابعة الهفوات والنواقص للمشاهير وبين رغبة دور النشر والإعلام في إشباع تلك الرغبة تكون بما يعود عليهم بالفوائد الماديّة.
أدب الاعتراف ورهانات التراث (أوغسطين والغزالي )
في بحثنا عن نماذج تأصيلية من أدب الاعتراف في الثقافة الوسيطة والقديمة، رغم أننا نرى أدب الاعتراف أدبا ارتبط بالحداثة وحرية التفكير لكن التأصيل يكشف لنا نماذج مختلفة عاشت حالة التحول، ومن هنا جاءت محاولتنا هذه تستهدف الوقوف عند أنموذجين من المفكرين الذين تنقلوا بين موقفين؛ وقد كانت لهم فيها إرادة دنيوية مندفعة -خصوصا أوغسطين- وقد عبر كل منهم عن تلك الحياة وعبر عنه بصورة نقدية كشف عيوبها وما فيها من حب الدنيا وقد جاء التحول من أجل معرفة الحقيقة وإدراك الله.
القديس أوغسطين
في مقاربتنا هذه نحاول البحث عن نماذج مهمة في مجال أدب الاعتراف قدمت رؤية تقويمية لحياتها وسردت أحداث حياتها بشجاعة منقطعة النظير وأصبح خطابها يشكل سلطة لها ثقلها الإيماني والقيم في نفس الوقت.
نحن هنا نتعامل مع شخصية لها مكانتها الكبيرة في الفكر المسيحي عامة وفكر العصر الوسيط خاصة؛ إذ “يعتبر أوغسطين أعظم من ترك أثرا في الفكر اللاهوتي المسيحي في الفترة ما بين بولس الرسول والقديس توما الإكويني”. (فايز فارس، علم الأخلاق المسيحية ج2، ص28.)، لهذا حاول تأكيد المسيحية وتقديم أدلة عليها “فإذا كان ما يميز المسيحية عن الوثنية أن الثانية دعامتها الأسطورة، أما الأولى فدعامتها التاريخ”. (زينب الخضيري، لاهوت التاريخ عند القديس أوغسطين، ص57.) وبالتالي فقد عرف أوغسطين بمكانته في الثقافة والخطابة والفكر حتى عدّ معلما للبلاغة وأستاذا ومحاضرا فيها، وفي شبابه عاش أوغسطين حياة استمتاعية، ففي قرطاجة كانت له علاقة مع امرأة ستكون خليلته لمدة خمسة عشر عاما. خلال هذه الفترة ولدت له خليلته ابنا. لكن أيضا “قام بقراءة كتاب الإنجيل يدفعه في هذا تأثير أمه عليه، ذلك التأثير الذي يجذبه للعقيدة بينما ميله العقلي يجذبه إلى الفلسفة”. (نفس المصدر ص13-14)
ولقد وصل أوغسطين إلى ما وصل إليه في معنى الحياة المسيحية بعد رحلة طويلة من المعاناة والصراع الفكري والنفسي والروحي، وقد سجل خواطره الرائعة عن هذه المعاناة في كتابه “الاعترافات”، “الذي يعد قمة الاعترافات الدينية، وقد حذا حذوها من كتب بعده”. (يحيى إبراهيم عبدالدايم، الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث، ص13)، إذ كتب اعترافاته في ثلاثة عشر كتابا، وهي ليست اتهاما ضد نفسه بقدر ما هي شهادة حية… (الاعترافات، ص5) وهي شكل مبكر من أدب الاعتراف يصف به حياته عبر سيرة ذاتية يتخللها الاعتراف بأدق حياته الشخصية وعلاقاته بالمرأة وحالات الشباب وما فيها من انفعالات إذ بعد عجز والديه عن تأمين سفره إلى قرطاجة لمتابعة دروسه انفتح أمامه باب اللهو واسعا؛ ولها بأقدس المحرمات؛ وتعرف إلى امرأة، ساكنها واستولدها طفلا سماه إديودات… وطلب أوغسطين الحقيقة، في شهوات الجسد، فأخفق، بيد أنه لم يكفر بها ولا انقطع عنها. (الاعترافات، ص1-2) يبدو أنها اعترافات تقترب من اعترافات الطقوس المسيحية وأيضا تدخل في أدب المناجاة بين العبد وربه من أجل التكفير عن الذنوب والهداية، إذ يقول في بداية اعترافاته في الكتاب الأول “هب لي يا رب أن أعرف كيف أبدأ وأدرك؛ أأدعوك أولا ثم أسبحك؟ أم أعرفك فأدعوك؟ وأنّى لي أن أدعوك قلا أن أعرفك؟ وقد يدعو، من لا يعرف، واحدا، بدلا من آخر. وهل ادعوك أولا، ثم أعرفك؟ وأنّى لي أن أدعو، وأنأ غير مؤمن؟ أم كيف أومن وليس هناك من يبشرني؟”.
