أرنيستو دي رينزو: المائدة المتوسّطية صحن مشترك
نحن لسنا مجرّد أَكَلَة الباستا أو أَكَلَة للكسكسي أو السوشي، بل نحن متناولو رموز وصورٍ وسردٍ مُغاير، بالذات لأنّ الغذاء شيءٌ أكثر تعقيداً وتشكّلاً ممّا يقوله لنا، في العادة، خبراء التغذية أو الطبّاخون المشهورون. إنما ينبغي ألاّ نتناسى أبداً بأن الغذاء ثقافة نعيشها، ولكونه كذلك يُصبح الطعام الذي نتناوله معطى هاما للهويّة، فهو يُتيح لنا، من جانبٍ، الترابط مع هويّتنا، ومن الجانب الآخر يتحوّل أيضاً إلى أداة لتجاوز تلك الهويّة.
قلم التحرير
التقيته في جنوب إيطاليا، خلال الدورة الحادية والعشرين للبورصة المتوسّطية للسياحة الآثارية التي أُقيمت في حاضرة بيستوم اليونانية والتي حضرها للحديث عن «المشتركات المجتمعية للسلام في المتوسّط»، وغداة استلامه تكريماً خاصّاً من “‘جمعية الصحافة الأجنبية في إيطاليا’ لإسهامه في نشر وترويج المطبخ والطعام المتوسّطي كنموذج للتعايش والحوار”.
عرض البروفيسور أرنيستو دي رينزو، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة روما، رؤيته حول القِران الذي عقدته شعوب المتوسّط، شمالها وجنوبها، للتعايش معا أفضت منذ منتصف القرن الثاني عشر إلى اجتراح لغة لا وجود لها، ولا يحتاج من ينطق بها إلى قاموس ليتحاور مع مواطني شعوب أخرى، وتلك كانت «لغة سابير» التي استنبطها صيّادو الأسماك وملاحو السفن التي تمخر عباب المتوسّط، “وحوّلت المتوسّط من بُحيرةِ ماءٍ تُشاطئها أقوام وتواريخ وشعوب مختلفة، إلى وطنٍ جامع، ومن صورة مرآة زرقاء تظهر على خرائط المنطقة إلى بوتقة حيّة ملآى بالتاريخ والحضارات..”. كما يقول لنا البروفيسور دي رينزو في الحوار.
“إنّها لمُصادفة جميلة، وهي بالنسبة لي مدعاةٌ لزهو كبير، أن تحتفي بي جمعية إعلامية جامعة لصحافة العالم في روما، فمن جانب أرى الجائزة اعترافاً بدوري في البحث والترويج لهذا التاريخ المشترك، ولما أُنجزه في الجامعات وفي الندوات العلمية التي أحضرها، أو حتى في الشوارع والأسواق التي ألتقي فيها بالناس، لكنّي، من الجانب الآخر، أقرأ ذلك كاحتفاء بالجهد الجماعي الذي يبذله جميع الذين، مثلي، من أنثروبولوجيّين وعلماء اجتماع وخبراء بيئة وصحافيّين ينظرون إلى الغذاء ليس كعلبة تحتوي على مواد مُغذّية فحسب، وليس كمجرّد تجميع للفيتامينات والبروتينات والكربوهيدرات، بل ينظرون إليه بمجمل ما يعنيه، وفي مجمل ما يختزنه من قيم؛ ينظرون إلى الغذاء، مكتشفين إيّاه ومروّجين له، كمُعطى ثقافي بالأساس، وذلك لأن الغذاء، قبل كل شيء، عبارة عن ثقافة وفكر، وهو يختزن قدرة غير ملموسة، غالباً ما لا ننتبه إليها، لكنّها تتغلغل بقوة في لُعبة تقييماتنا عندما نُقرّر ما علينا تناوله من طعام”.
