أرفض تأثير الآخرين

الخميس 2021/04/01
لوحة: فؤاد حمدي

                                                                 1

أتيت إلى الشعر مصادفة، وهذا حدث لكثيرين غيري من قبل، لم يختاروا الشعر أو الكتابة عموماً عن سابق تصميم. كنت أكتبُ نصوصاً نثرية وخواطر ويوميات، محاولا التعبير عن شيء غامض بقدر ما هو ضروري وملحّ. وهذا ربما حدث لنا جميعاً في ضباب المراهقة حين يقرّر الواحد منا فجأة أن يمسك قلماً وورقة ليخطّ أفكاراً ومشاعر تؤرّقه ليلَ نهار (بدافع عاطفيّ في الغالب)، وسرعان ما يجد نفسه متورّطاً شيئاً فشيئاً في مغامرة الكتابة. ثمّ فيما بعد، يكتشف أنّه كان يطرقُ باب القصيدة دون أن يدري، فيقرّر أن يستمرّ في المحاولة أو يعود أدراجه من منتصف الطريق. لكن هناك نوعٌ ثالث لا يقرّر أيّ شيء في الواقع، يختارُ منذ البداية موقف المتردّد والمتوجّس والشكاّك، ربّما لأنّه ينطلق من فكرة مثالية عن الحرية تدفعه لأن يجرّب الإقامة على الحدود، في تلك المنطقة الآهلة بالأسرار مثل برزخ بين الواقع والخيال.

من نتائج هذه الإقامة على الحدود، على المدى الطويل، أن تحكم عليك مثلاً بالتجريب المستمرّ والبحث الدؤوب عن شكل تقريبيّ لما تعتقد أنه الشّعر الحقيقي، مثلما تحكم عليك أيضاً بطرح أسئلة مؤرّقة وقاسية أحياناً عن الجدوى من الكتابة كفعل إنساني فريد، وعلاقتها بالوجود برمّته، لهذا من الصعب الحديث عن “مشروع” شعري خاص، في حالتي على الأقل، بل إنني أرى أن هذه الكلمة (المشروع) من فرط ادعائها واستهلاكها عربيا صارت بلا معنى. المشروع لا تتضح معالمه إلا بموت صاحبه، أما قبل ذلك فهو في حال قلق دائم ولا يستقر على صورة واحدة. ولا شك أن هذا القلق شرطٌ حيويٌّ بالنسبة إلى الشعر، لكنه ليس بالضرورة في منأى عن المزالق: كأن يجنح بك مثلاً إلى نوع من المزاجية والانعزال والإحجام عن الظهور أو الانقطاع سنوات طويلة عن الكتابة والنشر وربما يصيبك الضّجر نهائياً من الشعر والشعراء. أقول هذا لأني أرى أن الضّجر، بالمفهوم عبّر عنه يوما أنسي الحاج ببلاغة في إحدى قصائده، شيءٌ “صحيّ” ومطلوب للدفاع عن الشّعر، خصوصاً في أيامنا هذه التي تعرف تسارعاً غير مسبوق للتاريخ واجتياحاً شبه كامل للافتراضيّ على الواقعي، وللماديّ على الرّوحي، بحيث صار من الصعب مداراةُ الإحساس بخفّة الأشياء وهشاشتها، وانفلاتها من بين أيدينا، بشكل يحجب عنا حقيقتها وينحو بها سريعاً إلى الزّوال. هذه الفكرة بالنسبة إليّ كانت من أقوى المحفّزات على استئناف الشعر في أقسى اللحظات وأشدّها تفتّتاً. وسواءٌ في ديواني الأولِ “تركتُ الأرض لآخرين” الصادر سنة 2006، أو في ديواني الثاني “على مرأى من العُميان”، أو الثالث والأخير “كنت أسكن غواصة”، يمكنُ للقارئ أن يعثرَ بسهولة على آثار هذه المعركة الشرسة الطويلة ضدّ جميع أشكال اليأسِ الطّافح والرّغبة في الهروب أو محاولات التنصّل من شكٍّ مستعصٍ على الجلاء بشكلٍ عميق. وهذا ما أحاول التعبير عنه شعريا حتى هذه اللحظة.

                                                               2

لا أعلم حقيقة ما أنا بصدد إثباته لنفسي أولا قبل إثباته للآخرين. إذ يعرف الجميع أن تجربة الكتابة الشعرية عملية ذاتية وحميمية جدا، من النادر أن تفصح عن أسرارها الدفينة، حتى لمن يخوضها روحا وجسدا على مدى سنين. وبالتالي، لا يمكنني أن أحكم على تجربتي من الداخل، أترك هذه المهمة للقارئ والناقد، فهما المعنيان بالسؤال أكثر مني.