(الاعترافات، ص7) يبدو انه يجعل في أول أدب الاعتراف، قيمة المعرفة والإدراك في معرفة الله فالمعرفة هي الأساس والباب الذي نهتدي منه إلى الله، وهذه القاعدة حاضرة في تطوره الفكري إذ كان يرى أن الناموس في حد ذاته صالح؛ فإن الناموس يحتوي على تعاليم البر التي يجب أن نضيفها، ولقد أشار أوغسطين في أكثر من مناسبة إلى أن المسيحي مطالب بحفظ الشريعة الأدبية. ونقطة الضعف ليست في الناموس، فالناموس يعبر عن مشيئة الله، لكن إرادة الإنسان الشريرة ترفض أن تطيع الناموس، أو تحاول طاعة الناموس لدوافع أخرى غير المحبة، وطاعة الناموس لدوافع ذاتية أنانية لا يمكن أن تكون خيرا. والمشكلة في عجز الإنسان عن التصرف بحسب ما يعرف. لذلك فالإنسان لا يمكنه أن يصل إلى البر ما لم يوقظ الله فيه الإيمان والمحبة.
(علم الأخلاق المسيحية، فايز فارس، ج2، ص31)، إن أحداث الماضي ورموز الحاضر تحتاج إلى تأويل من قبل المؤرخ ليكشف له عن الحقيقة الكلية التي تستتر وراءها. وما هذه الحقيقة الكلية إلا حقيقة التاريخ البشرية منذ الخلق حتى اليوم بل وحتى الأبد في الحياة كما أرادها الله. ( زينب الخضيري، لاهوت التاريخ عند القديس أوغسطين، ص60)، ويقول أوغسطين “لقد أعطى الناموس حتى نطلب النعمة، ولقد أعطيت النعمة حتى نكمل الناموس″.
وصل أوغسطين إلى ما وصل إليه في معنى الحياة المسيحية بعد رحلة طويلة من المعاناة والصراع الفكري والنفسي والروحي، وقد سجل خواطره الرائعة عن هذه المعاناة في كتابه “الاعترافات”، وقد حذا حذوها من كتب بعده”. إذ كتب اعترافاته في ثلاثة عشر كتابا، وهي ليست اتهاما ضد نفسه بقدر ما هي شهادة حية… وهي شكل مبكر من أدب الاعتراف يصف به حياته عبر سيرة ذاتية يتخللها الاعتراف بأدق حياته الشخصية وعلاقاته بالمرأة وحالات الشباب
(علم الأخلاق المسيحية، فايز فارس ج2، ص31) فالخيار المعرفي مرتبط أيضا بالإرادة الحرة إذ أن الإنسان عند الخليقة في جنة عدن كان يحب الله بحرية في سعادة وطاعة كاملة، لكنه باختياره الحر ابتعد بإرادته بعيدا عن الخالق، وهبط إلى مستوى سائر المخلوقات، بل بالأحرى اتجه إلى ذاته، أي أنه اختار أن يكون تحت سلطان ذاته لا تحت سلطان الله… هذه هي الخطيئة الأولى، وهي لا تنبع من الكراهية أو نقص المحبة، ولكنها أتت من التوجيه الخاطئ للمحبة وبهذا سقط آدم ونسله… وعلى ذلك فالخلاص ليس ممكنا إلا بنعمة الله كما أظهرت في المسيح وكنيسته. (نفس المصدر ،ج2، ص32)، وهذا ما نلمسه في دعاء أوغسطين “سوف أعرفك يا من تعرفني، سوف أعرفك كما تعرفني؛ ادخل إلى نفسي يا قوام نفسي واسكن فيها واملك عليها وحوّلها إليك، منزهة عن كل عيب”.
