أعمى يقود أعمى على ضوء “الرواية العمياء”
حين يجد الكاتب نفسه واقفاً على أطلال الكتب في مدينة الثقافة والعلم والنور المعروفة تاريخيّاً، ويرى كتب الفنّ تحت أقدام الجهل، لا يجد سوى القلم وهو السلاح الوحيد في محاولة هي أقرب إلى صرخة تخرج من شغاف القلب، علّ النزف يدخل إلى روح من تصافح أعينهم هذه الكلمات، ويعيد بناء هذا الصرح المهدّم من الجمال لرأب الصدع الذي تركه الجهل في النفوس والوطن.
هذا هو الكاتب شاكر نوري في “الرواية العمياء” الصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت في 2020.
الأعمى هو أعمى البصيرة، والأعمى هو الذي أغلق روحه عن عناق النور، وألوان الحياة، واستساغ سكن القبور، ورائحة العفن من المارين في أزقّة الظلم، ينهشون ضوء الحياة الصارخ.
إنّ الجدار الفاصل بين المبصرين والمكفوفين أعتى من سور الصين، كيف لنا أن نخترقه؟ هناك حلّ واحد، هو أن تكون واحداً منهم، وأسهل طريقة لضمان درء الخطر هو أن تفقأ العين، وتنضمّ إلى الجماعة، وتتخلّى عن المنطقة الرمادية المكروهة من الجميع.
“تقرير عن عالم العميان في معهد النور” أتجتمع الظلمة مع النور أم إنّها محض تسميات تطلق لإخفاء حقيقة الأمور التي لا يقبلها العقل؟
إلامَ يرمز الكاتب في هذه الرواية؟ هل إلى فقدان البصر فقط أو إنّه يرمز إلى ما هو أبعد وأخطر من ذلك؟ عمى العقل والأخلاق وموت الضمير والفكر، هل هؤلاء العميان هم داخل المصحّات فقط أو إنّ مجتمعنا مليء بأمثالهم؟
ألسنا في عالم من الظلام نسبح في بحيرة من الظلم والجهل، القويّ يأكل الضعيف، والرئيس ينهش لحم المرؤوس؟ هل يستطيع الإنسان أن يتخلّى عن النور؟ ولصالح من نعيش في الظلام؟
إنّ الظلام هو ستر للأفعال السيئة، فالحرامي يتخفّى تحت ستر الظلام كي يسرق، والقاتل يلبس قناع الظلام، ومن يظلم يتخفّى ولا يريد أن ينكشف في النور، ومن يرتكب الأفعال الأثيمة يتخذ من الظلام حاجباً كي لا يُرى ، فمن هو من النور يمشي في النور، ومن هو مظلم يتخفّى في الظلمة، ويخشى النور، ومن يمشِي في الظلام يضيع، لا يعلم إلى أين يمضي.
أول ما يطالعنا في الرواية “فاتح بحر القراءة في الظلام” مع قائمة من أسماء العميان الأدباء والشعراء: هوميروس وبشار بن برد وأبوالعلاء المعرّي وطه حسين ولويس برايل، مخترع كتابة المكفوفين.
الكاتب يتحدّث عمّن أعمى الجهل قلوبهم وعيونهم، فهم كالأنعام بل أضلّ سبيلاً.
المرأة التي تسرق براءتها منها، وتستغلّ ممّن هو أقوى، هنا تصوير من تواروا عن النور، واقتحموا الظلمة، وحولوا الأهداف السامية في معهد النور لإشباع غرائزهم الشريرة. أليس هذا عمى من نوع آخر؟
مهمّة من تسعة أشهر، والمرأة تعرف أنّ بعد ذلك المخاض الصعب والولادة.
مدّة المهمّة هي مدّة لولادة جديدة، ولادة من نور.
الجاسوسية هي العالم الذي يعتمد على التدخل والوقوف على أصغر التفاصيل في حياة الآخر، وهذه مهمّة تتطلّب الصبر والحنكة والحكمة.