الهوية المفتوحة
ويُضيف البروفيسور دي رينزو قوله “نحن لسنا مجرّد أَكَلَة الباستا أو أَكَلَة للكسكسي أو السوشي، بل نحن متناولو رموز وصورٍ وسردٍ مُغاير، بالذات لأنّ الغذاء شيءٌ أكثر تعقيداً وتشكّلاً ممّا يقوله لنا، في العادة، خبراء التغذية أو الطبّاخون المشهورون؛ لا أُشكّك في ما يقوله هؤلاء السادة، بل بالعكس أُقيّم عالياً ما يروون عن الطعام وعن بُعدِهِ المتعلّق بالصحة، لكن ينبغي ألاّ نتناسى أبدا بأن الغذاء ثقافة نعيشها، ولكونه كذلك يُصبح الطعام الذي نتناوله معطى هاماً للهويّة، فهو يُتيح لنا، من جانبٍ، الترابط مع هويّتنا، ومن الجانب الآخر يتحوّل إلى أداة لتجاوز تلك الهويّة ذاتها، فعبر ما نُقرّر تناوله من طعام، وعبر الطريقة التي نتآصر فيها من غذاء وطعام الآخرين، فإنّنا إنّما نخلق لذواتنا هويّات أخرى قابلة على ضمّ الآخرين، بحيث تُصبح بالفعل أداة واستراتيجية للمساواة”.
البورصة المتوسطية
الجديد: ما هي برأيك أهميّة تظاهرة من هذا النوع، حوّلت خلال السنين العشرين الماضية، الآثار من مجرّد مُعطى وطلل تاريخي، إلى مفردة ثقافيّة للّقاء والحوار؟
أرنيستو دي رينزو: لها بالتأكيد أهميّة خاصة، تتجاوز طابعها الأساسي كبورصة ومعرض، يفيد في ترويج الآثار وعقد اللقاءات الثنائية بين من يُنظّمون النشاطات ويعرضون للسيّاح فرص الاستمتاع بالآثار، ولا غرابة بأنْ يكون الهدف النهائي للمشتركين في هذه التظاهرة هو بلوغ السيّاح وزيادة أعدادهم؛ لكنّ هذه «البورصة» تُنجز ما هو إضافي أيضاً، فلديها، ولدى منظّميها، القدرة والذكاء والحذاقة لخلق أرضية للحوار والتجاور ما بين مظاهرَ قد تبدو، في ظاهرها، بعيدة إحداها عن الأخرى، لكنّ تكاملها يُمثّل حجر زاوية فلسفية لمواصلة السعي لبلوغ أهدافٍ ترفع من القيمة الاقتصادية لمناطق تواجد هذه الآثار.
نعم، هذه بورصة سياحيّة قبل كلّ شيء، لكنّها تضمّ في داخلها منطق «المتوسّطيّة»، فهي البورصة المتوسّطية للسياحة الآثارية، إذاً، فهي ليست مجرّد السياحة، وليست مجرّد الفنون، وليست مجرّد الإرث الثقافي الملموس وغير الملموس فحسب، بل، كلّ ذلك معاً في عالمٍ وكيانٍ يضمّ الجميع، وذلك العالم هو المتوسّط؛ والمتوسّط ليس مجرّد بحر كغيرة من البحار، وهو ليس تلك المرآة الزرقاء التي تظهر على سطح الخرائط العالمية، بل هو جسرٌ، حُلُمٌ ورحلة، والمتوسّط هو الوحدة التي تتجاوز كلّ شيء لتصل إلى ما وراء الاختلافات، تلك الاختلافات التي صرنا نُجذّرها نوعاً ما في السنين الأخيرة، لكن من سبقونا لم يأخذوها حتى في الاعتبار، في الواقع، بل على العكس، قرأ من سبقونا تلك الاختلافات كفرصة للثراء وفرصة لخلق هويّة أسمى؛ هل تعلم بأنّه من القرن الثاني عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، بأن أولئك الذين كانوا يعيشون في المتوسّط، الصيادون، التجار، ملاحو السفن والشعوب المُشاطئة للمتوسّط، اجترحوا لغة خاصّة، جامعة، كانت بمثابة «لغة الحياد» المنتمية إلى الجميع، وكان اسمها «سابير» وتكوّنت من اللغات العربية والقطلونية والجنوية والإسبانيّة والبروفنسية. كانوا يتمكّنون من التحاور وإنجاز تبادلاتهم التجارية عبر «سابير»، وكلّ هذا ليس بالشيء القليل، لأنّ الشعوب عندما تُقرّر على التشارك في لغة والتشارك في الطعام، إنّما هي تُقرّ بالمساواة بين بشر يحيون في فضاءٍ متساوٍ، وهذا هو الفضل الكبير الذي علينا الاعتراف به للمائدة والطعام، وهو ما ركّزت عليه هذه الدورة من بورصة بيستوم عبر ندوة خاصة كالتي شاركت فيها شخصياً. المائدة بحق بمثابة المبتغى الذي لا يمكن أن تقوم في وجهه أي فكرة للحدود.
