أصول القناع الشعري
كَانَ لِمَسَاعِي الإجابةِ عَنْ السُّؤَالِ المُتَعَلِّق بالدَّوافِعِ المُتشَابِكِةِ الَّتي أَخَذَتِ الشُّعراءَ إلى التَّقَنُّع أنْ تُمَكِّنَنَا من الإطلال على شبكة المتناقضات التي تتخلل الواقع العربي مكبوحةً عن التَّفَاعُلِ الْحَيَويِّ الْمُجَدِّدِ، كما أفضت إلى تعرُّف طبيعة العلاقات القائمة بين الشَّاعِر من جهة، وبين واقعه الاجتماعي - التَّاريخي، وذَاتِهِ، والشِّعْر، من جهة ثانية؛ وذلك على اعتبار أنَّ موقف الشَّاعِر؛ المتوجِّه نحو اختراق شبكة المتناقضات لِفَكِّ كوابحها، وتفعيلها، هو المُحدِّدُ الأساسُ لطبيعة علاقاته التي تَعْكِسُ، ضِمْنَ ما تَعْكِسُهُ مِنْ خَصَائَصَ ومُكُوِّنَاتٍ ومَوَاقِفَ وتَجَلِّيَاتِ سُلوكٍ، دَوَافِعَ التَّقَنُّع فِي الْقَصِيْدَة، والوظائفَ التي يُطْلَبُ مِنْ الْقِنَاع أنْ يُؤَدِّيْها: جَمالِيَّاً وفِكْريَّاً، فيها(1).
فإذ تستدعي عملية اختراق شبكة المتناقضات نسجَ شبكة علاقاتٍ فاعلةٍ ومؤثرةٍ؛ فإنَّ لهذه الشَّبكة أَنْ تنهضُ بدورها على شبكة دوافعٍ مُتَضَافرةٍ ومتفاعلةٍ، تنبعُ من قراءة الشَّاعِر، المسكون بِمَوقِفٍ حَدَاثِيٍّ جَذْرِيٍّ ، نسَيِجَ شبكة المتناقضات، ومن اكتشافه علاقاتها الممكنة؛ بغية تفعيلها، وفتح أقطابها المتناقضة عَلَى تَفَاعُلٍ جدليٍّ حرٍّ ومفتوحٍ يُفْضِي إلى تجديد الذَّات، والشِّعْر، والمجتمع عَبْرَ الاسْتِجابَةٍ الْحيَوِيَّة لِلْمَوقِفِ النَّقدّي الْجَذريِّ الَّذي يَحُكُم عَلاقَة الشَّاِعِرِ بِأقِطابِ شَبَكةِ الْمُتنَاقِضات. أَو رُبَّما عَلى نَحْوٍّ مُغَايرٍ، بِدَرَجَةٍ أَو بِأُخْرى، لِيَظَلُّ مُتَجاوبَاً، فِي كُلِّ حَالٍ، مَع طَبيعة مَوقِفِ هَذا الشَّاعِرِ، أو ذاكَ، مِنْ أَقْطَابِ تِلكَ الشّبَكَة.
ولأنَّ الشَّاعِرَ ذَا الموقفِ الْوجُوديِّ النَّقْديِّ الْجَذْريِّ ، وذَا الرُّؤْيَةِ الْمستَقبَلِيَّة: الفكريَّة والْجَمالِيَّةِ والاجتماعِيَّة الْمُتَواشِجَة، والمْفتوحَة، أَبَداً، عَلَى الْحيَاةِ والنَّاس ، هُوَ، فِي الْبَدْءِ والْمُنْتَهى، كائنٌ اجتماعيٌّ، وذَاتٌ مُبْدِعَةٌ تَوَّاقَةٌ إلى تَجْدِيدِ الْحيَاةِ وإثْراء الْوُجُود، فَإنَّه، إِلَى ذَلِكَ، القُطْبُ الأصْلُ دائِمُ الفعاليةِ فِي اشْتباَكِهِ المُسْتَمِرِّ مع جميع أقطاب شبكة المتناقضاتِ الَّتي يَجِدُ نَفْسَهُ مُتَحَرِكَاً في وسَطِهَا الْخَامِلِ، أو يَجِدُهَا مُنْسَربةً في داخله، تَكْبَحُهُ، فْيْمَا هو يُواجِهُهَا.
فَالشَّاعِرُ، الَّذي هُوَ عَلَى النَّحو الذي وصَّفْنَاهُ، إِنَّمَا يُواجِهُ، فِي الْأصِلِ والمُبْتَدأ، ذَاتَهُ، فَيُواجِهُ، بِمواجَهَتِهِ إِيَّاهَا، كُلَّ مَا هُو قَائِمٌ فِيْهَا، وفي واقِعَهِ الاسْتِبْداديِّ الْقَائِمِ، وفي الشِّعْرِ الْمتَكَلِّسِ؛ مِنْ كَوابِحَ وأَغْلَالٍ وَقُيُودٍ، وكَأنِّي بِه يَضْفُرُ الدَّوافعَ والْمُحَفِّزاتِ جَمِيْعَاً، ويُبْحِرُ مُوغلاً في أعماق نشاطه الإنْسَانِيّ، ومجاله الحيويِّ الذي هو الشِّعْر؛ كي يُبْدِعَ الْقَصِيْدَة - التَّجْرُبَة، أو الْقَصِيْدَة - الرُّؤيَا، لتكون، بدورها، مجالاً حيوياً، أو عالماً من المرايا البُؤرية الكاشفة، تَتَبَدَّى فيه الخُيُوط متباينةُ المصادر والألوان، وهي تَنْسُج الشَّبَكات الثَّلاث: شَبَكة المتناقضات وعلاقاتها الراهنة والممكنة، شَبَكَة الدَّوافع، وشبَكة الوظَائف، وهي الشَّبَكات التي تصطرع في الكون الذي يتحرَّك فيه الْقِنَاعُ، ويُحَرِّكه، باعتباره - أي الْقِنَاعَ - معادلاً موضوعياً، أو موازياً شعرياً، للشَّاعر - الإنسان الذي يتحرك في الواقع الموضوعي ليُجَدِّدَ ذاتهُ، ويُجَدِّدَهُ.
صيرورة القناع
فلئن كانَ الشَّاعِر - على مستوى القصائد غير المُقَنَّعة، هو"محور تركيب الْقَصِيْدَة – الموضوع"(2) وهو مُنْشِؤُهَا، كذاتٍ مبدعة، أو كـ"أنا" تُحِيْلُ إلى ما اصطلح على تسميته بـ “المؤلف الضِّمني” الذي يَنْظُمُ النَّصّ، والذي يروي تجربته، كـ"أنا مُضْمَرة" لا تحيلُ إلى الشَّاعِر كـ"مُؤَلِّفٍ حقيقي"؛ بل إليه كَـ “أَنَا من ورق"(3) بِحَسَبِ تعبير رولان بارت؛ فإنَّ صدور قصيدة الْقِنَاع عن تجربة رُؤْيَا داخلية، أو تَمَاهٍ ديالكتيكيٍّ، لا يُفْضِي إلى إبعاد هَذِهِ القَصِيْدَة عن التَّمركز حول أنا الشَّاعِر، أو حول هوية مجردة؛ هوية من ورق، يحيلُ إليها الضَّمير: “أَنَا”، فحسب، بل إنَّهُ يَجْعَلُ الْقِنَاعَ الذي لا يُطابق أيَّاً من القطبين الأساسين اللَّذين يُشَكِّلَانِهِ، يَتَبَدَّى، في الْقَصِيْدَة، بوصفه رمزاً كُلِّياً حِسِّيَّاً وعَيْنِيَّاً هو محور تركيبها، وخائض تجربتها، ومحقِّق صيرورتها؛ ومبدعها الذي يحقق انتماءَها إليه إذ ينطقها بانياً، بذلكَ، كينونتها الموضوعية المستقلة عن الشَّاعِر؛ حيث تتمحور الْقَصِيْدَة حوله، ليس فقط كَمُعَادلٍ مَوضُوعِيٍّ - شِعْرِيٍّ لتَجْرُبةِ الشَّاعِر، أو لتَجْرُبةِ الشَّخْصِيَّة، أو لِتَجْرُبَتَيْهِمَا مَعَاً في انْفِصَالٍ مُتَوازٍ أَو فِي تَمَازُجٍ تَفَاعُلِيٍّ مُتَبَاينِ المستوياتِ والدَّرَجَاتِ؛ بل كَمُعَادلٍ مَوضُوعِيٍّ لِتَجْرٌبَةٍ إنْسَانِيَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ هي نتاجُ تفاعل كلتا التَّجْرُبَتَينِ في رُؤْيَا الشَّاعِر، وهي تجربةُ الْقِنَاعِ الْوُجُودِيِّ اللَّامتناهي الذي يَتَواصُلُ حُضُوراً في الحياة والتَّاريخ.