الفساد المتفشّي نوع آخر من العمى المستشري في المجتمع حين يصبح المواطن مستلب الإرادة، دمية تتحرّك في بحر الآخر القابع على الصدور.
أيهما قبل الآخر، النور أم الظلمة؟ في هذا السؤال يقبع السؤال الأكبر، أيّهما كان في الأرض أولاً الشرّ أم الخير؟ علّها أسئلة ساذجة، لكنّها تحوي الكثير من الفلسفة التي يدوخ في دوّامتها الكثير من البشر.
ما الفرق بين الضوء والنور؟ الضوء أقوى من النور وأسطع، لأنّه نتاج ذاتي، أما النور فما هو إلا انعكاس أو اكتساب من جسم آخر، فمن يعش في النور فهذا ليس منه بل هو من الآخر الذي يشعل النور الذي فينا.
إنّ ما يواجه الكاتب هنا هو فكّ شفرة النور والظلمة، فكّ شفرة الخير والشر، فمنذ التكوين يتوكّأ الإنسان على عصا المخادعة، ليدخل عالماً ليس عالمه، ولكن ماذا يحدث عندما يستسلم الإنسان، ويجمع كلّ ما أوتي من إرادة ويوظّفها في اتجاه معين؟ هل يستطيع دخول هذا العالم الهلامي، ويصبح جزءاً منه؟
نعم، إنّ للإنسان إرادة تفتّت الصخور، ولا يقف أمامها سدّ، ولكن عليه أن يتقن الدور، ويخترق الأنفاق، ويدرك ما وراء الكواليس، ولا يسمح للهواء الفاسد أن يثبّط من عزيمته. يمتطي الريح، أو يحمل رفشه، ويحفر في الأرض، ليصل إلى غور أسرار هذا العالم المظلم، وما يدور فيه من غموض وانتهاكات وخروقات، وقد يحترق، ولكن لا يبالي، فالوصول إلى الضفة الأخرى هو الهاجس الوحيد.
عندما يبتعد الإنسان عن النظر في الأمور بعين البصر السطحية تنفتح بصيرته، ويرى الأمور أعمق وأصدق ممّا تصوّرها، فالبصيرة ترى الروح، أمّا البصر فيرى الجسد الفاني، وشتّان ما بين روح الإنسان وجسده الفاني. هنا نرى عالم الخلود الذي أراد لنا الكاتب أن ندخله بعين البصيرة.
من يستطيع أن يمنع النور عن الإنسان؟ أليس واهب النور؟ أم هناك تدخّلات قدرية أم إنّ الله والقدر اجتمعا معاً على تقرير مصير هبة الأخذ والعطاء ؟
إنّها أسئلة وجودية لم يرد الكاتب أن يدخلها ، لكنّه بطريقة طرحه جعلنا نفكّر فيها. هل الظلمة “الشرّ” من صنع الله أو من صنع الإنسان؟ وأين يغيب النور بحضور الظلمة، وأين تغيب الظلمة بحضور النور؟
شعاع صغير كافٍ أن ينير غرفة مظلمة. أين نحن من هذا النور؟
ألا يمكن أن يكون هذا السّراج هو عين الإنسان التي متى انطفأت تحلّ محلّها البصيرة؟
البصيرة هي البديل في حلكة هذا العالم المظلم.
إنّ عالم العميان لا يخلو من الشرّ، أولئك الذين انطفأت في حياتهم الأنوار، وأرادوا الانتقام من المبصرين ، فاتّخذوا المكر خياراً، وغرقوا في السواد أكثر.
ثمّة حنين إلى حقبة الحكم الملكي في الرواية حيث صورة الملك الذي علّقه العميان على أحد الجدران.