ثقافة الزيتون
الجديد: خلال حديثك في الندوة استشهدت بمقولة للفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ (1804 – 1872 ) حين قال «… ما نحن إلاّ ما نأكل…»، ونحن اليوم نتناول أطعمة وأغذية تصلنا من مختلف أرجاء العالم، فهل بإمكاننا اعتبار الطعام المعطى الأبعدَ عن «العنصرية» أو بالأحرى النقيض العملي لأي سلوك أو تفكير عنصري؟
أرنيستو دي رينزو: نعم، بالتأكيد يمكن للغذاء أن يُعتبر النقيض للعنصرية، فالمطبخ يُشبه الغمامات، فهو يسعى في فضائه المكوّن من دروب المذاق، بالضبط كما الغمام الساعي في فضائه، ومن بإمكانه التفكير بحبس الغمام؟! إنّه مستحيل، وهو ما يحدث مع الطعام والمذاقات، يكفي أن ننظر كم من الطرق قطعت الأطعمة وهي تتبع حركة البشر والأفكار، وبحركتها أفضت إلى تشكيل هويّات. خذْ مثلاً، نحن الإيطاليون نُعرّفُ باعتبارنا أكلةَ المعكرونة، وغالباً ما نفكّر نحن أيضاً في كون المعكرونة صحننا الوطني الخاص بنا، لكن إذا ما ذهبنا وفكّكننا هذا الصحن، فما الذي سنعثر عليه؟ سنعثر قبل كلّ شيء على الثقافة العربيّة التي نُدين لها منذ القرن الحادي عشر كونها منحتنا “الباستا الناشفة”، ثمّ سنعثر على جميع المواد القادمة إلينا من الرحلة الكولومبية، التي لم يكن لنا دونها امتلاك كل ما له علاقة بعالم الفلفل، وبالذات لم يكن لنا امتلاك الطماطم، التي تُعتبر المكوّن الأساسي لصحن الباستا؛ نحن مدينون إلى جل ثقافات المتوسّط الشرقية التي منحتنا فنون زراعة الزيتون، ومدينون إلى الشرق الأدنى الذي منحنا الريحان والنعناع؛ يمكن اعتبار المائدة بحق بمثابة المبتغى الذي لا يمكن أن تتواجد فيه أي فكرة للحدود.
مائدة التشارك
الجديد: ما الذي تركه العرب في المطبخ الصقليّ وفي جنوب إيطاليا، إضافة إلى مفردات اللغة والعمارة وأسماء الشوارع والمدن؟
أرنيستو دي رينزو: تركوا لنا منتجات ما تزال موجودة حتى اليوم، تركوا وصفاتٍ وطرائق لتناول الطعام، فعندما نتحدّث عن نماذج التغذية والطبخ لا ينبغي لنا أن نأخذ في اعتبارنا فقط المكوّنات أو الطرق التي يتم التشكيل بها ما بين هذه المكوّنات للحصول على طبخات معيّنة، فعندما يجري الحديث عن المطبخ المتوسّطي، فإنّ ذلك يعني أيضاً القيمة التي نمنحها للطعام؛ نتحدّث هنا عن الوقت الذي نقضيه خلال المأدبة حول المائدة التي نتناول عليها الطعام، عن المكان الذي يتم فيه ذلك، وعن الطريقة التي يحتل فيه الطعام مساحته في تجارب حياة الإنسان؛ فأنْ تتناول طعاماً متوسّطياً، فإنّ ذلك يعني أنك تتناول الأكل العربي واليوناني والإيطالي والإسباني، ولا يتعلّق ذلك ببعضٍ من المواد فحسب، بل بالطريقة التي نتآصر فيها مع تاريخ الطعام. للفيلسوف والبيوغرافي اليوناني القديم بلوتارك مقولة يتكرّر استخدامها دائماً: “نحن لا نجلس إلى المائدة لمجرّد الأكل، بل نجلس إليها لنتناول الطعام معاً!”. مبدأ التشارك هذا نعثر عليه في صلب ثقافاتنا الغذائية ومتشكّلةً معها، فهي موجودة لدينا، نحن الإيطاليون، عندما تجتمع العائلة معاً لتناول غداء الأحد، وهي موجودة في الثقافة العربية أيضاً وفي ثقافات اليونان وإسبانيا وفرنسا وغيرها؛ خذْ الشكل الدائري لقرص الخبز العربي، على سبيل المثال، إنّه شكل يلغي كلّ أشكال الاختلاف ما بين من يتجاورون حول المائدة، يُلغي جميع الأشكال الطبقية؛ فالشكل الدائري يوحي بالمساواة، والتكامل وبالتواجد معاً، إضافة إلى مفردات عديدة تُتيح لنا التأمل في هذا الإطار، وتُتيح لنا بالذات معرفة مقدار ما تسرّب إلى ثقافتنا المطبخيّة وفي عاداتنا من الثقافة العربية والإغريقية والمغاربيّة.