وإذ ولَّدَ القُطْبُ الأَوَّلُ في تشكيل الْقِنَاع: "الشَّاعِر"، سؤالَ الدَّوافع؛ فردتنا محاولةُ الإجابة عنه إلى إدراك شبكة متناقضات الواقع، وشبكة علاقات الشَّاعِر مع ذاته، ومجتمعه، والشِّعْر، وإلى بناء شبكة الدَّوافع متعددة المستويات والأبعاد؛ فإنَّ القُطْبَ الثَّاني في تشكيل الْقِنَاع: "الأَنَا الْمُغَايِر"، قَدْ ولَّدَ السُّؤَالَ عن المَصَادِر التي اسْتَدْعَى مِنْهَا الشِّعْراءَ "أَنَوَاتِهُمْ المُغَايِرَةَ" التي أَعْطَتْ أسماءَها، كلَّياً أو جزئياً، لأَقْنِعَتِهِم، ؛ فكَانَ الفصلُ الثَّالث من الكتاب الأَول: "تَحليل الظَّاهِرة" الذي وُسِمَ بالْعُنَوان“المتن الشِّعْري وتشكيل المصادر”، والذي أجرينا فيه معالجاتٍ متعددة المستويات والمداخل لهذه المصادر، منطلقين من المعطيات التي تقدّمها عناوين القصائد، والمصاحبات النَّصية الأخرى. وذلك على اعتبار أن عنوان قصيدة الْقِنَاع يتضمنُ، غالباً، اسم الأَنَا الْمُغَايِر الذي صار اسماً للقناع، أو الذي أُدْخِلَتْ عناصرُ منه مع عناصر أخرى تَرتدُّ، غالباً، إلى أَنَا الشَّاعِر، في تكوين اسم جديد للقناع، وعلى اعتبار أنّ المصاحبات النَّصية الأخرى: اسم الشَّاعِر، المقدمة، عنوان الدِّيوان، تاريخ الكتابة - إنْ وُجِدَ- وتاريخ النَّشر... إلخ، تُقَدِّم معطيات كافية لتحليل علاقة الشُّعَراءِ بشبكة مصادر التَّسْمِيَةِ على مستويات مختلفة، وفي ضوء منظورٍ يتعامل مع قصيدة الْقِنَاع كظاهرةٍ إبْدَاعِيَّة جَماليَّةٍ وفِكْرِيَّة، وليس كَنُصُوصٍ مُفْرَدَةٍ، مَعْزُولَةٍ ومُسْتَقِلَّةٍ، فَحَسْبُ.
ومَا عملية تكوين اسم جديد للقناع ، من حيث البنية التي تَحْكُهَا وتنتجُ الإسْمَ، إلَّا صورة مُصَغّرة لعملية تكوين الْقِنَاع ذَاتِهِ؛ ذلك لأَنَّهَا تُمَثِّلُ الحد الأدنى الذي يمكن لتفاعل أقطابه: أنَا الشَّاعِر، وأنا الأَنَا الْمُغَايِر (أكانَ مُفْرَداً أو مُتَعَدِّداً) أنْ يُنْتِجَ قِنَاعاً يَنْتَظِرُ التَّسْمِيةَ.
ونظراً لأنّ عملية تكوين الْقِنَاع كتجربة مروية في الْقَصِيْدَة، وكهوية تتحقق فيها، لا تقتصرُ - كما تُفْصِحُ عن ذلك معظم القصائد - على المصدر الوحيد الذي استدعى منه اسم الأَنَا الْمُغَايِر الذي أُعْطِىَ للقناع، أو على المصدرين اللَّذين استدعيت منهما العناصر المكوِّنة لاسمه الجديد. كما أنها - أي عملية تكوين الْقِنَاع - قد تُفَارِق المصدر الذي استدعي منه الاسم، مُفارَقَةً بعيدةً، فَتَنْأَى بالْقِنَاع عن هُوِيَّةِ الأَنَا الْمُغَايِر المتحققة في ذلك المصدر، وتتوجه نحو مصادر أخرى، وذلك على النَّحْو الذي يصيرُ معه الاسم مُوَحِّداً السِّمات والخصائِصَ الْهُوِيَّاتِيَّةِ بِصُوْرةٍ جُزَافِيَّةٍ، كما نلاحظ في إيْحَاءَاتِ اسْمِ الْقِنَاع: مِهْيَارِ الدِّمشقي، مقارنة بخصائص هُوِيَّتِهِ وشبكة دلالاته، أو على النَّحو الذي تبدو معه إيحاءاتُ الاسم وهي تُسْهِمُ، بجلاءٍ، في تكوين الْقِنَاع وصوغ خصائص هويته، كما نلاحظ في كثير من القصائد. أو وهي تسهم في ذلكَ، بغموضٍ وخفاءٍ، كما نلاحظ في قصائد أخرى؛ فإنَّ ذلك كُلَّه، بالإضافة إلى ما سيكشف عنه التَّحْلِيْل، يؤكدُ أنَّ مصادر التسمية ليست - هي دائماً - مصادر التكوين؛ وذلك لأنَّ هذه الأخيرة لا تتعلق باسم الْقِنَاع بقدر ما تتعلق بهويته التي تتحقق، دائماً، في سياق صيرورة تجربته المروية في الْقَصِيْدَة، وهو الأمر الذي يُفْصِحُ عن أن تكوين الْقِنَاع ليس إلا مُصْطَلَحَاً مُضَمَّناً في مصطلح أوسع هو تكوين الْقَصِيْدَة، أو بناء النَّصّ. وعلى ذلك، فإنَّ النَّصّ هو المجال الْحيَويُّ الوحيد الذي يمكن أن نبحث فيه عن مصادر التَّكوين، الواضحةِ أو الخفيَّة.
التماهي والتناص والمعنى
ولا ريب أنَّ حضور اسم الأَنَا الْمُغَايِر؛ كاسم للقناع، أو كعنصر يُشَاركُ عنصراً آخر يرتدُّ إلى أنا الشَّاعِر في تكوين اسم جديد له، سَيُوَلِّدُ فَرْضَاً - قد يبدو على هيئة بَدْهِيَّةٍ - مؤداهُ أن المصدر الذي استدعى منهُ ذلك الاسم، أو أحد مكوناته، سيكون مصدراً مهيمناً في تكوين الْقِنَاع، أو أنَّه، في أقل تقدير، سيكون أحد المصادر البارزة في تكوينه، الواضحة على سطح النَّصّ، أو الغائبة في نسيجه، وفي ثنايا طبقاته العميقة. وقد يُؤَدِّي حضور أنا الشَّاعِر، كقطبٍ رئيس ودائم في تكوين الْقِنَاع: تجربة وهوية، وفي تسميته أحياناً، إلى توليد فَرْضٍ مُشَابَهٍ يقودنا إلى مُسَاءَلةِ سطح النَّصّ عن المكونات العائدة مباشرةً إلى الشَّاعِر وشبكة علاقاته مع واقعه، وسيرته الذَّاتية، وتجربته الحياتية، وفكره النَّظري، وخصائص هويته التي يتميز بها في الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، والتي نعرفها مسبقاً، أو نُكَوِّنها لأنفسنا عنه.
وعلى الرَّغم من أن هذين الفَرْضَيْنِ لا يتجاوبان مع المفهوم العميق لديَالِكْتِيك التَّمَاهِي الذي يحكم العلاقة بين أنا الشَّاعِر وأنا الأَنَا الْمُغَايِر، والذي تؤكـد نتائجه أنَّه “بمجـرد أن يعثر الشَّاعِر على قناعه، ويصبحُ هذا الْقِنَاع الشَّكل الخارجي لحياته الخلاَّقة؛ فإن هذا الْقِنَاع يفقد الاتصال الحقيقي كله مع حياته الطَّبِيعِيّة"(4)؛
وعلى الرَّغم، أيضاً، من أنَّ كلا الفرضين ينهضُ على تصورٍ سطحي لمبدأ التَّقَنُّع في الْقَصِيْدَة، ولقصيدة الْقِنَاع كنص، حيث يتبدى الْقِنَاع، في هذا التَّصَوُّر، مجرد حِيْلةٍ بلاغِيَّة، أو بوقٍ ينطق كلماتٍ كان بمقدور الشَّاعِر أنْ يقولهـا على لسانه الشَّخصي، وبِصَوتِه الخاص، وحَيْثُ تَتَبَدَّى الْقَصِيْدَة وكأنما هي خزانةٌ ذات أدراج متسلسلة؛ أي متتاليات شعرية، تحتوي بانفصالٍ وعلى تَوالٍّ عَشْوَائيٍّ أو مُتَقَصَّدٍ، شذرات من تجربة الشَّاعِر، ومن تجربة الأَنَا الْمُغَايِر، أو كأنما هي نسيج مُرَقَّعٌ احتفظت كلُّ رقعةٍ منه بخصائصها المتميزة، وبلونها الأصلي الذي يدلُّ على الثَّوب الذي اقتطعتْ منه؛
على الرَّغم من هذا وذاك، فإنَّ لكلا الفَرْضَين المشار إليهما إيجابية أساسية تكمن في تمكيننا من اكتشاف الطَّريقة، والدَّرجة التي يعمل فيها ديَالِكْتِيك التَّمَاهِي في هذا النَّصّ أو ذاك، وهو الأمرُ الذي يتوضَّحُ من خلال إدراك القوانين والآليات التي تحكم “ديَالِكْتِيك التَّنَاصّ” الذي هُوَ، في التَّحْلِيْل الأخير، اقتناصٌ وتجسيد لنتائج ديَالِكْتِيك التَّمَاهِي.