لقد رزحت شعوب تلك المنطقة تحت ظلم الاستبداد، ولم يسلم منه حتى العميان الذين كانوا يتمنّون الخروج دون عودة بالرغم مما فيها من مخاطرة جسيمة، حتى أصبح الإنسان كحجارة الشطرنج يتصرّف بمصيره الأقوى كما يريد. ألا يكفي العالم المظلم المفروض على هذا المعهد فوضعوا الحواجز بين النساء والرجال وكما يقال: الممنوع مرغوب، لكن عند الرشوة تستباح المحرّمات، وتصبح من المسلّمات والمسموحات، فالشهوات لا تعرف قوانين، وعقول الرجال المسلوبة تسيّرها الغريزة فقط.
الشخوص في المعهد:
– الزيبق المتسلّط في عالم العميان داخل المعهد.
– سلطانة السلطة الموازية للزيبق، ولكن على جناح النساء.
– فريدون المنبوذ المختلف، رمز الجمال عازف الموسيقى.
– بورهان مدير المكتبة الذي يطرب لموسيقى فريدون.
– سرغين الرسام.
هؤلاء الثلاثة يمثّلون الفنّ والجمال بكلّ ألوانه، فالفنّ هو النور الذي يساعد على التقدّم.
ألم يقل سقراط “تكلّم حتى أراك” فقوة المعرفة هي التي تثبت وجود الإنسان.
رحلة إلى الداخل
من هو الطفل فريدون؟ أليس هو شريحة من هذا المجتمع المرفوض لأنّه المختلف؟ رُمي على باب الكنيسة، حتى من أقرب الناس إليه الأمّ، وما الأمّ إلّا الوطن، وقد أصيب بحمّى الاختلاف، حرارة فقأت النور في عينيه، وأصبح تائهاً يبحث عن وطن في الموسيقى والجمال، وأصبحت موسيقاه النديم لأرواح خطفت منها الآمال، وصرخة الحياة التي بدّدت ظلمة الحياة. توحّد حولها كلّ من في المعبد، غير آبهين للخلفيات ولا للأنبياء الذين يؤتي بهم محمولين على الأكتاف، فيدفع الإنسان حياته دفاعاً عن عجزها.
الموسيقى هي ترنيمة الأرواح واللغة التي أجمع عليها البشر، وفي معهد العميان كانت العين المفتوحة على النجوم.
القراءة لا تقلّ أهمّية في عالم العميان عن الموسيقى، فالكتب هي السلّم الموسيقي الذي يصعد عليه بخور الأنفاس، والأرواح تستريح في حضنها، ففي الكتب الشفاء والمعرفة.
أليست الثقافة هي اليد التي تقودنا إلى الآخر، والكلمة هي جواز مرورنا الذي يتيح لنا العبور؟
الكلمة وبالمفهوم الأدقّ حرية التعبير تقود إلى الحرية.
إنّ مهمّة “مروان” لا بدّ من إنجازها، فقد اخترق عالم العميان هو المبصر ليجد نفسه في عالم آخر مواز لعالم المبصرين. عالم فيه الخير والشر، عالم يرى بالروح، ويسمع باللمس، عالم مختلف يوحّد ولا يفرّق، يمارس الحبّ على طريقته.
لقد كان هذا العالم مكتملاً في ذاته، وحده الظلام والموسيقى، رفض كلّ ما فرض عليه، وثارت روحه المحلّقة ووقفت في وجه طغيان إدارة المعهد. ضرب بالمسلّمات عرض الحائط، وأقام الحج والعبادات حول الأمل الممزوج بالإيمان المطلق نحو البعيد اللانهائي.
على الرغم من ثورة العميان على واقعهم إلّا أنّ قمع الحبّ هو أقسى عقوبة يمكن أن يوقعها الإنسان على الإنسان. لقد كان اللقاء ما بين العمياوات والعميان في قاعات الطعام نوعاً من أنواع الإهانة بداية في فصلهم عن بعضهم، وكأنّهم بذلك يتحكّمون في مشاعرهم، ففي الاختلاط برأي الإدارة رذيلة، وفي الانفصال عفّة، وهم لا يدركون أنّ ما صنعه الانفصال هو النتيجة العكسية، فقد تأجّجت الرغبات، وعبرت الجدار الفاصل. لقد ثار الرجال، وبكت النساء على شكل ابتهال لآلهة الجمال كي ترحم تلك العواطف المكتومة.
