أشكال يثقلها الراهن
لا يمكن لفن النحت إلا أن يكون حاضرا وراسخا في العراق. هو شاخص في ساحات بغداد على شكل نصب، بعضها يستعيد بقوة الخيال حكايات ألف ليلة وليلة، وبعضها الآخر تاريخي أو سياسي يتمثل أحداثا ووقائع احتفظت بها ذاكرة المدينة، والنحت حاضرا، أيضا، في عديد المعارض الفنية المشتركة والشخصية التي تقام فيها. كان هذا الفن دالة ووثيقة لتاريخ حضاري في الزمن القديم، لكنه أصبح شاهدا للتعبير عن تداعيات الحاضر في صورته الراهنة.
حينما رفض العراقيون منذ أعوام قليلة تغّول وتسلط أحزاب الإسلام السياسي على بلدهم وقفوا منددين بهيمنتها تحت «نصب الحرية» الذي أنجزه الفنان الراحل جواد سليم.
قبل ذلك، في العام 2004، بعد عام من الاحتلال الأميركي، أقام عشرات من النحاتين العراقيين معرضا لمنحوتاتهم في مركز الفنون في بغداد، أسموه «على الأنقاض»، كانت أعمالهم تتوزع فضاءات المركز الفني الذي تعرض للحرق والتدمير ونهب مجموعته المتحفية. مثّل معرضهم ذاك تصريحا معلنا من كونهم باقين وسيواجهون الخراب بإنجاز المزيد من أعمال النحت.
الفنان نجم القيسي (1961) كان أحد المشاركين في ذلك المعرض مع نحاتين آخرين من مجايليه هم رضا فرحان وطه وهيب وعلوان العلوان وعلي رسن بالإضافة إلى نحاتين آخرين. جيل من النحاتين تكرس حضورهم منذ ما يقارب العقدين من الزمن. سيمثل فن النحت لديهم ممارسة تبتكر دوافعها الخلاقة بأسباب لحظات تعبير تختبر، غالبا، موضوعات حزينة. رؤية تستمد بعدها الجمالي والإنساني بأثر ما لحق بوطنهم، وعبر نظر يعاين مشاهد الكرب والخراب وتداعيات حرب لم تنطفئ منذ أربعة عشر عاما، هم كانوا شهودها بامتياز.
من صلب هذه العلاقة غير الهانئة تماما جاء نتاجهم الفنّي كي يقيم صلته مع هذه المشهدية الحادّة والصارخة على نحو واقعي ومتخيّل في آن. أعمال لا تنتمي إلى المباشرة لكنّها ذات اهتمام جمالي وشغوفة بالتجريب، كما أنها مولعة بالانشغالات الأصيلة لفن النحت.
ستوثق تجارب هؤلاء النحاتين هذا الزمن الثقيل في شكل أعمال تحمل دلالتها صفة التعبير الحزين، والتي ستبقي، ضمنا، السؤال عن غياب موضوعات أكثر هناءة إلى أجل آخر.
انشغالات التجربة
عبر أسئلة فنية وجمالية تتردد ما بين البحث عن صلة تجريبية هي من صلب الممارسة النحتية وموضوعات تعاين هواجس الإنسان أثناء وجوده الكثيف في راهن مثقل بالحوادث الصادمة، حضرت تجربة النحات نجم القيسي في المشغل النحتي العراقي.
في البدء، كانت تجاربه تعتمد خامتي «المرمر» و»الحجر». كانت تمثيلاته النحتية محاولة لمطاوعة خامة شديدة الصلابة في تعيين أشكال دافعها الخيال المحض. أغلب المنحوتات التي أنجزها خلال العشرية الأولى قد اتخذت صفة التجريد. مشغولة بخيارها الجمالي الخاص. حيث بمقدور الخيال أن يهب مادة «الحجر» خفة تعارض صلابته. أعماله، تلك، كرسّت انشغالها الفني عبر علاقة استدعت جدلية الكتلة والفضاء، الامتلاء والفراغ، التجريد وما يمكن له من أن يفصح عن دلالة تعبيرية ذي معنى.
كان القيسي مشغولا، أيضا، في أن تحمل منحوتاته قدرا من قصدية الأفكار، ووفق رؤية مفهومية يكون خلالها عمله النحتي دالا عليها وكاشفا لها، أيّا تكن خصائص المادة التي تتمثله. تجربة اهتمت بتحقق مأثرة التعبير عبر مواءمة الفكرة لتجريبية الشكل النحتي وتمظهره.