(الاعترافات، ص193) الحياة المسيحية الصالحة لا تبنى على الإدراك العقلي، ولا على السلوك الظاهري، إنما على الإرادة الباطنة، ذلك، لأنه عندما نسأل الإنسان عمّا يؤمن به وما يرجوه إنما نسأله عما يحبه. بالضرورة الأولى للصلاح الأخلاقي هي اتجاه الإرادة نحو الله ومحبته، فهي المنبع الذي تصدر عنه كل قراراته الأخلاقية، لذلك يقول أوغسطين “أحبب الله وما تريده افعله” ( فايز فارس، علم الأخلاق المسيحية، ج2، ص32) وهو الإدراك الذي لم يرثه أوغسطين عن أبيه الوثني ولا عن أمه المسيحية، بل عاش تجربة وجودية فردية عبر عنها بأدق تفاصيلها من خلال الاعترافات التي قادته من حالة إلى أخرى مختلفة عاشها وجرب نتائجها بعقله وقلبه أيضا فهو يصفها بكل تحولاتها، فهو يصف الإنسان “فإن الله بشهادة الكتاب المقدس، خلق الإنسان مستقيما، ذا إرادة صالحة؛ قبلها الإنسان منه تعالى مع الحياة.
أما الإرادة الأولى الشريرة التي سبقت في الإنسان كل الأعمال العاطلة فليست عملا بل هي انكفاء عن أعمال الله إلى أعمال الإنسان”، يوضح أوغسطين أن هناك نوعين من المجتمعات يسيران جنبا إلى جنب؛ أحدهما هو نوع “جماعة المؤمنين”، تربطهم معا محبة الله، وهذا المجتمع يبدأ من آدم حتى الكنيسة المسيحية، والمجتمع الثاني هو “مجتمع الأرض” المؤسس على حب السلطان وهذا الحب هو الصورة السياسية للكبرياء ومحبة الذات، هما المدينتان تسيران جنبا إلى جنب حتى نهاية الزمان؛ ولكن خطة الله هي أن تنتصر مدينة الله في الدينونة.
( فايز فارس، علم الأخلاق المسيحية، ج2، ص33). وفي سياق اعترافاته يؤكد أن إرادة الله أتاحت للإنسان أن يختار “وهكذا فقد هيأت لي خيرا ممن أساؤوا التصرف؛ ومني، أنا الخاطئ، أعددت لي أجرا مستحقا، لأنك قد أمرت بأن تكون، كل نفس تعيش في فوضى داخلية، وبالا على ذاتها. لقد أمرت ولا مردّ لأوامرك”.
(الاعترافات، ص19)؛ وعن مسيرته الشخصية في شبابه، يقول “لقد زنيت بعيدا عنك لأني لم أحبك وفي فحشائي سمعت أصواتا صاخبة حولي تقول «نعما، أحسنت» صداقة الناس، بدونك، زنى وفحشاء”. (الاعترافات، ص20)، إلا أنه يؤكد أن اختياره وبحثه وتحولاته إلى المانوية والأفلاطونية المحدثة في مسيرة بحثه عن الحقيقة، يعبر عنها معترفا “لقد أخطأت كثيرا في حداثتي يوم فضلت هذه الترهات على تلك المؤلفات النافعة”. (الاعترافات، ص21). ويصف الحالة والعلوم التي كان يتعلمها، الفنون الحرة التي لم تحقق له الأمن والسعادة إذ يقول “وما فائدتي منها وأنا الرقيق المستعبد لشهوات شريرة؟ وجدت فيها لذة ولم أميز ما فيها من حقيقة وصواب”. (الاعترافات، ص76). “لقد تحدث أوغسطين في اعترافاته عن حياته الباكرة، ومحبته لأمه، وبحثه عن الحقيقة الفلسفية، وكفاحه ضد الشهوات والخطيئة”.
(عبدالعزيز شرف، آداب السيرة الذاتية، 1992، ص39). نجده في مكان يصف التكبر الذي يعيب العلماء ويجعلهم يبتعدون عن الله ويعيشون الفقر والجهل الباطني، يقول عنهم في اعترافاته “ينحرفون عن نورك العظيم بسبب كبريائهم الأثيمة ويتحدثون عن كسوف الشمس المقبل، متعامين عن الكسوف الباطني الذي يعتريهم؛ لأن أبحاثهم خالية من روح التقوى”. (الاعترافات، ص80).
