أسهم نارية.. لوحات المراهقة المشتعلة
بزهوة انتشاءاتها في الفراغ السقيم المُتلقّف لانبعاثاتها، هي جبهة حرب متواصلة مع الذات ومع كل ما ليس هي. حرب يستحيل أن تنطفأ دون أن تترك أثرها الدامغ في قلب سماء الذات الشخصية. لهذا وربما أكثر تشبه الأسهم النارية في أوجّ اشتعالها الفترة العمرية المُسمّاة بالمراهقة التي هي على الأرجح ليست مرتبطة بزمن مُحدّد. إنها حالة غير مُستقرة وهادرة ينعم بها بعض من الناس مهما تقدّم بهم العمر. معظم من حظي بنعمة المراهقة الدائمة هم بشكل عام الفنانون المدركون بأن دوامها مقرُون بأثمان غالية يحلو لهم دفعها مع شيء من مرارة تلبث قليلا وتختفي لتزهر مكانها أزهاراً لا تعدّ أنواعها ولا تحصى.
قراصنة اللون
أبطال اللوحات الشرق أوسطية المعاصرة هم الذين بالرغم من تضرّجهم بتوالي الأزمات أو بظلالها حافظوا على “مراهقة” سماتهم، إذا صح التعبير، وهم بالتالي من بقيت ردّات فعلهم قوية تجاه ما يواجهون من مواقف، وهم من قرصن الألوان وروحها بطيبة خاطرها، ليمدّ نفوذها المعنوي والشكلي في جميع أرجاء اللوحات.
نذكر في هذا السياق أعمال فنية مختلفة كثيراً ولكن تشترك في كون أبطالها إناثا حافظن على “أسهمهن النارية” المشتعلة بألوان أثيرية هي أكثر من مجرّد مواد متوفرة في متاجر الألوان وصناديق الفنانين. لوحات قدّمت الفتاة اليافعة والمرأة/الطفلة بصيغ مُعاصرة فيها الكثير من القوة والرقة في آن واحد.
وإذا كان أثر الفنان الراحل نذير نبعة واضحا في العديد من تلك الأعمال الفنية التي تجسّد الأنوثة الحاضرة في جميع المراحل العمرية للمرأة في امرأة واحدة، ولكن من وجهة نظر وفانتازيا رجل، فان المرأة الناضجة التي تتحد كثيراً ملامحها الداخلية والخارجية مع مظاهر المراهقة في اللوحات العربية المعاصرة كلوحات الفنانة سهير السباعي والفنانة ميسا المحمد والفنانة سارة شمة والفنانة علا أيوبي، هي امرأة لا تتزيّن لأجل رجل ما، ولاتنكفىء في بيتها منطوية على أسرارها، ولا يختصر نفوذها العاطفي على ما تقدّمه من حبّ وحنان، ولاهي تنتظر من يغيّر شيء ما في شأنها ليكتمل وجودها.
هي مراهقة ناضجة يستحيل “رؤية” صغر سنّها على أنه مرادف انتقاص من تجارب وجودية جمّة. تجارب أوصلت المرأة/ الفتاة في أغلب لوحات الفنانة رانية كرباج إلى حدّ الأيقنة.
إنها امرأة/مراهقة تجسّد هشاشة الوجود، ونضارة المشاعر وصلابة الإرادة على السواء. فلا الدمعة هي دمعة ضعف في عيون نساء الفنانة ميسا المحمد بالرغم من شفافية الصدق الراشح من نظراتها، ولا الزخارف في جبين وشعور نساء الفنانة سهير السباعي هي زينة بل أوسمة قتالية ودروع دفاعية متجذّرة في مسامات جلدها ومتأتية من ذلك السهم الناري الذي لحق بها ولم ينطفىء مع مغادرة الفنانة، أو بطلة اللوحة زمن المراهقة. وللفنانة لوحة جديدة نشرتها على صفحتها الفيسبوكية ربما بلغت فيها الفنانة أوجّ التعبير عن خروج الأنثى من كل مراحل العمر لتستقرّ في ملامح مُلتبسة لفتاة مُراهقة، ولكن في أوجّ نضجها الذي “استوى” على نار التجارب القاسية. تظهر في اللوحة ترزح تحت ضغط ملوّن بإكليل من أزهار شائكة هي كل فصول الوجود الإنساني مُجتمعة. وعندما رسمت الفنانة سهير السباعي صبيّا واضح الملامح ولا يتخطى عمره الحادية عشرة سنة بألوان “صبيانية” متفجّرة لم تحضّنا الفنانة على رؤيته وفق معايير عمرية محددة. قدّمته لنا كصبيّ عربيّ أنضجت التجارب نظراته فانحدرت من عينه وانفلتت دمعة رقراقة ملوّنة لتضيع تعداد السنوات في متاهات المراحل العمرية المختلفة.