بدافعية هذا التمرس الفني سيكون اختياره لمادة البرونز كخامة تتوافق وتوقه إلى تضمين منحوتاته دلالات متعددة في تمثلها للمعنى. بذلك ستتعدى تجربته الانشغال التجريدي، إلى مقاربة رمزية قائمة على الاستعارة في توصيف موضوعاتها. وسيكون للجسد الإنساني حامل لصفة الحضور الأصيل والوحيد في تجاربه الفنية، بمعالجة فنية قائمة على تحوير واختزال ملامحه، وإبقائه في لحظة حضور تتمثل ثيمات وجودية لا يخلو التعبير عنها من هاجس الغرابة والتعارض.
حيث يصبح هذا الشكل الإنساني، بملامحه المبسطة وهيئته المنتصبة غالبا، القائمة في اللامكان، بمثابة الشاهد الوحيد على موضوعته. أشكاله النحتية تلك ستبدو مهيأة للتعبير عن أسباب حضورها ومغزى وجودها الفني، وعبر أوضاع إنسانية كأنها نتاج محنة ذاتية تستدعي تأثرها البالغ بلحظتها التعبيرية ووجودها الشديد التوتر. أعمال لا توحي بكونها معنية بفكرة مباشرة، أو رؤية توثيقية تعاين الواقع من خلالها، إلاّ في كونها قادرة على أن تصف وجودها على نحو يجعلها تنفتح على عملية تلقّ متعددة التفسير.
الجسد شاهدا على حضوره
في أعماله النحتية الأخيرة تتكرر استعارته لشكل دراجة بعجلات مربّعة الشكل تحمل شخوصه المنحوتة، الخارجة من تحديدات الواقع ومشاهداته ومواقفه. ثمة قصدية لمعنى الزمن في هذه الأعمال، والذي يخلو من تفسير متعال عنه، بل يشتبك معه في شرطه الوجودي والإنساني. استعارته لآلة الركوب اليومية هذه، ستكون استعارة قائمة على المفارقة. إنها لا تدلّ على تمثيل السرعة والعجالة، بل تشير إلى العطل والعطب. البقاء الدائم في لحظة البدء، في ذات المكان، على الرغم من محاولات مضنية للانتقال، للتحوّل، للتغيير.
محاولات ومسعى للمضي إلى الأبعد، لكنها لحظة الصراع ذاتها التي تبقي شخوصه وأشكاله النحتية ماكثين غير قادرين على فعل شيء. وكأنّ ثمّة علاقة خفية وغير مصرّح بها، تقيمها منحوتاته أثناء فعلها التعبيري المأزوم هذا، كناية عن علاقة الكائن مع شرط حياتي غامض يبقيه في حالة من اللاّجدوى، على الرغم من ممارسة فعل يدعو إلى مقصد آخر وغاية مغايرة.
أشكال تستدعي مشاعر الخيبة جرّاء ما تكون عليه بعد أن قامت بمحاولات غير مجدية. أجساد تتلوّى جراء فعل صدام أو سقوط من وسيلة يراد بها أن تبلغ حداً آخر، أو تسعى لبلوغ وجود مختلف، لكن ما يتحقق هو الأثر الذي يدل على بقائها، والرفض الخفي الذي يتسلل كي يعطل فعل الرحيل.
في عمله المعنون «العنقاء» ثمّة حضور لشكل إنساني بجناحين يهم بالتحليق لكنه يؤثر البقاء محدقا إلى الأرض، وكأنه غير قادر على أن يتخلّى عن أثره ووجوده السابق فيها. وفي عمله النّحتي الذي يحمل عنوان «نقطة تحول»، يبدو الشكل المحمول على دراجة مهيأ للحظة السقوط إلى الخلف، فالتحوّل لا يبدو هنا فعل انتقال بقدر ما يكون في وضع يشير إلى حالة من الفشل.
وفي عمله الآخر الذي يحمل اسم «ضوء في نهاية النفق» يتم تمثيل معنى هذا العنوان الدال بأشكال لشخوص عارية متشابهة في ملامحها، بعضها مقطع الأوصال لكنها متلاحمة، إلا أن فعلها قد لا يشير إلى ارتباطه الواضح بمسار ما، قدر ما يكرس قصدا غامضا قد يكون باعثا على المجهول.
تستبطن منحوتات الفنان نجم القيسي مغزى ينطوي على وجود راهن ومعيش، على الرغم من أن رؤيته الفنية تستبعد أيّ مشهدية ذات وقع مباشر، وتكاد تكون بمثابة شهادة عن واقع سياسي واجتماعي مثقل بالخيبة، تلك التي تحدّ من السعي إلى تجاوز الحدود والمضي إلى أفق آخر، أحداثه هي شخوصه المأزومة، وصورته تتمثلها طرائق تعبيرها الدائم عن وجودها الحزين.