أساطير المجتمع الاستهلاكي

السبت 2019/06/01
رواية على خشبة المسرح

أراد الكاتب الإيطالي الشهير ألبرتو مورافيا، في أعماله الأدبية، التوفيق بين المسرح والرواية، لذا يمكن عدّ رواياته مسرحياتٍ خلف قناع الرواية، ففيها دائماً القليل من الشخصيات، أربع أو خمس، كما أنها تقوم على وحدة أرسطوطاليسية بين الزمان والمكان. ويتضح فيها تأثير ديستوفسكي من خلال حواراتها. وقد حاول مورافيا صياغة أسلوبين، سردي ودرامي، في قالب واحد. وتشير سيرته إلى أنه جرّب العمل المسرحي في فترة مبكرة من حياته، ثم ابتعد عنه ليتفرغ لكتابة الرواية والقصة القصيرة، ثم عاد مرةً أخرى إلى المسرح بعد الحرب العالمية الثانية، آملاً في أن يجد المخرج الذي يمكن أن يتحاور معه ويستوعب أفكاره. وأسس في ستينات القرن العشرين فرقة مسرحية أطلق عليها اسم “بوركوسبينو”، لكنه وجد بعد فترة أن العمل في المسرح لا يضيف شيئاً إلى تجربته السردية.

لم تٌترجم من مسرحيات ألبرتو مورافيا الاثنتي عشرة إلى العربية سوى ثلاث، حسب علمنا، هي “بياترتيش تشنش”، “حفلة تنكرية”، كلاهما ترجمة سعد أردش، و”لماذا يا إيزيدور؟” ترجمة عزيز الحاكم. وقد أنتجت المسرحية الثانية فرقة المسرح الحديث التابعة لوزارة الثقافة المصرية بإخراج هشام جمعة، وأنتجت الثالثة فرقة مسرح الصواري البحرينية بعنوان “يوم نموذجي”، وقدمتها في الدورة الخامسة عشرة لمهرجان المسرح التجريبي في القاهرة بإخراج إبراهيم خلفان.

أخذ مورافيا اسم “إيزيدور؟”، وهو أحد شخصيات “لماذا يا إيزيدور؟”، من الاسم الشخصي للشاعر الفرنسي لوتريامون، صاحب الديوان الشعري الشهير “أناشيد مالدورور”، وسنرى لاحقاً أن اختيار هذا الاسم ليس من قبيل الصدفة، بل له علاقة خفية بالبنية الدلالية للنص، من دون أن يفصح عنها مورافيا.

تفضح المسرحية، بأسلوب ساخر لاذع، أساطير المجتمع الاستهلاكي والقيم الزائفة للطبقة البورجوازية في العالم الرأسمالي من خلال رؤية طليعية شبيهة برؤية مسرح العبث، لهذا المجتمع الهش، المطواع الذي تختلط عنده الحقائق بالأكاذيب والأوهام، الفاقد القدرة على النقد والتمييز، القائم على الزيف وتقديم السلعة في إطار أقرب إلى التمثيل والخداع.

وظّف مورافيا، في صياغة الحوار المسرحي، أسلوباً يحاكي الأسلوب نفسه الذي تعتمده وسائل الإشهار في الترويج للمنتجات الاستهلاكية، لكنه أضفي عليه طابعاً غرائبياً وكاريكاتورياً ليفضح أقنعة التضليل والمكر التي ترتديها شركات إنتاج السلع والموضة لإشاعة ثقافة الاستهلاك، وتحويلها إلى تقاليد وأعراف تقدّس المظاهر والخزعبلات.

يجري الحدث المسرحي في صالون مزيّن بالأثاث المتشابه. “إيزيدور” شاب في التاسعة عشرة من عمره، أمه “بونا” في الأربعين، وأبوه “جيوستو” في الخمسين. كلهم يرتدون ثياباً شبيهةً بثياب التماثيل (المانيكانات) التي تُعرض في واجهات المتاجر.

ورغم أن كل حوارات الأب والأم موجهة إلى ابنهما “إيزيدور”، فإنه يظل طوال الوقت ينصت إليهما من دون أن ينطق بكلمة، لكنه في مقابل ذلك يقوم بأشياء كثيرة، كأن يحك رأسه، أو ينظف أظافره أو أذنيه، أو يرتّب شعره، وفجأةً يشرع في خلع ملابسه، بدءاً بالسترة ثم البنطال فربطة العنق والقميص والجوارب والحذاء، ويحتفظ بسرواله القصير. بعد ذلك يفتح حقيبة صغيرة ويخرج منها حذاءً فخماً وسروالاً من المخمل المضلع وصداراً وقميصاً بالياً، ويرتدي ذلك بنفس الطريقة التي خلع بها ملابسه.