وإذ نرى في الفَرْضَيْنِ المشار إليهما ما يوفِّر للتَّحْلِيلِ منطلقاً يبدأ منه؛ وذلك على اعتبار أنَّ كَلَيْهُمَا يَنْهَضُ على تَصَوُّر سَطْحي لمبدأ التَّقَنُّع يُؤَسِّسُ لانبثاق المستوى الأدنى لديَالِكْتِيك التَّمَاهِي، ولإنتاج التَّجلِّي الأَدْنَى، أي التَّجَلِّي البَلاغِيِّ اللَّاتَكْوِينِيِّ لقصيدة الْقِنَاع؛ فإنَّ في ذلك ما يدفعنا إلي وضع كلا الفرضين، والتَّصَوُّر الذي ينهضان عليه، في دائرة الاهتمام؛ كي نتمكن من خلال المراوحة بين الأدنى والأعلى من اكتشاف مُسْتَويَاتِ اشْتِغَالِ وفَاعِلِيَّةِ كُلٍّ من ديالكتيكيْ التَّمَاهِي والتنَّاص في أي قصيدة نحللها بِقَصْدِ اكتشاف مصادر تكوين الْقِنَاع الذي ينطقها. فإذْ تتباينُ طاقاتُ اشتغالِ، وأَمْداءُ فَاعِليَّة، ديَالِكْتِيك التَّمَاهِي، قوة وضعفاً؛ فإنَّ انعكاسه على النَّصّ سَيُفْضِي إلى تباين الآليات الحاكمةِ دِيَالِكْتِيكَ التَّنَاصّ، وإلى تعدُّد مستويات اشتغاله ودرجات فَاعِلِيَّته، وذلك على النَّحو الذي يفصح عن تباين درجات التَّفاعل بين الأقطاب المشكّلة للقناع، وبين التَّجارب والنُّصُوص المتداخلة في بناء تجربته، وصوغ هويته المتحققة في هَذِه الْقَصِيْدَةِ أو تِلكَ مِنَ قَصَائِدِ الْقِنَاعِ الَّتي نُقاربُهَا.
ولَئِنْ كَانَ كُلُّ نَصٍّ، وعلى نَحْوٍ مُعَمَّمٍ، "لوحَة فُسَيْفِسَائِيَّة مِنَ الاقتباسات"(5)، أو "مجالاً لالتقاء خطابين على الأقل"(6)، أو"سلسلةً من العلاقات مع نُصُوص أخرى"(7)، وذلك في ضوء إدراكنا أنَّ الحِوارَ بين النُّصُوص "ظاهرةٌ معتادةٌ على طول التاريخ الأدبى"(8)، حيثُ ينهضُ النَّصُّ الجديدُ على "تَشَرُّبٍ وتَحْوِيلٍ لِنُصُوصٍ أُخْرى"(9) سَابقةٍ عَلَيْهِ أو مُعَاصِرةٍ لَهُ؛ فإنَّ هذا التَّشَرُّبَ، وهَذّا التَّحْوِيْلَ، إِنَّما يَتَحَقَّقَانِ، في الشِّعْر، بطريقة بالغة الكثافة والعمق، وذَلِكَ إلى درجة يَغْدُوَانِ معها ضرورين "لولادة معنى النَّصّ"(10) حيثُ يصعبُ التقاط معنى أيِّ نَصٍّ، وبناء شبكة دلالاته، بمعزل عن إدْرَاك القَاع الذي ينهض عليه هَذا النَّصِّ أَو ذاك، وهُوَ الْقَاعُ الَّذي لا يُمْكِنُ إِدْراكُهُ بِمَعْزلٍ عَنِ اكْتِشَافِ النُّصُوص المُتَدَاخِلَة في تَكْوينِ نسيجِ النَّصِّ الَّذي هُوَ قَاعُهُ الَعَميق، وتَحْلِيلِ العَلاقَات النَّصِّيَّة القَائِمةِ بينَ العِنَاصِر المُسْتَقَاةِ مِنْ هَذِه النُّصُوص، وتَبيُّنِ طبيعَةِ هَذِهِ العَلاقَات عبر تَعرُّف كَيْفيَّاتِ تشَكُّلِهِا، ودرجاتِ تَفاعُلِها، وغير ذلك مِنْ أمورٍ جَماليَّة وأُسْلُوبِيَّةٍ ودلاليَّةٍ ذَات صَلةٍ.
وإذا ما كان هذا هو شأن الشِّعْر عموماً؛ فإننا نستطيع، بالنِّسبة للشِّعْر العربيِّ الحداثيِّ، أن نذهب مع جوليا كريستيفا في تأكيدها أن التَّنَاصَّ، أو التَّدَاخُل النَّصّيِّ، أو الحوار بين النُّصُوص، هو "بالنِّسْبَة للنُّصُوص الشِّعْرية الحَدَاثِيَّةِ قانونٌ جوهري، إذ هي نصوص تتمُّ صياغتها عبر امتصاص، وفي نفس الآن عبر هدم النُّصُوص الأُخرى للفضاء المُتَدَاخِل نَصِّيَاً"(11).
وإذْ يَتَبَدَّى قانون التَّنَاص قانوناً جوهرياً بالنِّسبة للنَّصِّ الشِّعْريِّ الحداثيِّ عموماً؛ فإنه بالنِّسْبَةِ لقصيدة الْقِنَاع، قانونٌ تَأسِيسِيٌّ ضَروري؛ إذْ لا يُمكنُ لهذه الْقَصِيْدَة أنْ تتحقق دون أنْ تنهض على آلياتِ اشتغالِ هذا القانون الَّذِي هو - كما سبقت الإشارة - الوجهُ الآخر للقانون الجَوهري الذي عليه تنهض تجربة التَّقَنُّع، أي " ديَالِكْتِيك التَّمَاهِي".
فإنْ نَحْنُ نظرنا إلى "الشَّاعِر" وإلى "الأَنَا الْمُغَايِر"، بِوصْفِهِمَا ذاتين تتفاعلان في مَجَالٍ حَيَويٍّ تَمُورُ فِي رِحَابِه "رؤيا داخلية" تُفْضي بالشَّاعِر إلى العُثُور على قناعِهِ الْمُحْتَملِ؛ فإننا نكون إِزاءَ "ديَالِكْتِيك التَّمَاهِي" الذي نحسبُ أنه مصطلح ملائمٌ للتَّعبير عن ذلك التَّفَاعُلِ الْخَلَّاق.
وإنْ نحنُ وجهنا النَّظر نحو عملية تحويل "تجربة الرؤيا الدَّاخلية" إلى نصٍّ، أي إلى قصيدة قناع؛ فإننا نواجه "ديَالِكْتِيك التَّنَاصّ" الذي تنبني عليه الْقَصِيْدَة مُجَسِّدةً تفاعل أنا "الشَّاعِر": كتجربة واقعية، وكمكونات ثقافية، أي كنصٍ مشغولٍ من كثرة من التَّجَارب والنُّصُوص، مع أنا "الأَنَا الْمُغَايِر": كتجربة مروية في نصوص معينة، وكهوية متحققة في تلك النُّصُوص، أو كنصٍّ شفاهي ينسرب في نسيج الواقع، أو في الحاضر المعيش، وفي وجدان الناس، وذلك على النَّحو الذي يُفْضِي فيه التَّفاعل بين هذه النُّصُوص إلى تحقق الْقَصِيْدَة التي تُجَلِّي انبثاق تجربة التَّمَاهِي، أو الرؤيا الداخلية، وتعكس فاعليتهما، فيما هي تعكس ناتجهما في تجربة الْقِنَاع، وفي هويته المكتسبة عبر صيرورة تجربته المتحققة في الْقَصِيْدَة.
الظاهر والخفي
وفي هَذَا الضَّوء، فَإنَّ ديَالِكْتِيك التَّنَاصّ هُوَ الوجْهُ الظَّاهر لديَالِكْتِيك التَّمَاهِي الْخَفِيِّ؛ ذلك لأنه يَعْكِسُ عمليةَ تَحَوُّلِ قُطْبَيِّ الْقِنَاع من ذَاَتينِ مُتَفَاعِلَتَيِن إلى نَصَّينِ مُتَدَاخِلَيِن فيما هُوَ يلْتَقطُ ما تُسْفِرُ عَنْه مساراتِ لحركة الباطنية التي تمور بها تجربة الرؤيا الداخلية، لِيُجَسِّدَ نتائج صيرورتها، بَلْ وحركة تجاذب أقطابها، وتَفَاعُلِهَا، في جسد الْقَصِيْدَة، مُكثَّفَاً هُوِيَّةَ الْقِنَاعِ، كَهُوِيَّةٍ مجردةٍ تتحقق عبر رؤيا الشَّاعِر الدَّاخلية، وتُنَزَّلُ تَجَلِّيَاتُهَا، على نَحوٍ مُتَعَيَّنٍ، في القصيدةِ حَيْثُ تَنْهضُ اللَّغَة الشَّعرِيَّة بِتحْويلِ هاتِهِ الرُّؤْيَا إِلى تجربة حَيَويَّة تَجْري، مُجَسَّدةً، في مَجَالٍ حيويٍّ هو النَّصّ الإبْدَاعيُّ الذي يُحَقِّقُ لها وُجُودَاً حَيَويَّاً في الحَيَاةِ، والتَّاريخ.
وكي تتحقق تجربة التَّمَاهِي، وكي يشتغل التَّنَاص، لابد من تَوَفُّر حدٍّ أَدْنَى مِنَ الْحِوارِ والتَّفَاعُل والتَّداخُل، وليس هذا الحدُّ الأدنى إلا حِوَاراً بين قطبين، تَفَاعلاً بين ذاتين فاعلتين ومنفعلتين، وتداخلاً بين نَصِّين.