لقد قطع الكاتب قصة الظلام والظلم بقصة حبّ رائعة تكاد تكون أسطورية، حبّ فتاة عمياء جعلت من هذا الظلام ربيعاً، وهذا الربيع بكلّ جماله لم يمنع تسلّل الكآبة إلى روح حياة التي انتقى لها الاسم الأروع الذي يعبّر عن أهمية المرأة في الحياة بل هي الحياة نفسها. لقد قطعت من العالم في عمر الطفولة، انتزع الضوء من حياتها قبل عينيها، واجتثّت من أرضها مخنوقة في ظلمة لا تنتهى. في لحظة رأت مباهج الحياة، وفي لحظة انتزعت منها. ما أصعبها من حياة. يضعنا أمام التحدّي الكبير “فاقد البصر ليس بفاقد البصيرة”.
لم يغفل الكاتب عن وباء كوفيد – 19 المستجدّ بل وظّفه في الرواية كاشفاً من خلاله هشاشة الإنسان وردّة فعله في مواجهته وخاصّة هرطقات رجال الدين في علاج الوباء.
مع الفايروس أصبح البشر أكثر عمى، يتخبّطون في متاهات الحيرة والخوف من هذا العدوّ المجهول.
من يعرف الحبّ لا يدخل الظلام قلبه. “العاشق بصير حتى ولو كان أعمى”.
للحبّ قوة طاردة للظلمة، القلب المحبّ هو شعلة مقدّسة يجعل الوجه طلقاً.
الحبّ هو الإله الذي يركع أمامه الكلّ بخشوع، هو القوة النورانية الخارجة من الداخل التي تجعل الإنسان أقوى، ومستعدّاً للمخاطرة بكلّ شيء من أجل الحبيب. هذا اللقاء مع حياة أستطيع أن أسمّيه فصل الحبّ. الحبّ مفتاح الألغاز، فيه يجد الإنسان ضالّته المنشودة، يجد نفسه.
لا نغفل عن النزعة الصوفية في الرواية العمياء، تلك النزعة التي تقدّس الروح والعلاقة بالله التي ترى كلّ شيء من منظور روحي، وعلاقة الإنسان بالإنسان عبر هذه القناة الروحية، فنور الله يبدّد الظلمة.
الفكرة التي دارت من أول الرواية إلى آخرها فكرة كشف العميان أمر المبصر بينهم، ويتّهم بالجاسوسية، وتتفاقم الأمور. في هذه الحالة خصوصيتهم تكون قد اخترقت من مبصر، وستحدث نقمة.
هل هم يكرهون الأصحاء أوهم ناقمون على عالمهم الأسود، ويأبون أن يشاركهم فيه أحد؟ أو إنّ الثقة هي التي على المحكّ، إنّ الثقة مثل الزجاج إن كسرت لا يعاد سبكها. الخوف الأكبر كان موقف حياة، هل ستعامله كالآخرين؟ هل ستنقم عليه، وتنتقم منه أو الحبّ سوف يغيّر موقفها ؟ مروان لم ينس هذه النقطة، وعمل منذ البداية على التلميح أنّ له طرقه التي يرى بها، وسيأتي يوم ويفصح عنها.
“الله هو النور الأعلى”.
الزندقة اتّهام قد يؤدّي إلى قتل الزنديق، قتل المختلف في عالم يعجّ بالاختلاف والظلم .
إنّ المتعصّب هو من يغار من المعرفة، والعلم هو النور الذي ينير ويوسع آفاق الإنسان، والمثقّف يساعد على دحض الظلم، فلرائحة الكتب عطر يؤجّج الروح بنشوة المعرفة، وهنا يطلق المتعصّب سهمه الناري ليحرق الكتب والمكتبة وكلّ طالب وناشر علم.