في هذا الفضاء، الذي تطغى عليه مظاهر الموضة والسلع الاستهلاكية، ثمة شرخ كبير بين الابن “إيزيدور” وأبويه، فهو متمرد وناقم على كل ما يحيط به، لذلك يرفض الرد عليهما، ويريد أن يغادر المنزل، غير آبه بتوسلاتهما وتضرعهما إليه بأن يقدّم لهما تفسيراً. ويشير موقف “إيزيدور” إلى وجود قطيعة بين ثقافته وثقافة المجتمع الاستهلاكي الذي يرمز إليه أبواه، فهما على العكس منه تماماً لا يكتفيان باستعمال أفضل المنتجات، كما يقولان، بل يكرّسان حياتهما لها، ويعملان من أجل الامتثال لآداب السلوك، التي تنص عليها الصور والشعارات الإشهارية، ضمنياً أو بشكل صريح، لأن إنسان العصر الحديث لن يشعر بالأمان والاستقرار، ولن يتذوق الجمال أبداً من دون الإشهار الذي يتيح للبشرية أن تعيش تاريخها الخاص مرة ثانية! لقد صارا يتبعان أعراف ديانة زائفة وتعاليمها هي ديانة الاستهلاك البورجوازي بدلاً من الوصايا العشر التي كانا يقتديان بها قديماً، وأخذا يكرّسان حياتهما للمستحضرات، ويتصرفان على وفق المعايير التي تمليها عليهما، ويعترفان عن طيب خاطر بأنهما يكدحان لتعويض الفضائل العائلية، التي تنصحهما بها الصناعة الغذائية، بالدعارة والعنف اللذين تمتدحهما الصناعة السينمائية، ويقدّران صناعة السيارات التي تقتني منهما التهور، وصناعة الكراسي والأرائك والأسرّة التي تغريهما بالكسل، وصناعة الخمور العذبة التي تحولهما إلى كحوليّين، وصناعة التبغ السرطانية، ولوازم الدفن التي تشتهي موتهما.

التوفيق بين المسرح والرواية
التوفيق بين المسرح والرواية

وبإزاء صمت “إيزيدور” المطبق فإن أبويه يحاولان استمالته بوصف يوم نموذجي في حياتهما، وهو في الحقيقة يوم يلخص السلوك الاستهلاكي للمجتمع الخاضع لاستراتيجيته التضليلية، وأنماط الإشهار التي تدعو إليه، لكن بأسلوب يكشف عن تعرية مورافيا له وكشفه للأساطير التي يقوم عليها. في هذا اليوم الذي يبدأ من الصباح يستيقظ الأبوان فرحَين؛ شاعرَين بسعادة كبيرة وفّرها لهما سرير لا يضاهى بنعومته ورخاوته وتماسكه اسمه “السماء السابعة”، وهو مغلّف بغطاء “بولاريس″ الخفيف كريشة، والدافئ كموقد، وملحق به منامتان قطنيتان ناعمتان من طراز “المسرنم”، وجرس منبّه يحمل علامة “زغردة الشيطان” غايةً في الجودة. وكان الإشهار الذي جذبهما لشراء هذا السرير يمثل فتاةً عاريةً تتفسّح برشاقة في طبيعة شمالية وسط الدببة وأهالي الإسكيمو، وبعض الانصداعات الجليدية، وحبيبات الثلج، وعلى كتفيها غطاء “بولاريس″.