وإذ تنطلق قصيدة الْقِنَاع من قاعدة العلاقة التي يؤسسها القطبان الأساسيان: أنا الشَّاعِر، وأنا الأَنَا الْمُغَايِر؛ فإنَّ بعض النُّصُوص يظلُّ لصيقاً بهذه القاعدة، أو قريباً منها، فيما ينطلق بعضها الآخر إلى فضاءات أوسع، فيحتضنُ، في إطار تجربة التَّمَاهِي المائرة في قاعه، كثرةً من الأنات المغايرة، ويُوَسِّعُ عالمه بالحوار المتفاعل مع نصوص كثيرةِ قَدْ تربو على الحَصْرِ.
وقد يكون لطُول النَّصِّ، أو قِصَرِهِ، أثرٌ ظاهرٌ في الدَّلالة على درجة اقترابه من تلك القاعدة أو ابتعاده عنها. فإذ يفتح طول الْقَصِيْدَة إمكان تعَدُّدِ مصادر التَّكوين، وَتَوَسُّع قاع النَّصّ؛ فإنَّ لِقِصَرها أَنْ يُغْلِقَ هذه الإِمْكَانِيَّة، أو يُضَيِّقَ مجالها، أو يَحُولَ دون تحقُّقِهَا على الشَّكل الفني الموائم.
وعلى الرغم من المنطقية الظَّاهرة لهذه الفروض، ومن الاستخلاص النَّقْدِي الشَّائِع الذي مؤداه أَنَّ "القصائد العظيمة هي دائماً قصائد طويلة؛ وذلك بسببٍ من كمية الواقع التي لابدَّ أن تتضمَّنَهَا كمضمونٍ ظاهر"(12)؛ فإنَّنَا نحسب أن العوامل الخفية التي تُحَدِّدُ حجم الْقَصِيْدَة هي ذاتُهَا التي تُفْضِي إلى التصاقها بالقاعدة أو ابتعادها عنها؛ فليس حجم الْقَصِيْدَة إلا نِتَاجاً لتلك العوامل التي نعتقد أنه ما من عبارة قادرة على احتضانها جميعاً غير عبارة "طَبِيْعةُ التَّجْرُبَة"، فالتَّجْرُبَةُ، كما تَتَبَدَّى في الْقَصِيْدَة، تحتضن الدَّوافعَ الكامنةَ وراء التَّقَنُّع فيها، فِيْمَا تُفْصِحُ الْقَصِيْدَة، عبر التَّحْلِيْل المُتَأَنِّي، عن تَراتُبِ الدَّوافع، وعن الدَّافع الأكثر هيمنةً عليها.
حَيْنَ يهيمن على الشَّاعِر دافعٌ مُعينٌ مُدْرَكٌ تَمَاماً من جانبه، كأَن يتحاشى الاصطدام المباشر بالسُّلطة السِّيَاسِيةِ الاسْتبْدَادِيَّة وأجهزتها القمعية، أو أن يعبر من خلال قناع عن موقفٍ أو رؤيةٍ معينة لا يستطيع، لسبب أو لآخر، أن يبثهما على لسانه الشَّخصي؛ فإنَّ هذا الدَّافع، وعلى الرغم من استدعائه دوافع أخرى تلازمه، هو الذي يُحَدِّدُ، بالضَّرورة، حَجْم النَّصّ بِحَجْمِ الجزءِ المُرَادَةِ إضَاءَتُهُ من تجربة الشَّاعِر عبر إضاءَةِ ما يوازيه، أو يتجاوب معه، من تجربة الأَنَا الْمُغَايِر، وهو الأمر الذي يَحْكُمُ الأَعَمَّ الأغلب من القصائد القصيرة، والقصائد - الومضة التي تَتَبَدَّى، وكأنما هي نصٌ مكتوب فوق نصٍّ وحيد!
وحين يتجاوز الأمر حدود التَّعْبِير عن موقفٍ مُحدَّدٍ، أو الإشارة الجزئية إلى حالة معينة، أو اقتناص لحظة من لحظات تجربة واسعة، إلى الدُّخول في تجربة رؤيا داخلية، بالمعنى الفلسفيِّ الْوجُودِيِّ أو بِالْمعنى الصُّوفي، وإلى تَجْسِيدِ هَذه التَّجْرُبَةِ، في النَّصِّ الشِّعْرِيِّ، كتجربةٍ إنسانيةٍ كُلِّيَةٍ وشَامِلَةٍ؛ فإنَّ اتِّسَاع التَّجْرُبَة يفضي، بالضَّرورة، إلى اتساع النَّصّ، دون أن يتطابق كلا الاتِّسَاعين؛ حيث "كلما اتَّسعت الرؤيا، ضاقت العبارة"(13)، على حَدِّ قول النِّفَّرِي.
وإذ يفضي اتساع التَّجْرُبَة إلى اتساع النَّصّ؛ فإنَّ كلا الأمرين ينهضُ على تعددية لافتة في مصادر تكوين الْقِنَاع، فمثل هذه التَّجْرُبَة التي تسعى إلى التوفيق بين ما يتناهى وما لايتناهى، وإلى وصل الزمان بالأبدية، واقتناص الأزمنة كلِّها في بُرهة رؤيا كاشفة، هي وحدها التي تفتح الأَنَا الْمُغَايِر، الذي اختاره الشَّاعِر للتَّمَاهي به، على أشباهه، وتصلهُ - إن كان مُتَأخِّراً - بنموذجه الأَصْلِيِّ الموغل في القدم، أو تبني سلسلة تجلياته المتعددة بتعدد أسمائه - إن كان هو النَّمُوذج الأَصْلِيُّ الأقدمُ - حتى أقرب تجل له في عصرنا، أو في أقرب الأزمنة إلى عصرنا، بحيث يكون الْقِنَاع هو التجلِّي اللانهائي، الموغل في الماضي، والقائم في الحاضر - واقعاً أو رؤيا - والمفتوح على مستقبل مفتوح، لذلك النَّمُوذَج الأَصْلِي وتجربته اللَّامتناهية، وبحيث تَتَبَدَّى الْقَصِيْدَة نَصَّاً مكتوباً فوق ما لا يتناهَى من التَّجَاربِ المحمولَةِ علَى أَصْواتٍ ونُصُوص.
جدل القاع والبرج
ولعلنا نستطيع أن نجرب الآن، وقبل أن نلجأ في مراحل لاحقة إلى تحليل نماذج دالة من القصائد، استكشاف المداخل أو القنوات التي يمكن أن تنسرب من خلالها "أَنَواتٌ مُغَايِرَةٌ كثيرةٌ" لتتفاعل في تكوين "الأَنَا الْمُغَايِر الرئيس" الذي يتَمَاهَى الشَّاعِر به، أو لتتفاعل في تجلية تحولات الْقِنَاع نفسه إذ يدخل معها في تَجِاربِ رؤىً داخليةٍ تجمعه، أو توحِّدُهُ، بها، وهو الأمر الذي يتمظهَرُ في حضور نصوصٍ متعددة المجالات والحقول والسياقات المصدرية، تنصهرُ في نسيج - أو تَتَبَدَّى على سطح - الْقَصِيْدَة التي تتخلَّقُ هُوِيَّة الْقِنَاع فِي مِجْرى صَيرورتها كتجربةٍ حَيَاة.
حين تنهض الْقَصِيْدَة على تجربة رُؤْيَا داخليَّةٍ مُتَّسِعَةٍ وشَامِلَةٍ، وحين تَكْتُبُ هَذِهِ الْقَصِيْدَةُ التَّجْرُبَةَ نَفْسَهَا، فِي صَيْرُرَتِهَا، لا أَثَرَهَا فَحَسْبُ؛ فإنَّ طبيعة العلاقة بين قطبي هذه التَّجْرُبَةِ، أيْ الشَّاعِر وأناهُ الْمُغَاير، إنَّمَا تفتح الباب واسعاً أمام تعددية المكونات التي تعود إلى هَذَيْنِ القطبين في سياق تحولاتهما المستمرة التي تنعكس في تَحَوُّلاتِ الْقِنَاعِ، وفي تجلياته الاسْمِيَّة، أو الصُّورية المتعددة؛ وذلك لأن جدلية أنا الشَّاعِر - أنا الأَنَا الْمُغَايِر التي تتم في إطار الرؤيا الدَّاخلية هي، دائماً ومن حيث الإِمْكَانِيَّة المجردة، جدليةٌ مفتوحةٌ على اسْتِدْعاءِ أقطابٍ أخرى تَنْصَهِرُ مُكَوِّنَاتُهَا الْمسْتَخْلَصَةِ في مُكَوِّنَات أيٍّ منهما، كقطب رئيسٍ. وهِيَ، إلى ذَلِكَ وفي تَواشُحٍ مُسْتَمِرٍّ، جَدَلِيَّةٌ مفْتُوحَةٌ على استدعاء نُصُوصٍ تمَّ امْتِصَاصُها في إطَارِ عملية صوغ خصائص هُوِيَّةِ أيٍّ منهما، كَنَصٍّ مكتوبٍ فوق كثرةٍ هائلةٍ من النُّصُوص.
ولا ريب، هنا، فِي أنَّ جميع المداخل والقنوات المحتملة لانسراب الأَنَاتِ المُغَايِرة، ولِعُبُور النُّصُوصِ الْحَامِلَةِ التَّجَاربَ، إنَّمَّا تَعُودُ إلى هذين القُطْبَينِ اللَّذَينِ يُوَلِّدان، بتفاعلهما، تلك الْجَدَلَيَّةِ المفتوحة التي تُفْضِي صَيْرورتُهَا إلى تحقق الْقَصِيْدَة كَمَجَالٍ حَيَويٍّ تُخَاضُ فِيْهِ التَّجْرُبَةُ الْحَيَويَّةُ وفي رِحَابِه تَتَخلقُ هُوِيَّةِ الْقِنَاعِ وتَتَجَلَّى سُلوكاً، ومواقِفَ، وتَصَرُّفاتٍ، وأقْوالٍ، ورؤىً.
