أساطـير دعاة المظلومية
بُنيت السرديات في الغالب الأعم وتُبنى على أوهام وأحلام وتخيلات، وما يتمناه صانعوها وليس وفقًا لما حدث وما هو قائم وواقعي، فكيف يمتاز العرب بالشجاعة والفروسية والكرم ويكادون يكونون كلهم شعراء، والتاريخ لم يذكر لنا سوى فرسان وكرماء يمكن عَدَّهم بسهولةٍ، ومئة وعشرين شاعرًا سبقوا الإسلام فقط لا غير؟
إن دعاة المظلومية -أتباع ديانات، مذاهب، قوميات، إثنيات ومناطق- في الغالب الأعم تتضمن سردياتهم روحًا أسطورية لا تمت للواقع بصلة، بل تُناقضه، فهم يشيطنون الآخر، وينزّهون أنفسهم عن أيّ سلبية، ويتحدثون عن أمجاد وحقوق تاريخية في مدن وبلدات يكاد يكون جميع منجزها الكتابي-التدويني حتى بدايات القرن العشرين بغير لغتهم أو دينهم أو مذهبهم، بل أحيانًا حتى منتصف القرن العشرين. وهذه المدن والبلدات لها تاريخ تدويني (منجز ثقافي ضخم) عريق، تكاد تكون مشاركتهم فيه معدومة؛ فلا شعراء ولا أدباء ولا مؤلفين بلغة أو عقيدة دعاة المظلومية، سبقت القرن العشرين.
دعاة المظلومية خطابهم ومطالباتهم خارج العقل، وعليه نرى مَن يطالب بضمّ مدينة له لمجرد أن مرقدًا مقدسًا لديه في تلك المدينة ولا يفكر بأن أغلبية سكان تلك المدينة ينتمون لمذهب أو دين مختلف؛ والقومي يطالب بمدينة فقط لأنه يراها تقع ضمن أمنه القومي أو الاقتصادي.
لا يهمّ دعاة المظلومية أن يقوموا بتشريد شعب والاستيلاء على أرضه، لمجرد أنهم بحاجة لأرض يتحكمون بها، أو تراهم يشنون حربًا كلامية على مَن يؤمن بالتعايش والتنوع. والعراق مثلاً لا تشير دلالته إلى عنصر أو عرق أو إثنية أو قومية أو ديانة أو مذهب، بل تشير إلى أرض جغرافية معلومة عبر اتفاق تاريخي على حدوده واتفاق دولي ثَبَّتَ حدوده السياسية بدقة، وعلى الرغم من كل هذا نجد دعاة المظلومية يرفضونه، وإن قبلوه فيجب أن يكون على مقاسهم وليس على مقاس العراقيين قاطبة.
خطاب المظلومية تبريري وبكائي مخضَّب بالشكوى والدموع، وكأنه في محكمة وكلّ همه أن يوقع خصمه في موقع الدفاع وتبرئة النفس؛ ولا علاقة له بحقائق التاريخ والجغرافية وهيمنة المنجز الثقافي والاجتماعي الذي منح المدن هويتها على مدى القرون الأخيرة.
إحدى أكثر حقائق الواقع العراقي أنه مجتمع تدويني، وسكان مدنه وقراه الكبيرة والريف المحاذي للمدن والبلدات؛ لهم تاريخ واضح مع التدوين، فالسريان والعرب والتركمان والفرس هم التركيبة السكانية الغالبة عليه، وهؤلاء ينتمون للغات لها تاريخ تدويني، أعرقها اللغة السريانية والتي حين حدث الفتح الإسلامي كان في العراق ثلاثة آلاف مخطوطة لم تُمسّ بسوء.
تأتي اللغة العربية ثانيًّا من الناحية التاريخية والأولى من حيث المنجز، وهي التي غطت على المشهد تقريبًا، إذ يمكننا الحديث؛ بما لا يتعارض مع العلمية والموضوعية؛ عن عشرات الآلاف من الشعراء والأدباء والمؤلفين بهذه اللغة في العراق قبل القرن العشرين.
أما اللغتان التركية والفارسية فقد فرضتا حضورهما بسبب الهيمنة السياسية والعسكرية والجوار، ولأن العراق مركز دينيّ كبير للمسلمين عبر وجود مراقد كبار الأئمة في أرضه.
ابن سردية المظلومية مهما بلغ من العلم والمعرفة والإبداع، هو ناقد جيد ومفكك لكل السرديات الأخرى بينما يتلقى سرديته باطمئنان تام، ويُكفّر مَن يحللها ويفكّكها ويعترض على غُلوّ بعض طروحاتها، فمهما جازفت بالإلغاء والإقصاء للآخر والاستحواذ على منجزه وشيطنته ونسب معظم الحضارات والإنجازات لها؛ نجد ابن سردية المظلومية يُقدّم استقالة تامة لعقله حين يتعلق الحديث عن سرديته.
ليس مستغربًا من ابن سردية المظلومية أن ينسب مدينة مثل بغداد له، أو يزعم أنه يشكل نسبة كبيرة من سكانها، موحيًا بحقه فيها، ليس بوصفه مواطنًا عراقيًّا وإنما مواطن سرديته، أو هُويته الضيقة، ولا فرق إن كان ابن لغة شفاهية أو كتابية. وما ينطبق على بغداد ينطبق على كل مدينة وبلدة عراقية سوى أن عدد الشعراء والأدباء يقل كثيرًا عما عليه الحال في بغداد. وعمومًا فلا وجود لمدينة عراقية يمكن أن تُنسب لمجموعة سكانية ليس لديها فيها شعراء وأدباء ومؤلفون سبقوا القرن العشرين.
العراق بلد الكتابة والتدوين، وبكل بساطة؛ فإن الشفاهيين وحديثي التدوين لا وجود لهم في العمق العراقي، أما التدوينيون (الذين لهم مئات المؤرخين والباحثين والأدباء والشعراء قبل القرن التاسع عشر) فهم فقط سكان العمق العراقي.