كما ليس الرمان المتفتح ثماراً ربيعية وزهوراً نيسانية في وجوه النساء في لوحات علا أيوبي مرتبط بالشهوة وبنظرة الرجل إليهن بل هو فلذات ديجيتلية متحوّلة ضجّ بها الأحمر حياة وقدرة على التكيّف فمواجهة عالم حاول ولا يزال تكسير ملامحها.
في حين قدّمت الفنانات السوريات هكذا بورتريهات تختلط فيها الأعمار وتنتصر فيها سيمات المراهقة، انحازت الفنانات اللبنانيات بشكل عام والمُنغمسات في شتى أنواع الصراعات، وربما على مستوى أعمق وأشمل، في التعبير الفني خارج اللوحات التشكيلية، من خلال الفوتوغرافيا والفيديو انستاليشن والبرفورمانس أرت.
لوحات تشكيلية كتلك التي ذكرناها آنفاً ينطبق عليها قول الفيلسوف والكاتب الإسباني جوزي أورتيغا غاسييت، إذا ما استعضنا عن كلمة “شعر” بكلمة “فن”. قال الكاتب “الفن هو مراهقة تخمّرت، فاستمرت”.
حكايات بصرية
تزخر فترة المراهقة بأقوى المشاعر وأشد الابتهالات، وأكثر الأحلام تطرّفاً وأجمل الدهشات وأروعها، فهي لا تنتظر من الفترة العمرية التي تليها أن تقدّم أقل من درجة “جيد جدا”.
ومن أهم ما كتب عن فترة المراهقة غالباً ما نجده متجسداً في الأعمال الإبداعية بشكل عام. ومن أهم ما كُتب حولها هو “إن كانت حياة الإنسان بعد فترة المراهقة تهز أوتارها التجارب الغنية، فاحتمال سردها تقلّ لحكايات يتخايلها، هذا إذا لم تنعدم”. في هذه الكلام الكثير من الحقيقة إذا ما رأينها في الفن أو الأدب أو الشعر، لا بل في كل إنجاز يحتاج إلى ملكة الإبداع، نوعاً من التعويض عن إخفاقات أو خيبات أو محاولة استكمال خيالية لما لم يتحقق في فترة ما بعد المراهقة، تلك الفترة التي تشي بمدى نجاة الإنسان من آتون التكوين النفسي والجسدي. هل ينطبق هذا الكلام في لوحات الفنانين التشكيليين الشرق أوسطيين المعاصرين العرب؟ على الأرجح أن هذه النظرة هي منقوصة.
فمن يتابع الحركة التشكيلية سيلاحظ بأن “حالة السرد” في أكثر الأعمال تجريدية هي موجودة وإن بتفاوت. حركة تلفحها ريح تحمل جينات فترة المراهقة بكل ما تستطيع احتواءه من دهشات وأفراح وحنين جارف إلى زمن ورديّ ولّى ناكساً عهوده، ولكن أيضا زاخرة بخيبات وصدمات وخسارات فادحة على السواء حفرت عميقاً في لوحات التشكيليين، وظهرت من خلال أساليب مختلفة بعضها تبنّى الاختزال في السرد وبعضها فاض واستفاض.
نذكر من الفنانين الذين تعتمل في لوحاتهم صيغ لـ”مراهقات” متعددة الفنانة تمارا سامرآئي التي قدّمت أعمالاً تئنّ بخلفيات سيكولوجية ارتبطت وثيقاً بكل ما يحيط بعالم المراهقة المأزومة من أفكار وتابوهات من خلال رسمها لفتاة مراهقة مُشاغبة وملتبسة الشخصية.