                                                               3

أرفض دائما أن يكون هناك تأثير للآخرين في كتابتي، وهذا أمر اقتنعت به منذ البدايات الأولى. ورغم إعجابي بكثير من التجارب العربية الجميلة، فإن قراءاتي الشعرية صارت انتقائية بشكل كبير في الفترة الأخيرة، ولم تعد بذلك الزّخم والتشعّب كما كان الحال في السابق. وخلال هذه القراءات، لا أميّز كثيراً بين شاعر “كبير” مكرّس وشاعر شاب غير معروف. أقرأ النصّ وأتفاعل معه باعتباره نصا شعرياً بغضّ النظر عن صاحبه، وسواء كان في كتاب أو في مجلة أو صحيفة أو فقط على صفحات الفيسبوك. القراءة بالنسبة إليّ حوار مفتوح مع النص، والنص هو من يحدّد لاحقاً طبيعة العلاقة مع كاتبه. بهذه الطريقة، عقدتُ على مرّ السنين صداقات “حقيقية” مع شعراء متفرّدين من لغات وثقافات ومرجعيات مختلفة، ومن مناطق وبلدان وعصور تاريخية متباينة ومتباعدة جدّاً، تجمعُني بهم فقط نصوص أُحاورها بكلّ حرية متى شئتُ.

                                                              4

السوق بطبيعتها تفرض الوفرة والكثرة والمنافسة بين الجيد والرديء، وهذا أمر طبيعي وصحي وعرفته البشرية منذ الأزل. ربما تراجع أو اختفى “الشاعر النجم” الذي تكرس حضوره لعقود طويلة حتى بداية هذه الألفية الجديدة. وهذا واقع جديد يطرح سؤال جماهيرية الشعر التي انحسرت في الفترة الأخيرة. إن أهمية الشعر اليوم وغداً ستنحصر في كونه فنّاً “نخبوياً” يلبّي حاجات “فردية” أصيلة، وهذا لا يقلّل من شأنه وضرورته في شيء، بل بالعكس، لقد صار فنّاً متحرّراً أكثر من إكراهات “لاشعرية” كثيرة سابقة، لأنّ من يلتئم حوله الآن هم “أفراد” وليس “جمهوراً”، أفرادٌ مستقلّون وعزّل تحركّهم رغبة عميقة في ملامسة “النّواة الصلبة” لجميع الفنون والآداب، من دون طموحٍ في القبض عليها نهائيّاً يوماً ما، تلك النّواة التي كانت ولا تزال عصيّة على الانكسار والتدمير، لأنّها تُغذّي روح الإنسانية بطاقة جبّارة لا تنفد، وكلّما زادت المآسي والأهوال في حياة الأفراد والشعوب على هذه الأرض، كلّما توهّجت أكثر فأكثر بقوّة متجدّدة ودافعة نحو الأمل والحرية والجمال.

                                                              5

الشّعر اليوم في أزمة على المستوى العالمي. وهي أزمة إنتاج وقراءة على السواء. إذ يُلاحظ أنّ مكانة الشعر في تراجع كبير مقارنة بالفنون الأخرى. فمعظم دور النشر العالمية تمتنع عن إصدار الكتب الشعرية بذريعة محدودية انتشارها وصعوبة وصولها إلى القراء، الذين يتناقص عددهم يوماً بعد يوم. بينما نجد الرواية، مثلاً، تحظى باهتمام أكبر ومتزايد من بين كل فنون الأدب. فما سبب هذا التراجع إذن، ولماذا صار بارزاً بهذه الحدّة، خصوصاً مع بداية الألفية الثالثة؟ يكمن الجواب، ربّما، في السياق التاريخي والثقافي الذي مرّ به العالم منذ سقوط جدار برلين، إذ كان لانهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط آخر اليوتوبيات الكبرى في التاريخ المعاصر دور في هدم وإعادة النظر في كثير من المفاهيم واليقينيات الفنّية الّتي سادت قروناً طويلة. لقد كان الشّعر، فتراتٍ طويلة، هو ملجأ الفرد من بطش السلطة وأداةً لكسر القيود وإعلاء الصّوت الحرّ في مواجهة جبروت التاريخ والمجتمع، وحتّى الوقوف أمام أسرار الوجود اللّامتناهية. لكن، مع تقدّم العلوم والتكنولوجيا وتوسّع هامش الحريات منذ الثورة الفرنسية، وما عرفه العالم من تحوّلات عميقة خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين في شتّى المجالات، تغيّرت وظيفة الشعر جذريّاً ولم تعد كما كانت في السابق، إذ بدأت مساحة تداوله في التقلّص شيئاً فشيئاً بسبب مزاحمة الفنون الأخرى لمجاله الخاصّ، واستلهامها لروحه بأشكال أخرى متجدّدة لا تقتصر على اللّغة فقط. ثمّ جاء التطوّر الهائل الذي عرفته وسائل الإعلام والاتّصال والترفيه الحديثة، وفي مقدّمتها الموسيقى والسينما والتلفزيون، وأخيراً الإنترنت، ليكرّس هيمنة الصوت والصورة والفيديو في الثّقافة الشعبية المعاصرة مقابل وسائل التّعبير التقليدية، الّتي ترتكز أساساً على الكلمة، وبذلك صار مجال تداول الشعر محصوراً أكثر بين النّخبة المثقّفة، وأحياناً كثيرة بين الحلقة الضيّقة للشعراء أنفسهم في أغلب بلدان العالم، ولم تعد لرهاناته القديمة على التغيير والتجديد الفنّي، شكلاً ومضموناً، أو ملامسة وجدان عموم القرّاء والجمهور الواسع على الأقلّ، أولوية كبرى على أجندة التجارب الشعرية الطّموحة الّتي ما زالت تقاوم في صمتٍ وعزلة حتّى اليوم.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.