السيد بورهان فهرس الظلام الذي سبر روح المرأة، وعبرت إليه في ظلامه، ولكن لم يعوّضه هذا الكائن عن الأدب، فكان هناك كتاب يأتي إليه ناسكاً. ربّان يقود سفينه في بحر من الظلام والقلق، ليهدي اليقين والأمان لمن هم على الضفّة الأخرى. هذا الكتاب الذي يختلف عن كلّ الكتب التي اخترعها العميان والأصحّاء، كتاب تقرأه، تشمّ رائحته، تحسه بالحدس، وتسافر في الخيال عبر الكهوف المظلمة والنجوم الحالكة، تتبادل معها الضوء المشعّ من داخلك، تعطيها قبل أن تأخذ منها. “ومع مرور الزمن انفتحت لي رموز العالم عن طريق الكتب والمسرح والموسيقى والرسم والرقص”.
المعهد هذه المدينة التي تسير من تحتها السراديب حيث تدفن الأجنة قبل الولادة، والأطفال الذين حبلت بهم أمهاتهم في السرّ، تحت المعهد المعدّ لتأهيل العميان يقوم النظام الذي يشرف على القتل والموت، ويقمع الحياة. الأقنعة تكثر هنا على الوجوه، ولو أنّها لا تُرى لأنّهم عميان، لكن هذه الأقنعة كانت على القلوب.
لقد اختلط الحابل بالنابل، وانعكست الحياة داخل المعهد وخارجه، المبصر يتخبّط في عمى اختاره، والأعمى متصالح مع ظلمته، يسير في هدى بصيص المعرفة. كم من حقائق طمرها المبصرون في دهاليز الظلام، ما أصعب أن يعيش إنسان مستنير في مجتمع أعمى البصيرة.
الجاهل عندما يعرّيه نور المعرفة يصبح ثوراً هائجاً ينزل مقصلته على رقبة النور ليجتثه، وهكذا كان مصير المعرفة، نزلت مقصلة التعصّب، وأودت بآخر قبس نور كان يشعّ في ظلمة المعهد. “الموسيقى أنقذت حياتي” هكذا كان يردّد. “موسيقى فريدون صرخة ذئب في الظلام، ومناجاة للقمر، وبعث أسطورة بلادنا التي أهملها السياسيون”.
حياة، بورهان، فريدون، سرغين، الصبي القارئ، لم يكونوا في الرواية عبثاً، لقد جمع الكاتب جميع أفراد المجتمع البغدادي في هذا المعهد، وطرحهم أمام القارئ كي يتعلّم التعايش، ويعرف مصدر النور.
قبل أن يلتقي بهم مروان لم يكن يملك سوى النظريّات، لكن بعد أن عرفهم تعلّم بوضع اليد، رأى نور القلب ينبثق من العيون المنطفئة، نور أعماقهم، وما تكوين كلّ إنسان إلّا من نور وظلمة، وما التصالح مع النفوس إلّا قبولها ما هي عليه، وإلى أن يقبلها يبقى مغيّباً ومجهولاً في الغياهب حتى ولو كان بصيراً.
اغتيل النور في عالم العميان، القتيل أعمى، والشاهد أعمى، والقاتل أعمى، كيف لعالم ظالم أن يحقّق العدل؟
إنّ الرواية متخمة بالأسئلة الوجودية عن الله والنور، الحبّ والرجل والمرأة، الطير والبحر، الغابة والشجرة، الأرض البدايات والنهايات، المرئي واللامرئي، الخير والشر، الولادة والموت، القيامة. هل العميان بعيون مفتوحة يعودون إلى الأرض أو لا؟ نخرج من الرواية وفي أذهاننا علامات استفهام، ماذا لو سار المبصرون على خطى العميان؟ أليس أفضل من أن يقود أعمى بصيرة أعمى آخر، ويقعان معاً في الحفرة؟
“الرواية العمياء” رواية مليئة بالرموز المذهلة التي تفتح عيون القارئ البصير على عالمه الخاصّ، وعلى النفس الإنسانية، مناقبها ومثالبها التي لم يكن ليدركها إلّا من خلال تجربة شخص تخلّى عن بصره طوعاً، وخاض تجربة الظلام وعاشها، فهي تكشف بشكل رمزي المجتمع الذي نعيشه.