ولأنَّ الشَّاعِرَ، كَذاتٍ مُبْدِعَةٍ، وكَأَنَا اجْتِمَاعِيةٍ، أَحالتْ نِفْسَهَا في الْواقِعِ الْمُوضُوعيِّ ذَاتَاً شَاعِرةً، فِيمِا أحَالَتْ نَفْسَهَا، أَمامَ نَفْسِهَا، كَيْنُونَةً وُجوديَّةً تسْعَى للعُثُورِ عَلَى كَمالٍ مُحْتَملٍ، وتَتوقُ لِتَجْلِيَةِ أَسْمَى مُمْكِنَاتِ تَحَقُّقِهَا الإنْسَانِيّ فِي شَتَّى مداراتِ وُجُودِهَا؛ فَإنَّهُ يَجْعَلُ مِنْ نَفْسِهِ الْوجْدَانِيَّة الْكُلِّيَّةِ مَجَالاً حَيَوِيَّاً تَدُورُ في أعْمَاقِ رِحَابِه تَجْرُبة التَّمَاهِي، أَيْ تَجْرُبَة الرُّؤْيَا الدَّاخِلِيَّةِ الَّتِي تُنْتِجُ هُوِيَّتَهُ العَمِيْقَةَ، فِيْمَا هي تُنْتِجُ الْقَصِيْدَةَ الَّتي يَخُوضُ قِنَاعُهُ تَجْرُبَتَها، ويَنْطِقُهَا مُجَلِّيَاً صَيْرورةَ تَشكُّلَ تِلْكَ الْهُوِيَّةِ عَبْرَ تَفَاعُلِ مُكَوِّنَاتِها النَّاهِضِ عَلى جَدَلِيَّة أقْطَابِ القَنَاعِ الْمائِرةِ فِي أعَماقِ تِلكَ التَّجربَةِ الرَّؤيَاويَّةِ الْخَلَّاقَة.
وإلى ذَلِك، فَإنَّ اختيارالشَّاعِرِ هذا الأَنَا الْمُغَايِر أو ذاكَ، وهذا النَّصِّ المصدريِّ أو ذاك، وهو الاختيار القائم، بطبيعة الحال وفي تَواشُجِ مُتَّصِلٍ، على مَدَى مَخْزونِه الثَّقَافي والمعرِفي وتَشَعُّبِه وعُمْقِه، وعلى مَدى اتسَاع تجربته الحياتية وَفَرادتِهَا، وعلى مَوْقِفِهِ من شبكة مُتَنَاقِضَاتِ الواقعِ الَّذي يُعَانِيه ويُعَايِنُه، وعلى طبيعة توجُّهاته الاجِتِمَاعِيَّة والفكرية والْجَمالِيَّة، إنَّمَا يُمَثِّلُ الشَّرارة الأولى التي قد تختزن، في ضوء طبيعة الاختيار، طاقة تفجيرٍ تَتَراوَحُ مَا بَيْنَ هائِلَةِ وضئيلة، وذَلِكَ بِحَسبِ طَبيْعَةِ الاختيارِ، وَوِفْقَ مُحَفِّزاتِهِ ودَوافِعِه المشْروطَة بِما ذَكرنَاهُ للِتَّوِّ مِن مُحَدِّدَاتٍ حَاكِمَةٍ ومَعايير.
وفي هَذَا الضَّوء، فَإنَّ اختيار الشَّاعِر لِنَمُوذجٍ أَعْلى، أو لنمط أصْلِي، ليجعله اسماً لقناعه، ومحوراً تدور حوله تجربة الْقَصِيْدَة، سَيُفْضِي، بِمَا يَكْتَنزُهُ هذا النَّمُوذج الأعْلَى، أو النَّمطِ الأصْلِيِّ، من خَصائِص وميزات، وبما ينطوي عليه من إِمْكانات فنيَّةٍ وطَاقات رمزيَّة، إلى بناء التَّجْرُبَة فَوق كثرة هَائِلَةٍ من التَّجَارب، وإلَى نهوض النَّصِّ الشَّعْرِيِّ فوق قاعٍ بالغ الاتِّساع والعُمْق؛ لكونِهِ يحتضن كثرة هائلة من النُّصُوص، وذَلِكَ على نَحْوٍ يُحِيْلُ الْقَصِيْدَةَ إلى بُرجٍ شَاهق العُلُوِ يَرْتَقِيهِ الْقِنَاعُ فِيْما تَمْتَدُّ أسسه عابرةً أَغْوَارَ الأرضِ صوب ما لا يتناهى من الطَّبقات. وكأنما الْقَصِيْدَة سطحٌ ظاهرٌ لكثرةِ من النُّصُوص البَاطِنَةِ القابعةِ في أَطْواءِ طبقاتِهَا التَّحْتِيَّةِ العميقة.
وقد تَتَبَدَّى الْقَصِيْدَة، في حالاتٍ معينة، كأساسٍ أو قاعٍ يقبع في أبعد طبقات الأرضِ غوراً، وبخاصة حين يكون اسْمُ النَّمُوذجُ، أو النَّمَطُ، الأصْلِيُّ الأَقْدَمُ هو اسم الْقِنَاع، وتكون تجربته مهيمنةً على تجربة الْقَصِيْدَة، فيما تحتوي كلُّ طبقةٍ من الطَّبقات التي تصل سطح النَّصّ بقاعه العميق، تجلياً من التَّجَلِّيَات النَّصِّيَّة لذلك النمط الأصلي حتى نصل إلى أعلى البرج، حيث نلتقي بأقرب أسمائه إلينا، أو باسمه المتجول في رحاب عصرنا، أو المتطلع إلى حضورٍ فاعلٍ فيه، وكأنما الْقَصِيْدَة، في هذه الحال، هي القَاعُ الذي أفضت حفرياتُ الشَّاعِر إلى إظهاره وإضاء ته، والذي فوقه تنبني كثرةٌ من التَّجَارب والنُّصُوص التي يُوحي سَطْحُ ذلِكَ الْقَاعِ بها، أو يُومُئُ إَلَيْها، فَيَستدعي الذَّهاب صَوبَها لِتَعَرُّفَها.
وسواءٌ تحرَّك النَّصّ هابطاً من قمة البرج إلى أغواره البعيدة، أو صاعداً من أعمق أغواره إلى قمته؛ فإنَّه مرشحٌ في كل حال، إلى المرور بالأسماء المتعددة للنَّمط الأصلي، وإلى احتضانها في نسيجه على نحو ظاهر، أو إلى الإيحاء بغيابها فيه. كما أنه مرشحٌ، في ضوء ذلك، إلى اقتحام مجالات مصدرية مختلفة، وإلى فتح دفَّات كثير من الكتب، وإلى استدعاء كَثْرةٍ مِنَ التَّجَاربِ والنُّصُوصْ.
وكي نوضح مغزى أيٍّ من الحركتين: الصَّاعدة والهابطة، وكي نكشفُ دلالةَ الصُّورة الاستعارية التي تجسد أيّاً منهما، فإننا نشيرُ إلى إمكان أن يختار الشَّاعِر التَّمَاهِي بشخصية تاريخية كالحلاَّج، مثلاً، وهي شخصية تبعدُ عنا، من حيث الحقبة تجربتها التاريخية التي احتضنت الواقعية، مسافةً زمنية تربو على الألف مِنَ الأعْوام، مما يعني أنَّ الْقَصِيْدَة التي تنطق صوته، كقصيدة "عذاب الحلاَّج" للبياتي، على سبيل المثال، قَدِ اخْتَارتِ الانطلاق من طبقة تاريخية بعيدةٍ عنَّا، غير أنها ليست مُوْغِلةً في بُعْدٍ سَحِيْقٍ، وهو مَا يفتح تجربة الحلاَّج - الْقِنَاع على تجارب أخرى سابقة لتجربته أو لاحقة بِهَا، ولَكِنَّها تتجاوب معها أو توازيها، بحيث يمكنُ لِمسارِ التَّجْرُبَة المروية في الْقَصِيْدَةِ أنْ يَتَحَرَّكَ في اتِّجَاهين: أَوَّلُهُما اتجاهٌ صاعدٌ يصل تجربة الحلاَّج - إنْ تصريحاً أو تلميحاً - بتجارب التَّمَرُّد والرَّفض، والصَّلب والقيامة، الكثيرة والمتعددة، التي وقعت بعد تجربته، أو في زمن إبداع الْقَصِيْدَة ونشرها لأول مرة، أو في زمن قراءتها؛ وثَانِيْهُما اتجاهٌ هابطٌ يصل الحلاَّج بنموذجه الأَصْلِي المُوغل في القدم عبر المرور بتجلياته المُتَعَاقِبَةِ، زمنياً، وفق تسلسلٍ يهبط من الأقرب إلى الأبعد، بانياً، في سياق ذلك، كوناً أدبياً متكاملاً موسوماً بعنوان: الموت والانبعاث، وعامراً بحركة أبطال تجربةٍ إنْسَانِيَّةٍ - كونية لا تَتَنَاهَى.