وهكذا يهرع الأبوان، كطفلين صغيرين، إلى الحمام، ثم يتعريان ويستسلمان لمتعة الاستحمام بمستحضرين رائعين: صابون “الزن” وشعاره المكتوب بحروف شرقية على صورة لبركان فوجي يقول “الزن للروح، لكن الزن للجسد قبل كل شيء”، ومعجون الأسنان “هيروشيما”، المعجون النووي الذي يظهر في ملصقه طبيب أسنان يرتدي وزرةً بيضاء ويتكئ بمرفقيه على النافذة، وأمامه سهل مخرّب، وسحابة الانفجار الذري الشهيرة معلقة في الأفق، وفي مقدمة الصورة أنبوب ضخم ينبجس منه ثعبان ملتو من معجون الأسنان الوردي. وبعد انتهائهما من الاستحمام ترتدي الأم ملابس “مقصورة العمل” المكونة من “التبّان الأسود” الوردي المخرّم الذي يحمل علامة “كوليج”، وشعاره “التبّان الذي يستر المكشوف”، ويتضمن إعلانه الإشهاري رسماً كبيراً لعانة أنثوية تبدو واضحةً من خلال تبّان “كوليج”. ثم ترتدي رافعة نهدين آلية من نوع “طالب داخلي”، وهي تمتد إلى الأعلى، وتتيح للنهد أن ينفجر عبر فجوة سائبة، وأدنى حركة تكفي للتحرر منها. ثم الفستان الصغير “فستان الجيب”، فحذاء “الريح” الذي يمشي وحده، كما يقول الإشهار. أما الأب فيرتدي ملابس “المدير” الذي يتمتّع بنفوذ مطلق في العمل.

وحين يخرجان من المنزل تنتظرهما سيارة من نوع “يوفنتوس″ يقول شعارها إنها “سيارة بربيع العمر”، لكنها تحتاج إلى بنزين من الصنف الممتاز “أخيل” وشعاره الشهير “ضعوا سلحفاةً في محرك سيارتكم” مستوحى من المغالطة القديمة التي تقول إن السلحفاة أسرع من أسرع أبناء “تيطس″.

ولذلك يمضيان متألقين صوب محطة البنزين ليمتثلا للإعلان الذي يدعوهما لاستهلاك بنزين “أخيل”، وهناك يجدان في انتظارهما عمال المحطة الذين سينظفون زجاج السيارة، ويزودونهما بالماء وزيت الفرامل والبنزين على إيقاع رقصة الباليه. ثم يمضيان في الحال إلى السوق الممتاز لشراء بضائع “غرغنتويا” الرائعة ذات الشعار البراق الذي يقول “من التراب إلى العلبة”، وزيت “القلعة” ذائع الصيت بفضل ذلك الملصق اللذيذ الذي تظهر فيه أسرار قلعة قروسطية يقتحمها جنود يتسلقون السلالم، فيما يدافع عنها جنود آخرون يفرغون الزيت الساخن على العدو، لكن المنقضّين عوض أن يصرخوا من آلام الحروق يتذوقون الزيت بأطراف أصابعهم وهم يهتفون “أوه، إنه زيت القلعة”.

على غرار هذه السخرية يستمر مورافيا في وصف رحلة الأبوين داخل المدينة لشراء مختلف الحاجات الاستهلاكية مثل “جبن كمبيرا”، وسباغتي “الحقيقة”، امتثالاً لشعار “ما يصلح للمعدة يصلح للدماغ أيضا”، ثم عودتهما إلى المنزل حيث ينتظرهما المطبخ الذي يزدحم بمختلف المنتجات الاستهلاكية، وما يليه من طقوس غسل الصحون، ومشاهدة التلفزيون، وتناول الكحول، والتدخين، والجماع، مع الامتثال للمعايير الأخلاقية التي ترافق المنتجات المستخدمة في تلك الطقوس.

حين ينتهي الأبوان من وصف يومهما النموذجي لابنهما يحاولان إقناعه بأنهما لم يقترفا ما يبعث على الخجل، وليس ثمة ما يسوّغ مآخذه عليهما، لكن “إيزيدور” يفتح فمه أخيراً، وهو يهم بمغادرة المنزل، ليقول لهما كلمةً واحدة هي: “اللعنة”، وبها يختم مورافيا مسرحيته ذات الفصل الواحد، فنستنتج أنه اتخذ الاسم الأول للوتريامون عنواناً لها ليوحي إلى أن تمرّد الابن أقرب ما يكون إلى تمرّد الشاعر الذي انتفض بقوة، في شعره وسلوكه، ضد كل ما يشكل الحياة الاجتماعية، أي ضد البشر، والحب، والأخلاق البورجوازية التي كانت سائدةً في عصره. وهو تمرّد يستبطن تمرّد مورافيا نفسه، ونقضه للمجتمع البورجوازي الإيطالي، وكشفه عن السوس الذي ينخر ذوات أفراده من الداخل، وفضحه للعالم الرأسمالي بأسواقه المكتنزة ببضاعة الجسد في معظم أعماله الأدبية، ومواقفه العلنية المناهضة للفاشية والاستغلال والقمع والتهميش والعنصرية التي تضمنتها مقالاته ورسائله.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.