أدغال الحداثة

الخميس 2021/04/01
لوحة: إبراهيم بريمو

1

هذا السّؤال لم يكن يخطر على البال لأن الكتابة لم تكن مفكرا فيها بالنسبة إليّ، وإنما مجرد استجابة لنداء داخلي لم أجد إليه سبيلا إلا لغة الأعماق، دعاني منذ نعومة أظافري فتداعيتُ له دون أن أعثر لسلطانه على تفسير. هو بالتأكيد ذو صلة بسحر الجميل وغوايته، لكنه لا يسلم من مؤثرات كثيرة تتفاعل فيما بينها وتخلق حاجة داخلية للبوح شعرا. كان ذلك في البدايات، أما الآن وقد أصبحت الكتابة الشعرية جزءا لا يتجزّأ من الكينونة، فقد أخذت تشكّل شرطَ وجودٍ أشعر بأنّه يمّحي تماما عندما تهجرني القصيدة.

2

من الصّعب أن أطلّ على نفسي من شرفة عالية وأنا أتجوّل في حدائق الشعر. لكنني واعٍ بأنني منشغل لا شعوريا بقارئ ضمني مسكون بالشعر. أعرف أن النقاد قراء محترفون يندرج بعضهم ضمن هذا القارئ الذي أتقصّده، لكنني لا أبالي ببعضهم إن كان لا يهمّه إلا البريق الخادع ولا يعنيه أيّ خارجيّ متمرّد، أو فوضويّ يجترح له مجرى غيرَ مألوف، تتطلب الإحاطة بعالمه حفرا في الصخر وكثيرا من حذق العرافة. عموما ما لم يلتفت إليه أغلب النقاد هو الحساسية الشعرية المفرطة تجاه الإيقاع، مصحوبة بحس درامي مسكون بروح الأسطوري وما يقيمه من حوار مستمر مع عواصف الحداثة بشتى تجلياتها.

3

ليست الكتابة مجرد نزوع شخصي ودوافع ذاتية، فهي بالإضافة إلى تفاعلات السيرذاتي والمعيش اليومي والتجارب الشخصية وانصهارها في بعضها البعض بما هي روافد تشحن مخيال الكتابة، تعدّ أيضا جهدا تناصيا لا تكف القراءة عن تخصيبه. وهذا لا يعني أنها استنساخ يدور في فلك التكرار والاستعادة البئيسين. في ظني أن رحلاتي الطويلة في أدغال الشعر العربي والعالمي كانت كافية لجعل عدد لا يستهان به من الشعراء المحدثين يتركون بصمات مضيئة أثّرت في مساري، من بينهم أدونيس الذي تماهى مع أساطير الموت والانبعاث لدرجة أصبح معها أسطورة موازية دونما تنافر، ومحمود درويش الذي شكل نموذجا للشاعر الذي يستطيع صياغة القضايا الإنسانية الكبرى صياغة جمالية باهرة عارفا بحذق كبير كيف يمزج الماء بالنار، وصلاح عبدالصبور الذي ارتقي بالنص الحديث من مناجاة الذات إلى الانغمار بالدرامية، وأحمد المجاطي الذي كان أول من تمثلته من الشعراء المغاربة، وبنسالم الدمناتي الذي هداني من حيث لا أدري إلى أدغال الحداثة، وانا أتذكر بالمناسبة أنه أول من عرّفني على مجلة “شعر” اللبنانية وأعارني بعض أعدادها.

4

عموما، يندرج هذا الموقف ضمن عدمية سائدة لدى كثير من المثقفين وأشباه المثقفين الذين يجهلون كيف يتطلعون إلى المستقبل ويستشرفونه، معتبرين أن الإبداع في صورته المثلى قد انتهى مع السلف الصالح الذي أغلق الأبواب والنوافذ في وجه أيّ إبداع ممكن ولم يعد ثمة ما يمكن إضافته. هذه الحكاية تأصلت منذ نيتشه على لسان زرادشت، “قديما كان الفكر إلها، ثم إنسانا، وها هو الآن رعاع”، فهل هي لعنة الحداثة يا ترى أم لعنة العود الأبدي؟

إذا كان يُقْصَدُ بهذا الادّعاء هيمنة الرداءة فذلك لا يسوّغ التعميم، ومتى خلا تاريخ الشعر من مسحة رداءة كانت دائما تعثر على موطئ قدم إلى جانب الجودة، حتى إن الجودة لا تبرز إلا بجانب ضدها إسفافا وسطحية.