الشيخ الغزالي (1058 – 1111)
إن البحث عن أدب الاعتراف يظهر لدينا هذه المرة لدى احد أعلام الإسلام هو أبوحامد محمد الغزّالي، أحد أعلام عصره وأحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، كان فقيها وأصوليا وفيلسوفا، وكان صوفيّ الطريقة، شافعيّ الفقه، وكان على مذهب الأشاعرة في العقيدة، كان له أثر كبير وبصمة واضحة في عدّة علوم مثل الفلسفة، والفقه الشافعي، وعلم الكلام، والتصوف، والمنطق، ولد وعاش في طوس، ثم انتقل إلى نيسابور ليلازم أبا المعالي الجويني (الملقّب بإمام الحرمين)، فأخذ عنه معظم العلوم، ولمّا بلغ عمره 34 سنة، رحل إلى بغداد مدرّسا في المدرسة النظامية في عهد الدولة العباسية بطلب من الوزير السلجوقي نظام الملك. في تلك الفترة اشتهر شهرة واسعة، وصار مقصدا لطلاب العلم الشرعي من جميع البلدان، حتى بلغ أنه كان يجلس في مجلسه أكثر من 400 من أفاضل الناس وعلمائهم يستمعون له ويكتبون عنه العلم.
تظهر المكانة التي كان يشغلها الغزالي في الدولة من كونه كان مثقف الدولة والمدافع عنها في حقول: الفقه، وعلم الكلام، وبالتالي هو من كان يمنح الدولة الشرعية الدينية؛ لأن الدين في العصر الوسيط كان مصدر الشرعية؛ إلا أن الرجل تعرض إلى تحول كبير في حياته جعله يزهد في الدنيا ويميل إلى التصوف وقد حدث هذا بعد أربع سنوات من المكانة التي شغلها في بغداد، فقد انتصر في مرجعيته لجانب التصوف على باقي الاهتمامات الفقهية والكلامية والفلسفية، فأصبح التصوف هو الموجه له وهو من قاده إلى التحول في رحلة طويلة استمرت إحدى عشرة سنة، تنقل خلالها بين دمشق والقدس والخليل ومكة والمدينة المنورة، كتب خلالها “المنقذ من الضلال” وكتابه المشهور “إحياء علوم الدين” خلاصة لتجربته الروحية، عاد بعدها إلى بلده طوس متخذا بجوار بيته مدرسة للفقهاء، وخانقاه (مكان للتعبّد والعزلة) للصوفية.
كان الغزالي (الصوفي ينقل لنا تجربة ذاتية تتصل بعالم غير مألوف لنا، في لحظات فورية فجائية، يخرج فيها عن شعوره الواعي، محلقا بعيدا عن عالمنا. يخرج فيها عن شعوره ثم لا يلبث وعيه أن يرتد إليه، فيصور مواجيده وما شاهده في تجربته الكشفية تصورا صادقا. (الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث، يحيى إبراهيم عبدالدايم، ص14).
إن التحول الذي عاشه الغزالي في رحلته هذه كان يجسد حالة من المراجعة والتأمل والعبادة إذ عَكَف على القراءة والدراسة، وشعر أن تدريسه في النظامية مليء بحب الشهرة والعُجب والمفاسد، عند ذلك عقد العزم على الخروج من بغداد، يقول عن نفسه: “ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي -وأحسنها التدريس والتعليم- فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة. ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشرفت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال.. فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريبا من ستة أشهر أولها رجب سنة 488 هـ. وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوما واحدا تطييبا لقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة. ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب”.
فكان خروجه من بغداد في ذي القعدة سنة 488 هـ، وقد ترك أخاه أحمد الغزّالي مكانه في التدريس في النظامية ببغداد. وقد خرج إلى الشام قاصدا الإقامة فيها، مُظهرا أنه متّجه إلى مكة للحجّ حذرا أن يعرف الخليفة فيمنعه من السفر إلى الشام. فوصل دمشق في نفس العام، ومكث فيها قرابة السنتين لا شغل له إلا العزلة والخلوة، والمجاهدة، اشتغالا بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق. فكان يعتكف في مسجد دمشق، يصعد منارة المسجد طول النهار، ويغلق على نفسه الباب، وكان يكثر الجلوس في زاوية الشيخ نصر المقدسي في الجامع الأموي[؟] والمعروفة اليوم بـ”الزاوية الغزالية” نسبة إليه. بعد ذلك رحل الغزالي إلى القدس واعتكف في المسجد الأقصى وقبة الصخرة. ثم ارتحل وزار مدينة الخليل في فلسطين، وما لبث أن سافر إلى مكة والمدينة المنورة لأداء فريضة الحج، ثم عاد إلى بغداد، بعد أن قضى إحدى عشرة سنة في رحلته، وقد استقر أمره على الصوفية. بعد ترحال طويل بين مصر ودمشق وبغداد ثم عودته إلى طوس.