“يا سعادة المدير:
– الوظيفة أنقذت حياتي من الضياع والتشرّد والصعلكة. لعلّ من فوائدها إرسالي إلى معهد العميان في مهمّة، وفتح عيني على أشياء كان عليّ أن أعيش حياتين لأكشفها. لذا شكراً لمؤسّستي على هذه التجربة”.
إنّ الرواية لا تخلو من روح العميان الثائرة على الظلام والظلم، واجتهدوا كي يتخلّصوا من الطغيان، ودأب البعض منهم على تحدّي واقعه بالقراءة والموسيقى والفنّ .
” المبصرون يصوّرون معهد تأهيل العميان على أنّه مثل كهوف قاتمة خالية من النور، ودهاليز سحيقة، لا قرار لها، بين أجرام سماوية تدور في مبنى المعهد القديم، أزمنة جيولوجية غابرة تظهر، كائنات شرسة تلعب بها الغرائز البشرية الأولى. لكن الظلام لم يكن يعني أبداً ظلام النفوس.
مكان الرواية وهو المعهد، ذلك المبنى القديم المزيّنة جدرانه بالمرايا واللوحات، وما تلك المرايا في دار للعميان حيث لا يستطيع أحد منهم أن يرى انعكاسه بها، ولكن الإنسان الحكيم ذا البصيرة الحية هو مرآة نفسه، لا بدّ من الوقوف عندها ومحاسبتها والإصغاء إليها.
“نحن نسبح في عالم سديمي منفلت من قيود الزمان والمكان، زاخر بالمعاني وأضدادها، كلانا سيبحر في رحلة العتمة بلا حقائب، ولا أوراق ولا جوازات سفر بعد أن أصبح العمى قدرنا حتى لو كنا مبصرين”.
لقد فتح لنا الكاتب هذا العالم الأسود بلغته الشاعرية، شدّنا إليه لنراه بالرّوح، ونحلّق في آفاق الأمل والجمال. أناقة المعاني، دقّة الصور، موسيقى الإحساس المرهف، كأننا نكتشف غابة عذراء كانت مخفية عن العيون، وظهرت فجأة إلى سطح الأرض من عالم الظلمات.
الرواية تمسّ حياتنا، فتسقط الأوراق اليابسة التي تغطي المجتمع أمام ضوء البصيرة الداخلية.
أراد الكاتب أن يسلط الضوء على عتمة الإنسان الداخلية، وكيف هي الحياة في مجتمع هشّ حين تغيب عنه المبادئ الإنسانية.
إنّ الرواية تتأرجح بين جمال حياة العميان الصافية وبين الشرّ الذي يمثله الظلام. هم في النهاية بشر، فيهم طبيعتان: الخير والشر، ولا يختلف إنسان المعهد الأعمى عن الإنسان المبصر خارجه.
اختيار العنوان
“الرواية العمياء” عنوان يحكي الكثير، فلم يختره الكاتب اعتباطاً، ولم يكن تقليديّاً برغم بساطته، لكن له من الدلالات ما يتخطّى بصر القارئ، وهو يقرأ العنوان ليغوص في عالم البصيرة والتبصّر والتكهّن والخيال.
الرواية هي العمياء أم الراوي أم الكاتب هو الأعمى أم القارئ؟
إنّ الوطن الذي يتخبّط لا يعرف شماله من يمينه، وقائده أعمى، إنّه مدخل لرواية مليئة بعوالم غريبة نلج مع الكاتب بلغة سلسة تقترب من الشعر والفلسفة طارحاً أسئلة لا بدّ منها.
يجول في هذا الظلام حيث تصول الأرواح في بحيرة قمع سوداء حيث استطاع الكاتب أن يجسّد النفس الإنسانية بشقّيها الطيب والشرير.
رواية عميقة تضاف إلى التراث الروائي العربي، فالرواية هي ديوان العرب كما قيل.