ونذكر الفنان خالد تكريتي الذي قدّم معرضاً فنياً سنة 2016 في غاليري أيام /بيروت تحت عنوان “سأعود مراهقا” استعاد عبره فصولاً من حياته الشخصية تعود إلى فترة المراهقة، إضافة إلى أحلام تحققت أو لم تتحقق فأخذت منحى مختلفاً. لعل أجمل ما قدّم الفنان في هذا المعرض هو القدرة على إكساء الحنين لباسا احتفائيا غير رثائيً.
ومن الفنانين يبرز أيضاً اسم الفنان ياسر صافي الذي لم يجد “أي حرج” في تقديم أعمال فنية تتخالط فيها الطفولة مع المراهقة في ألعاب خطيرة اقتبسوها من حاضرهم المُظلم. تذكرنا لوحاته تلك بالرواية الشهيرة “أمير الذباب” للكاتب وليم غولدنغ التي تلقي الضوء على الممارسات والسلوكات البشرية الأكثر عدوانية.
ونذكر أيضا الفنان مُهند عرابي وشخوصه ذات المآقي التي اكتسحها استفهام تحجرّ حتى بات استفهاما لا يبغي أي ردّ. كما يجدر ذكر الفنان حسام بلان والفنان شادي أبوسعدة اللذين يختلفان بأسلوبهما الفني وتركيزهما الشعري المختلف على أفكار دون أخرى، ولكنّهما فنانان يجتمعان في تصوريهما لفتيات وصبية في أولى سنين المراهقة في لوحات لا تخلو جميعها من حزن كسرته أشعة شمس ضعيفة.
من الفنانين يجدر ذكر أيضا الفنان صادق الفريجي ومخلوقه، أو مارده الأسود، الذي لولا “مراهقته” المتأصلة لما استطاع أن يكون عابراً للوحاته في تحوّلات جسدية ونفسية لا تعدّ ولا تحصى وكلها مبرّرة في عين الفنان، وفي عين المخلوق وفي عين كل من رآه مُتشكّلاً في لوحاته.
أما الفنان نعمان عيسى فقد قدّم شخوصه التي أغلبها من الفتيات رسمهن كدمى تتحكم بتحركاتهن أمهاتهن بخيوط دقيقة متصلة بهن. درامية المشاهد التي يقدّمها الفنان تكمُن خاصة بالشبه المنقطع النظير ما بين الأمّ بملامحها الكئيبة والفتاة “المُتحركة” حتى أجل غير مُسمّى.
في هذا السياق قدّمت الفنانة التشكيلية شروق أمين أعمالاً فنية مؤثرة تتناول قضايا اجتماعية شائكة معظمها تتعلق بقضايا المرأة ومن ضمنها زواج القاصرات.
يأتي الفنان همام السيد في نص فني مُغاير يقدّم من خلاله مجموعة صبية مشاكسين وطريفي الملامح قال الفنان عنهم بأنهم يشبهوه. صبية يدكون أيديهم في جيوبهم ويرتصون ويتلاصقون جسدياً ليشكّلوا خطوط دفاع ضد الأهوال التي تهددهم. كما نذكر الفنان سمعان خوام و”مُراهقه” الأبديّ المدعوم دوماً بعصفور أشد مراهقة منه. ويبرز الفنان إلياس إيزولي في أعمال رائعة ركزت في معظمها على ملل دفين تغلل وسكن شخوصه المراهقة بامتياز.
كم يستغرق الأبد؟
عندما قدّم الفنان التشكيلي ساشا أبوخليل ذاته في معرضه الفردي الأول في صالة “أجيال” في بيروت بعنوان “تحت جليد البحار المتكسر” لم يتوان عن تصوير ذاته في أكثر من لوحة منها “بيت الجميلات النائمات” و”رسائل من العالم السفلي” على أنه رجل مُرهق ومتقدّم في السن على الرغم أنه لم يتخطّ الثالثة والخمسين من عمره. وقدّم في المعرض ذاته بضعة لوحات قال عنهما الفنان إنهما عن ابنه، وتمثّلانه عندما كان يافعاً.