وقد يختار الشَّاعِر شخصية معاصرةً له، أو قريبة الْعَهْدِ بزمنه. فيتفاعل مع شاعر، أو مفكر، أو قائد سياسي، أو مع شخصية من الشَّخصيات التي واجهت المصير الذي ناضلت طيلة تجربتها من أجل أن تُجنب الإنسان الوقوع فيه: السَّجن والتَّعذيب، أو الموت غدراً وغيلةً على يد سلطة شمولية طاغية، أو قوة إظلامية فاشية، أو ربقة استعمار خارجي.. إلخ. بحيث يمكن، والحالُ هَذه، أنْ تأخذ الْقَصِيْدَة اتجاهاً هابطاً يصلُ هذه الشَّخصية بنمطها الأصلي، ويحيلها، في ضوء هذه الصِّلة، إلى تجلٍ من تجلياتهِ اللامتناهية، والْقَابِلَة لِتَجَديدِ حُضُورهَا، وتَنْويْعهِ، بِمَا يَسْتجيبُ لحاجَاتِ النَّاسِ، وحساسيَّات العُصُورِ والأَزمِنة .
وقد يختار الشَّاعِر أن يتماهى بالنَّمَطِ الأصلي الأبْعَد، كأن يُسَمِّي قناعه باسم الإله الابن: "دموزي" أَو "تَمُّوز"، فتأخذ الْقَصِيْدَة في تجليها النَّصّي الواضح، أو في إثارتها الحيوية لمتوازياتٍ متعاقبة زمنياً، اتجاهاً صاعداً يصلُ دموزي بأشباهه، وبآخر إنسانٍ اختار أن يُجلِّي في تجربته الحياتية تجربةَ هذا الإله المُخَلِّص، الفَادي، ابن الإنسان.
وأيّاً كان اتجاه حركة الْقَصِيْدَة، والتَّجْرُبَة المروية فيها، أو التَّجارب التي تثيرها، فإنَّها إذ تتحقَّق كقصيدة قناع، وعلى النَّحو الَّذي أوضحناه، تستطيع أنْ تُعبِّرُ عن التَّجْرُبَة الإنْسَانِيّة في كُلِّيَّتِهَا وشُمُولِهَا، مُوفِّقَةً بين المتناهي واللَّامتناهي، ومُفْصِحَةً، في ضوء ذلك، عن رؤية عَمِيقةٍ وَمُمْتَدَّةٍ للإنسان والوجود.
ولِتَعَدُّدِيَّة أسماء النَّمُوذِج الأَعْلى، أو النَّمَطِ الأَصْلِي، الواحد، ولِتَشابه تجارب الشَّخصيات أو الكينونات التي تحمل هذه الأسماء، ولانْصِهَارِ خصائِصِهَا ومُكَوِّناتِ هُوِيَّاتِهَا في أَتُونِ تَجْرُبَةٍ وُجودِيَّةٍ مُتَّصِلَةٍ، وفي صُلْبِ جوهرٍ هُوِيَّاتِيٍّ واحَدٍ تَتَعدَّدُ تَجَلِّياتِه وتَتَنَامَى، أَنْ يُعْتَبَرَ، في مَا نَحْسَبُ، القناةَ الأَهَمَّ التي تَمُرُّ عبرها كثرة من الأَسْمَاء والتَّجارب والنُّصُوص لتتفاعل، معاً، في صَوغ قصيدة تنبني على اختيار اسمٍ واحدٍ للقناع مِنْ بَيْنِ الأسْمَاءَ الَّتى خَاضَتْ تِلك التَّجرُبَة فأكْسَبَهَا خًوضُهَا مَلامحَ رَاكِزةٍ رسَخَتْ في هُوِيَّتِهَا.
ومَا لِهذهِ الُخُلاصَةِ أَنْ تَتَاَسَّس عَلَى أمرٍ أبْلَغَ، بَلْ وأعَمَقَ تَاصُّلاً مِنْ وجُهي المَعْرِفَةِ الإنْسَانِيَّة وجَمالِيَّاتِ الإبداع، مِنْ حقيقةِ أنَّ أيّاً مِنْ هذه الأسماء سيكونُ مُرَشَّحاً لاستدعاء شبكة الرُّموز التي ينتمي إليها؛ كي يُحَرِّكَهَا على مِحْوَرِهِ، موسِّعاً مجال حركته وفَضَاءَ دلالته، بالدُّخُول في مجالاتها، وبِمُمَاهَاةِ ذَاتِهِ بِهَا، وبِبنَاءِ شَجرة انْتِسَابِه إِلَيْهَا، وبِخَوضِ تَجَارُبِهَا مَعْها، وبتجلية تَحَوُّلات هُوِيَّتِهِ، تِلْكَ الْهُوِيَّةِ الْكُلِّيَّة الْجَامِعَة، في صُوَرهَا، وأَسْمَائِهَا، وفي شَتَّى تَجَلِّيَاتِ حُضُورِهَا الْمفتُوحِ، بَتَنَوِّع تعدُّديٍّ لافِتٍ، عَلَى صَيْرُورةِ الثَّقافَاتِ الإنْسَانِيَّة، وتَغَايُرِ الأَمَاكنِ، وتَداخُلِ الأحِيَاز، وتَوالي العُصُور، وانْفِتَاحِ الأزْمَنة!
شبكة التناص وتكوين القناع
ولِتَداخل النُّصُوص المَصْدرية عَبْرَ انْسِرابَاتِهَا وتَرابُطَاتِهَا الظَّاهِرةِ والْخَفِيَّة، أَنْ يعتبر، في حدِّ ذاته، مدخلاً تلقائياً لاستدعاء النُّصُوص الكثيرة التي انبنى عليها النَّصّ الذي يعود إليه الشَّاعِر ليستدعي منه اسم أناهُ المُغاير، (اسم قناعه)، ومُكُوِّنَاتٍ مِن مُكَوِّناتٍ تجربته المروية فيه؛ فقد يذهبُ الشَّاعِر إلى أحد أناجيل العهد الجديد ليستدعي "المسيح" فِي ارْتباطٍ بِأيِّ جَانبٍ مِنْ جوانب تجربته يُريْدُ إضَاءَتَه عَبْرَ الْبِناءِ عَلَيه، فلا يكون ذلكَ انفتاحاً على العهد الجديد، أو على أحد أناجيله فَحَسْبُ، بل سَيَكُون، من جهة أولى، انفتاحاً على النُّصُوص الأسطورية والدينية التي تقبع في قاع الأناجيل، أو تغيب في نسيجها؛ لكونها قد تناصَّت معها وهي تحوِّلُ تجربة المسيح من الواقع إلى النَّصّ، ومن التَّاريخِ الْحيِّ إلى ذَاكِرَةِ اللُّغةِ وَشَرائِحِ قُوَاهَا الْحيَويَّة الْحَافِظَة.
ومن جهة ثانية، سِيَكونُ لفِعْلِ الاسْتِدْعاءِ النَّصّيِّ لِتَجْرُبَة "الْمسيحِ، أَنْ يَنْفَتحَ، ليْسَ عَلى النُّصُوص الأسْطورِيَّة والدِّينيَّة الَّتي تَقْبَعُ في قَاعِ الأنَاجِيلِ فَحسبُ، بَل كَذَلكِ على النُّصُوص الأخرى التي تختزنها ذاكرة الشَّاعِرِ الثقافية، أو حتَّى ذَاكِرةُ القارئ الْمُفْتَرَضِ، وهِي النُّصُوصُ التي تناصَّت، على امتداد مراحل تاريخية متعاقبة، مع العهد الجديدِ وغَيره مِنَ النُّصُوصِ الأُصُول، مُوسِّعَةً، عَبْرَ هَذَا التَّناصِّ الْمُتَواصِلِ والْمُتَعَدِّد التَّأويلاتِ والأوجُهِ، الكونَ الأَدبىَّ، واللَّاهُوتي، ورُبَّمَا الْمَعْرِفيِّ، والفلْسَفِيِّ الوجُوديِّ، لتجربة "المسيح"، كعملٍ إِبْدَاعيٍّ ينطوي، ضِمْنِيَّاً، على توسيع تجربة نمطه الأصلي الأبعد، الإله - الابن: "دموزي"، أو "تموز"، وتجارب موازياته الكثيرة في الثَّقَافات الإنْسَانِيّة المتعددة؛ بحيث نرى إلى الْقَصِيْدَة وهي تتحرَّك فوق طبقاتٍ متراكبةٍ تنطوي كل واحدة منها على تجلياتٍ نَصِّيَّةٍ مُتَشَابِهَةٍ، وغير مُتَطَابِقَةٍ، لشخصية جوهرية واحدةٍ تواصَلَتْ حُضُوراً في حياةِ الإنسان، وفي حَضَارَتِهِ وتَاريخِهِ، أو نَرَى إِلَيْهَا (أي للقَصِيدة) وهِيَ تُحَرِّكُ طبقاتٍ تتراكبُ فوق سطحها، مشيرةً إلى الواقع الذي تُحَوِّلهُ إلى نصٍّ تَنْسَربُ في نسيجه، وفي شبكة دلالاته، المـوازياتُ الواقعيـة لِلْقِنَاع، تِلْكَ الموجـودة فـي الواقعِ الْقَائمِ، أو التي يُتَطَلَّعُ إلى انبعاثِهَا فِيْه، أو الَّتي يُتَوَخَّى مِيلادُهَا في مُسْتَقْبلٍ يُهَيِّءُ النَّاسُ الْوَاقِعَ القَائِمَ لاسْتِقْبَالهِ.