مما جعل منه في نظر مؤرخي الأفكار “أحد مترجمي الصوفية فقد صور سلوك المتصوفة الذين صنفوا أنفسهم وعرضوا سيرهم، كما يعد أكبر عقلية خدمت الشريعة والتصوف، فقد وقف حياته على التوفيق بين الاتجاهين، ويعد كتابه «المنقذ من الضلال» أشهر كتب الصوفية في أدب الاعتراف بلا منازع، فقد ألفه الغزالي بعد أن نيف عن عمر الخمسين، حين شاهد اضطراب الفرق واختلاف المذاهب”. (ندى محمود الشيب، من السيرة الذاتية في الأدب…2006، ص24). ويوصف كتابه بأنه “كتاب شكٍ ونقدٍ وإلهام ويقين، فهو قصَّة حياةٍ فكريةٍ مضطربةٍ، وصورة نفس مفعمةٍ بالإيمان، مَيَّالة إلى الحقِّ، باحثةٍ عن اليقين، لا بلْ هي قصّة ألم نفسي ونزاع عميق بين العقل والإلهام، كتبه الغزالي بأسلوب سهل عليه طابع الصدق والأمانة والبساطة والنقاء حتى جاء أوحد نوعه في الثقافة الإسلاميَّة وقليل الشبيه في الأدب العالمي بأسلوبه ومنحاه ووحدة غرضه واستقامة منهجه”. (مهدي شاكر العبيدي، هوامش على كتاب “المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال”، 24-6-2012).
فهو يصف منهجه وغايته منه “ولم أزل في عنفوان شبابي (وريعان عمري)، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجّة هذا البحر العميق، وأخوض غَمرَتهُ خَوْضَ الجَسُور، لا خَوْضَ الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتـهجّم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين مُحق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيّا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهريّا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنـه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته”.
(المنقذ من الضلالة، ص5) فهذا الوصف يبين الرغبة التي كانت تحركه وتدفعه إلى التحقق والفحص التي تمثلت في كتاب “المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال”، حيث إنه “نتاج هذا الصراع النفسي المحتدِم في أعماق نفس تصطخب فيها الأشجان والآلام، وسَرد لحكايةِ هذا التمزُّق الروحي المبرح، حتى كانت تلك الخلوة حاجزا عن العالم وما فيه من صراعات، وقتذاك للهجمات الصليبية الوافدة أرتالها من أنحاء أوروبا”. (هوامش على كتاب “المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال”).
لقد كان منهجه يقوم على التيقن فقد اختبر المحسوس والمعقول، إلا أنه نبذه، “فبقي لمدة شهرين على هذه الحال (الشك من دون ثوابت ويقينيات). ثم عادت ثقته لليقينيات العقلية لا بدليل، بل بنور قذفه الله في قلبه”. وبذلك وثق بطريق “الكشف”. وسبيله ليس نظما وبرهنة، بل هو ترصّد له بالزهد والتعبد، ويأتي في مرتبة لاحقة بعد طلب المطلوبات المعلومة حتى يبلغ مرتبة طلب ما لا يُطلب؛ لهذا كانت كتابة “المنقذ من الضلال” تعبيرا عمّا سبق وتأكيدا على أن صنف “السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم هو صنف يصور الصراع الروحي، وهذا واضح في كتاب الغزالي المنقذ من الضلال”. (إحسان عباس، فن السيرة، 1956، ص123-124). ويقدم الغزالي توصيفا عميقا لما كان يعيشه من تجربة روحية يصفها بالقول “كان التعطش إلى أن إدراك حقائق الأمور، التي هي دأبي وديدني من أول ريعان عمري، غريزة وفطرة من الله، وضعتا في جبلتي لا باختياري”. (الغزالي، المنقذ من الضلال، ص76).