إن الحديث عن الشعر الحديث بهذه الحدة المتشنجة التعميمية يوهم بأن كل ما كتب من شعر من الجاهلية إلى الآن هو شعر متجانس من حيث جودته لغة وتخييلا ورؤية للعالم. ولعلّ أصحاب هذا الخطاب يجهلون مجانية حكمهم إما بسبب أمية كرّستها برامج تعليمية متخلفة جعلتهم يجهلون خارطة الشعر العربي جهلا مدقعا، أو بسبب ثقافة شعرية سطحية كرّست نموذجا قرائيا حال دون التعرّف على محيطاتٍ جديدة يتطلّب اكتشافها وسبر أغوارها أدوات ووسائل غوص جديدة. وأنا على يقين أن الوطن العربي إذا كان يفخر الآن بشيء فهو لا يفخر لا بديمقراطيات واعدة ولا بفتوحات علمية ولا بتقدم صناعي وإنما بما ما يبدعه فنانوه التشكيليون وما يكتبه أدباؤه شعراء وروائيين ومسرحيين. ولا أظنني أبالغ إذا قلت إن الشعر العربي لا يعاني من أي نقص إذا ما قورن بالشعر العالمي. أليس أدونيس، وقاسم حداد، وعبدالكريم الطبال، وسركون بولص، ومحمود درويش وحسب الشيخ جعفر على سبيل المثال لا الحصر، قامات شعرية سامقة تستحق الافتخار بها؟ فهم وغيرهم كثير قدموا إضافات باذخة أغنت الشعر الإنساني، لا ينكرها سوى جاحد، أو مازوشي متمرّس بجلد الذات.

مع الأسف ما أكثر اللآلئ التي تستقر في أعماق البحار، وما أحوجنا إلى غواصين قادرين على اكتشافها قصد إحلالها المكانة المعلاة التي تستحقها. أتساءل ماذا لو كتب لرامبو أن يكون عربيا يولد في اليمن السعيد ويعيش فيه ويكتب مركبه السكران بلغة الضاد؟ وماذا لو كان أدونيس بالمقابل فرنسيا يولد في باريس ويكتب أغاني مهيار الدمشقي بلغة موليير؟ لو حدث ذلك المستحيل لكان الأول شاعرا مغمورا لا تتجاوز شهرته بالكاد مدينة صنعاء، ولكان الثاني قد أحرز جائزة نوبل بعد أوّل ترشيح له منذ عقود.

5

ليس الصمت فقط بل الموت البطيء أو الانتحار أيضا… ولكن متى كان الشاعر قادرا على التغلب على مفاجآت الواقع المربكة والانتصار عليها دائما؟ قد يتحداها ويغالبها، لكنه قد يصطدم فجأة بالجدار وينهار كل شيء… ومع ذلك، في سياق هذا الكر والفر، قد تكون هناك انتصارات رمزية لا يحققها لا العالِم ولا المهندس ولا السياسي ولا الاقتصادي، ووحده يستطيع الشاعر أن يحققها بمجرد رفع صوته تحت الأنقاض، أو مواجهة السّوط والرّصاصة والإبادة بالكلمة الصادقة الجميلة وحدها.

وأخيرا، أليس من المبالغة مطالبة الشاعر بمتابعة كل ما يحدث حوله واستيعابه؟ إن الكتابة محكومة بملابسات وإكراهات نفسية وجمالية تصعب الإحاطة بها، لأن الحساسية الإبداعية تتميز بانتقائية لا يستطيع معها الكاتب التقاط إشاراتها التي يشي بها غنى الواقع وزخمه وتجلياته.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.