الجديد: إذاً بإمكاننا الاقتراح على من يُنظّمون لقاءات ومؤتمرات للمصالحات والاتفاقات السياسيّة أن يُدرجوا ضمن فريق العمل خبراء في تاريخ الطعام وطُهاةً ماهرين استوعبوا ذلك التاريخ التشاركي في المتوسّط؟
أرنيستو دي رينزو: بالتأكيد، بل لو كان الأمر بيدي لذهبت أبعد من ذلك، كأنْ تنطلق لحظات المواجهة ما بين الثقافات والمعتقدات المختلفة هذه، من المائدة والطعام بالذات، أي عدم الاكتفاء بخبير للغذاء أو بطاهٍ بارع، بل أن تتحوّل مائدة الطعام لحظة الانطلاق لذلك اللقاء، إذْ تجمع المائدة بين الأطراف وتدفعهم إلى الحديث والحوار وتبادل الأفكار، بالضبط كما نفعل عندما نجلس إلى المائدة، تخيّل طاولة واسعة تضمّ حواليها مدعوين ينتمون إلى ثقافات وأديان ومجتمعات من العالم، ويتبادل الجالسون من حول تلك المائدة الحديث في ما بينهم. هناك حين يلتقي الناس للتشارك في لقمة تنهار، بشكل سحري، كل حدود العنصرية والتسلّط والإقصاءات. التشارك في الطعام مع الآخر هو تعرّف على الذات في الآخر.
الطعام والكلام
الجديد: أنت تقترح، إذن، تبادل الكلام ما بين المتجالسين حول مائدة الطعام، وهذا معاكس لما يوصف بـ «عدم اللياقة» حيث لا كلام عادة أثناء الطعام؟
أرنيستو دي رينزو: آه، بالتأكيد، يقول البروفيسور دي رينزو، وهذا ما يجري دائماً، رُغم أن البعض يدّعي ويُطالب بضرورة السكوت أثناء تناول الطعام، أو كما يقول مفوّض سالفو مونتالبانو، بطل روايات آندريا كاميلّيري البوليسية «أسكت عندما تتناول طعامك!…». تناول الطعام، أو على الأقل تناول الأطعمة المتوسّطية، ليس عملية ميكانيكيّة لملء المعدة. أجل نحن نُطعم ذواتنا، لكنّنا في الواقع نُعطي قيمة مجتمعية إلى أواصرنا، وتتحقّق تلك القيمة عبر التشارك والتواصل، وعبر تبادل الكلام مع من يُجالسنا. ورُغم أن تبادل الكلام ليس واجباً بالضرورة، إلاّ أنّه يقوّي الآصرة، وفي بعض الأحيان يتحول تبادل الأطعمة والصحون ما بين مجالسي مائدة واحدة، فعلاً للتواصل والتشارك في الأكل من ذات الصحن، وهو ما نعهده في الثقافة العربية، ولكنه موجود أيضاً في بعض ثقافات المائدة الإيطالية، وهو جزءٌ من التقاليد المجتمعية، ويرتبط ببعض أنواع الأطعمة، على سبيل المثال «الپولينتا»، أي عصيدة الذُرة الصفراء التي تُحضر شتاءً. ففي مدن الشمال، أو حتى في مناطق أخرى، تٍقدّم الـ«پولينتا» الحارّة على طاولة خشبية يتشارك حولها روّاد المائدة، وكمثل الـ«پولينتا» ثمة أطعمة لا تقبل فردانيّة الصحن، بل يتناول الجميع من ذات الطبق الموضوع في منتصف المائدة، وهو ما يرفع من قيمة الوجود معاً. فالتشارك في الطعام مع الآخر هو تعرّف على الذات في الآخر، والتشارك في الطعام مع الآخر هو أن تتحوّل أنت نفسُك إلى الآخر المجاور أو المقابل لك على المائدة.