ولَئِنْ كَانَ لِفِعْلِ الاسْتِدعاء النَّصِّي لِتَجاربِ نَمطٍ أصْليِّ أنْ يُفتَحَ أوسَعَ الآفاقِ أَمام تَنويْع المصادرِ عَبْرَ التَّداخُلِ النَّصِّي القائم بِناء شَجَرَةِ النَّسَبِ الَّتى يُعْتَبَرُ هَذَا النَّمَطُ الأصَليُّ جَذْرُها الأصًلِيُّ الأعَلى، سَواء أكانَ الشَّاعرُ قَدْ تَوخَّى الإنْطلاق مِنْ عِنْدهِ، مُحَمَّلاً بِه، صَوبَ آخِرِ تَجلِّياته النَّصّيَّة، أو منْ آخِرِ تَجَلٍّ نَصِّيٍّ لَه صَوبَه، أَو مِنْ أيِّ لَحظَةٍ جِيلِيَّةٍ مِنْ لَحظَاتِ أَجْيال شَجَرة النَّسبِ، ذِهَابَاً أو إيَابَاً في حَركَةٍ لا تَتَوقَّفُ، لِيكونَ القِناعُ المُتَحقِّقُ في القصيدة، عبر خَوضِه تَجربتِهَا الْمفضِيَة إلى تكوين هُوِيَّتِه، هُوَ التَّجلِّي الأخِير في سِلسَالِ سُلالَةِ هَذَا النَّمطِ الأصْلِيِّ المُوغِلَةِ في الْقدمِ، فَإِنَّ لتعدُّدِيَّة الإحالات الموضُوعية لِشَخْصِيَّة مُفْرَدةٍ لِذَاتِهَا في الواقع الاجتماعيِّ التَّاريخيِّ ، كأَنْ تكون الشَّخصية التي اختارها الشَّاعِرُ للانْخْرَاطِ مَعْهَا في تجربَةٍ تَماهٍ دِيالكْتيكيٍّ بِوصْفِهَا "أَناهُ الْمغَايرُ"، هي، في آنٍ معاً، شخصيةُ شاعرٍ، وفيلسوفٍ، وفارس، وقائد سياسي، وعالم فلكي، ومتصوف ... إلخ؛ أيْ شخصية مَوسُوعية ذَات "سِيرِ حَياةٍ" لا سِيرةَ حَياةٍ واحِدة، أنْ يُؤسِّسَ لانْبثاقِ تَعَدُّدِيَّةٍ ثَرِيَّةٍ في مصادرِ بِناءِ النَّصِّ و تكوين الْقِنَاع؛ وذلك لأن مثل هذه الشخصية المتعددة التَّجَاربِ، والمُتنَوِّعَة الاهتمامات، والمعارفِ، والنُّصُوص، والسِّير، سَتَكونُ قَدْ حقَّقَتْ لنفسها حضوراً نَصِّياً مُتنَوِّعَاً في سِيَاقات مصدرية متعددة الحُقُول والمَجَالاتِ، وفي مدارت وُجُودٍ حَيَويٍّ لا يَني يَتجَدَّدُ عَلى تَوالي الأزْمِنَةِ، وذلكَ عَلى الرَّغمِ مِنْ أنَّها، أي هَذِه الشَّخْصِيَّة، لَم تُحْرِزْ، أو لم تُعتَبرْ، نَمطاً أَصْلِيَّاَ وِفقَ المُحَدِّداتِ الَتي تُعَرِّفُ النَّمَطَ الأصْلِيَّ كَمُصْطَلحٍ بَاتَ قَارَّاً، ومُتَداولاً بِكثافَةٍ، في حُقُولٍ مَعرفِيَّة عديدة.
وفوق ذلك، فإنَّ لتوجُّه الشَّاعِر نحو خلق الْقَصِيْدَة - الأسطورة، كتجربة تتحرك فوق الزَّمان والمكان، ونحو تكوين الْقِنَاع كَوِحْدةِ مُتَنَاقِضَاتٍ مُتَفَاعِلَةٍ تَمورُ دَاخِلَ وجْدَانِهِ الذَّاتيِّ كإلهٍ أسطوري، أنْ يَكونَ ذَا أثَرٍ بَالغٍ في فتح النَّصِّ الشَّعْرِيِّ على تعددية لافتة في مصادر بنائِهِ، وتكوين الْقِنَاع الَّذِي ينطقهُ، ويتحرك في مجالاته وأحْيَازه خائضاً التَّجْرُبَة الْمَائِرهِ فِيه، ومُحَوِّلاً مَسَارَاتِهِا، ومُتَحَولاً بِتَحَوُّلاتها، ومُكُتَسِبَاً في كل محطة من محطاتها، خَصَائِصَ ومُكَوِّنَاتٍ هُوِيَّاتِيَّةٍ جديدة تنهض على أنقاض خَصَائصَ وَمُكَوِّنَاتٍ قديمة وتتجاوزها؛ فَفِي محاولاتٍ إبْدَاعِيَّةٍ كهَذِه، سيَكونُ للشَّاعِرِ أنْ يستدعي شخصيات ورموزاً وتجارب من مصادر متعددة ومتباينة، ويُدْخلها جميعاً في صلب نسيج جديد، وفي إطار شبكة رمزية تدخل مكوناتها في إطار بنية علاقات جديـدة تؤسِّسها، وذلك على النَّحو الذي يتبدَّى معه الشَّاعِر وهو يعمل خارج مصادره التي ينطلق منها، وتَتَبَدَّى معه الْقَصِيْدَة، على عمق قاعها واتساعه، وكأَنَّمَا هي، من كثرة ما يَصَبُ فِي نَهْرهَا المُتَدَفِّقِ من مَنَابع، قَصِيْدَةٌ بلا مَنَابع، أو كأَنَّمَا هي القَاعُ، وهي المَنَابِعُ الْمائِرةُ فِيْ أغْوارهِ، وهي سَطْحُ النَّهرِ ومَجْراه، وهِيَ تشَعُّبَاتُ مَساراتِهِ ودلْتَاهُ، وهَيَ مُنْطَلَقُ سَيْرهِ، وانْهِمَاراتُهُ، ومَصَبُّهُ الأخَيرُ!
تلك، إذن، هي أهم المداخل والقنوات التي تفتحُ الآفاق واسعةً أمَامَ تعدُّديةٍ مُتَنَوِّعَةٍ في مصادر بناء القصائد، وتكوين الأقنعة التي تخوض تجاربها وتنطقها. غير أنَّهُ لَا يُمكِنُ لِهَذه التَّعَدُّديةِ الْمُتَنَوِّعَة أنْ تَكُونَ تِلْقَائِيَّةً، أوْ فَيْضَاً يتحقق بمجردِ انْفتاحِ الشَّاعِر على مَصْدرٍ نَصِّيٍّ يِسْتلْهِمُه، أو عَلى نَمَطٍ أصليِّ يَرى فِيه "أناهُ الْمغَايرِ" فيَتفاعَلُ مَعْهُ، أو عَلَى شَخْصِيَّةٍ إنْسَانيَّة ذَاتِ شَانٍ عَظيم يَلْمَسُ في مُكَوِّنات هُويَّتِها مَا يَأخُذهُ إلَيْها لِيلْتَمَسَ امْتِلاكَ مُكَوِّناتِ هُويَته المَنْشُودة. وكّذَلِكَ ليسَ مُمكنَاً لِهَذِه التَّعَدَّدِيَّة المُتَنَوِّعَة أنْ تُفْصِحَ عَنْ حُضُورها في قَاع النَّصِّ الشِّعريِّ، أو حَتَّى في نَسِيْجِه وعلى سَطْحِهِ في تَجَلِّياتٍ نَصِّيَّة شَعْرِيَّة عَديدةٍ، بِمُجَرَّدِ اتِّصَال القارئ بالنَّصِّ الشَّعريِّ القَائمِ عَلَى مبدأِ التَّقَتُّعِ التَكوينيِّ المُحْكَمْ.
ثقافة الشاعر وثقافة القاريء
ومنَ المنطقيِّ، في هَذَا السِّيَاقِ، أنْ نَخْلُصَ إلى الاسْتِهداءِ بحقيقةَ أنَّه لَيسَ في وسْعِ شَاعِرٍ حَقيْقِيٍّ أَنْ يْطَوِّرِ مِثْلَ هذه التَّعَدُّدِيَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ: حُضُوراً في نَسِيْجِ النَّصِّ، أو غياباً في قَاعِهِ الْعَميق، إنْ لَم يَكُنْ مُتَوَافِراً عَلَيْهَا، وذلكَ بِمعْنى أن تكونَ في مَوجُودةً حَوزَتِه: وجوداً بالقُوَّةِ، أو وُجُوداً بالفعل؛ أي حَاِضرةً في ذِهْنِهِ، مَوَّارةً في مُخَيِّلَتِهِ، أو غائِبَةً في ذَاكِرتِهِ الثَّقَافِيَّة الْقابِلَةِ للتَّنشْيِطِ ، أَو كامِنَةً في أَعْمَاقِ وِجْدَانِهِ تَنْتَظرُ ما يُحفِّزُ نُهُوضَها مِنْ غَفْوَتِهَا، أَوْ أنَّهُ يَتوافَرُ على معرِفَةٍ كافِيَةٍ تُمكَّنهُ مِنَ انْتِهَاجِ السُّبُل المُفضيَةِ به إلى إدراكِ مَنَابِعِهَا، وتَتَابَّعِ مَسَاراتِها، وقِراءَةِ ما تَقُولُهُ شَتَّى تَجَلِّياتِهَا، لامْتِلاكَهَا على نَحْوٍ معرِفيٍّ مُثَقَّفٍ، وجَمَاليٍّ حَاذِق.
وكي يَتَمَكَّن القَارئُ الْيَقِظُ من إدراك النَّصِّ، وفهمه، والدُّخُول في مَداراتِ عوالمه الظاهرة والخفية، ينبغي لَهُ أنْ يتوافرَ، أو أنْ يَكونَ مُهَيِّئَاً نَفْسَه لِلتَّوافُرِ، على ثَقَافةٍ واسعةٍ تُمَكِّنُهُ، وهُوَ يُقاربُ نَصَّاً إبْداعِيَّاً مُفْرَداً، ولا سِيَّمَا قَصِيْدةَ قَناعٍ تَكوينيٍّ مُحْكَمَة الْبِنَاءِ والإنْشَاءِ والتَّكوينِ، مِنْ إدْراكِ مُكوِّنات القَاعِ الْعَميق الَّذي تَنْهَصُ هَذِه الْقَصِيْدةُ عَلى أَعْمِدَةِ أسَاسَاته، وذَلِك عَلى نَحوٍ سيُمَكِّنهُ، تَالِيَاً، مِنَ الانْخِراطِ الإبْدَاعيِّ المُمْتِعِ في بناء كونٍ أدبيٍّ شَاسِعِ الأرجاءِ، مُتَرامَي الأطرافِ، غَزيرِ الدَّلالاتِ والْمعَاني والرُّؤَى وتَجَلِّيَات الْجَمَالِ، ولا يَتأسَّسُ علَى شَيءٍ سِوَى الإيغْالِ الْمتشَعِبِ، مِنْ قِبَلِ الْقارئِ اليَقِظَ الْخَلَّاقِ، في رِحَاب ذَلِك القاعِ، ومسَارِبِهِ الْخَفِيَّة، لِيَكونُ هُوَ مُبْدِعُهُ الفِعْلِيُّ ومَالِكُهُ، وَمُحَقِّقُ وُجُوْدَهُ الْحيَويَّ في وُجْدانِهْ!
ولعلَّ في حاجة الشَّاعِر إلى الثقافة الواسعة ليبدع النَّصّ الحداثي، وفي حاجة القارئ إلى مثل هذه الثقافة كي يفُكَّ مغاليق ذلك النَّصّ، ويفهمه، ويدرك عوالمه، ما يُفصحُ عن واحدةٍ من أبرز الغايات التي تتوخَّى الْقَصِيْدَة الحداثية، وفي إطارها قصيدة الْقِنَاع، أن تصل إليها، وأن تحقق حضورها العميق، في خصائص هُوِيَّاتِنَا، وفي سلوكنا اليوميِّ، وفي مجالات حياتنا بأسرها. ولَسْتُ أَعْرفُ من اسمٍ، أو مُصْطَلَحٍ جَمَالِيٍّ، لِهَذِه الغايَةِ النَّبِيْلَةِ غيرَ "الإبْدَاعِ": أيْ أنْ يبدع الشَّاعِر النَّصّ الذي يتجاوز الكثرة الهائلةَ من النُّصُوص التي يَنْبَنِي عليها، لِيَكونَ مُتَّسِمَاً بِتَمَيُّزٍ وفَرادَةٍ يُسَوِّغَانِ وُجوده، وأن يقرأ القارئُ النَّصّ قراء ةً إبداعيةً في ضوء ثقافة واسعة، وعميقة، تمكنه من إدراك عالم النَّصّ في سعته وغناه، ومن إعادة بناء الكون الأدبي الذي ينتمي إليه؛ بحيث يبدعُ في اللحظة التي يقرأ فيها النَّصّ نصوصاً، ويحقق لنفسه قراءةً إبداعيَّةً خلَّاقةً تنأى به عن الثَّبات عند أنماط القراءة التَّقليديَّة، التي تُحِيْلُهُ إلى مجرد مستهلكٍ سالب للدَّلالة الظَّاهرة على سطح النَّصّ المقروء.
ولعَلَّ في إشارتنا إلى الإبداع، كمحورٍ تتحرك عليه حركةُ الحداثة الشِّعْرية، بل وأيُّ حداثةٍ بإطلاق، كما في عَديدٍ من الإشارات المضمنة في الفقرات السابقة بشِأنِ العلاقة بين الْقَصِيْدَة ومَصَادِرهَا النَّصِّيَّة، ما يغنينا عن تسليط مزيد من الأضواء على المنظور الذي نرى من خلاله هذه العلاقة، والذي ينهضُ عليه تحليلنا لمصادر تسمية الأقنعة وتكوينها في القصائد موضع التَّحْلِيْل والدَّرس. غير أنه يبدو مفيداً أن نلفت الانتباه إلى أنَّ هذا المنظور القائم على رؤية لا تُضَحِّي بالإبداع كأصلٍ لإنتاج القصائد، سوف يُمكّننا من الابتعاد عن المناهج والتَّصورات التي اعتادت "الرَّبْطَ بين نتيجة فنية معينة وبين أصلها"(14)، والتي لا ترى في النُّصُوص الإبداعية عَلاقاتٍ قَائِمةً بالفِعْلِ، أو مُمْكِنَةِ الْوجُودِ، سِوى تلك العلاقاتِ الَّتي تَصِلُهَا بِمَصَادِرِهَا النَّصِّيَّة الظَّاهِرة، وذلكَ على نَحو أَفْضَى إلى نفي الاستقلاليَّة والتَّمايز عن النُّصُوص الإبْداعِيَّة الجديدة، وإدامَةِ النَّظَرَ إلى هَذِه النُّصُوص بِوصْفِهَا مَحضَ توابعَ لأًصولٍ نَصِّيَّةٍ قديمةٍ، أو باعتبارها نِتَاجَ عمَلِيَّاتِ تَولِيْفٍ، وبَثٍّ، وإعادة نشرٍ، تقومُ على انتقاءِ عناصرَ ومقتطفاتٍ وَمُكَوِّنَاتٍ تَعُودُ، في صُلْبِهَا، إلى أُصُولٍ نَصِّيَّةٍ قديمةٍ أكانَت شِفاهِيَّة مَرْوِيَّة أمْ مُدوَّنَةً مَكتُوبَة.
هَوامش وإشارات:
الفَصْلُ الأَوَّلُ:
(1) أُنْظُر في ذلك، عبد الرَّحمن بسيسو: قصيدة القنَاع في الشِّعر العربي المُعَاصِر (تَحليل الظَّاهِرة)، المُؤسَّسَةالعربيَّة للدِّراسات والنَّشر، بيروت، الطَّبعَة الأولى، 1999، الفصل الثَّاني: دوافِع التَّقَنُّع، ص 165 وما بَعْدَها، ومواضِع أُخْرى مِنَ فُصُول الكتاب.
(2) القول لـ “موخاروفسكي Mokharovisky” أورده: صلاح فضل: نظرية البنائِيَّة فِي النَّقْد الأدبي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ط، 1980، ص 62.
(3) رولان بارط: درس السِّميولوجيا، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، دار تُوبقال للنَّشر، الدَّار البيضاء، الطَّبعة الثَّالثة، 1993، ص 64.
(4) نورثرب فراي: الماهية والخرافة، دراسات في الميثولوجيا الشِّعْرية، ترجمة: هيفاء هاشم، مراجعة: عبد الكريم ناصيف، دراسات نقدية عالمية (13)، منشورات وزارة الثَّقافَة، دمشق، د. ط، 1992، ص 360.
(5) القول لجوليا كريستيفا، أورده: عبد الله الغذَّامي: الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية، قراءة نقدية لنموذج إنساني معاصر، كتاب النَّادي الثَّقَافي الأدبي (27) جَدَّة، الطَّبعة الأُولى، 11985، ص 13.
(6) القول لهودبين، أورده: عمر أوكان: لذة النَّصّ أو مغامرة الكتابة لدى بارت، أفريقيا الشرق، الدَّار البيضاء، الطبعة الأولى، 1991؛ ص 30.
(7) القول لليتش، أورده: عبد الله الغذامي: المرجع السابق، ص 13.
(8) جوليا كريستيفا: علم النَّصّ، ترجمة: فريد الزَّاهي، مراجعة: عبد الجليل ناظم، دار تُوبقال للنَّشر، الدَّار البيضاء، الطَّبعة الأُولى، 1991، ص 79.
(9) القول لجوليا كريستيفا، أورده: عبد الله الغذَّامي، المرجع السَّابق، ص 13.
(10) المرجع السَّابق: ص 79.
(11) المرجع نَفْسُه: الصَّفَحَةُ نَفْسُهَا.
(12) كريستوفر كودويل: الوهم والواقع، دراسة في منابع الشِّعْر، ترجمة: توفيق الأسدي، دار الفارابي، بيروت، الطَّبعة الأُولى، 1982، ص 221.
(13) النِّفَّرِي، محمد بن عبد الجبار: المواقف والمخاطبات، تحقيق: آرثر آربري، تقديم وتعليق: عبد القادر محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، د. ط، 1985، ص 115.
(14) جي ولسن نايت: في الفن الشكسبيري، مقالٌ منشور ضمن ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لمسرحية شكسبير: العاصفة، المؤسسة العربية للدِّراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثَّانية، 1981، ص 37.