أغوستين بوراس.. الشعر ينتصر دائمًا
يعتاد النقد التأويلي على إنشاء قوائم اصطلاحية مميِّزة لتحديد الأنماط أو الاتجاهات أو الأشكال أو الجماليات المتعلقة بالمظاهر الأدبية المختلفة. تميل الملخصات «التعريفية» هذه إلى تجميع أسماء مؤلفين حول المصطلح الأكثر عمومية وتحديدًا ألا وهو مصطلح «الجيل»، لمؤلفين يبدو أن لديهم سمات مشتركة، وهو ظرف غالبًا ما يكون صحيحًا وغير دقيق في الوقت نفسه. على أيّ حال، فإن كل هذه الحواشي الوفيرة تمنح القارئ والباحث إمكانية تحديد قائمة اسمية – في الزمن، على الأقل – توجه البحث والمقاربة إلى السياق الذي تتكشف فيه هذه الجماليات وهذه الأشكال.
في إسبانيا، اتّبعت هذه الممارسة عادةً القاعدة التي استند إليها أورتيجا إي جاسيت، والتي رسخت فترة زمنية تمتد إلى عشر سنوات كي يظهر جيل «جديد» ويتجمّع حول تقارب جمالي يحل محل الجيل السابق. حسنًا، إذا انتبهنا إلى هذا المبدأ، فإن أغوستين بورّاس ( أنتقيرة، مالقة 1957) سوف ينتمي إلى الجيل الذي أطلق عليه لويس أنتونيو دي بيينا “ما بعد بالغي الجِدّة” (Postnovísimos)، في إشارة إلى الشعراء الذين ولدوا بين عامي 1956 و1966، ذلك الجيل اللاحق على الفور على جيل “بالغي الجدة” (Novísimos) ومعاصر لـ”جيل اللغة” (Generación del Lenguaje) (لويس ألبرتو دي كوينكا، مجلة Poesía، رقم 5 – 6، 1979 – 1980)، وينتمي إليه مؤلفون ولدوا بين عامي 1945 و1955.
لا يتم تحقيق هذه المؤالفة دائمًا (في الواقع، يتم انتهاكها بشكل متكرر). مهما كان الأمر، فإن أسماء مثل ليوبولدو ماريّا بانيرو (1948 -2014) ولويس ألبرتو دي كوينكا (1950) وآنخل جيندا (1948) ومانويل باثكيث مونتالبان (1939- 2003) وخابيير لوستالي (1942) وفيليكس دي آثوا (1944) وبيري جيمفيرر (1954)، من بين آخرين، تضعنا على الفور، على الرغم من اختلافاتهم المتناقضة، أمام سياق لشعر إسباني واضح
المعالم في القرن العشرين ستكون لها استمرارية مثمرة في جيل «ما بعد بالغي الجدة» القادم. ليس هذا هو المكان المناسب لتوضيح أوجه التشابهات والاختلافات الجمالية لهذه الأسماء المذكورة، ولكن ربما يكون المكان المناسب لملاحظة أن مقترحات شعراء (Postnovísimos) تقدم بشكل عام خصائص وسمات أكثر تشابها من تلك الخاصة بأسلافهم المباشرين. لذلك، يشارك أغوستين بورّاس في التيار الذي يدعو إلى العودة إلى غلبة التزام الشاعر بالواقع، والذاكرة كمصدر رئيسي للإلهام وتضمين الذات المنهَكة كدليل على تجربتها الغنائية. من الناحية الأسلوبية، يعبر أغوستين بورّاس عن نفسه في لغة دارجة؛ تلجأ من جديد إلى توليف شكل الحكمة المأثور أو، على العكس من ذلك، إلى المسارات الطويلة لشعر النثر التي تخلّت بالفعل عن مفهوم النثر الإيقاعي وارتبطت بالشعر الحر مما أدى إلى تهجين شكلي يمتد إلى اليوم في الشعر الإسباني. مع هذه الأشكال تتعايش، مع ذلك (وكان الشعراء السابقون للتو قد فعلوا ذلك أيضا)، العَروض الشعرية الكلاسيكية الإسبانية، لاسيما الـ”Endecasílabo” (بيت شعري يتألف من أحد عشر مقطعا ذو أصل إيطالي)، والـ”Heptasílabo” (بيت شعري يتألف من سبعة مقاطع)، والـ “Lira” (مقطوعة شعرية من خمسة أبيات)، والـ”Silva” (وزن شعري يتألف من الـ” Endecasílabo ” أحد عشر مقطعا والـ “Heptasílabo” سبعة مقاطع وقافية بين بيتين أو أكثر)، والـ “Polimetría” نوع من السونيتات لا تتوفر كل أبياته على الوزن نفسه)، والاستخدام الغزير للشعر المرسل.
لكن أغوستين بورّاس سيذهب إلى أبعد من ذلك؛ فبالإضافة إلى الأشكال ذات المنظور الكلاسيكي، فإن الإيقاع ثماني المقطع الذي – ربما يستخدمه أكثر من أيّ شاعر آخر من جيله – يشكل جزءًا من مورفولوجيته الشعرية. (كذلك سيتعاطى مع قصيدة الرومانس البطولية في كتابه «الذبابة البيكيرية» (2009). ومما لا شك فيه أنه لا يتبع التقليد التركيبي التقليدي فحسب للغنائية الإسبانية، بل يتبع أيضًا الخط الذي رسمه جوستابو أدولفو بيكر (1836 – 1870) وأنتونيو ماتشادو (1875 – 1939) وخوان رامون خيمينيث (1881 – 1958) والذي تغلغل في الشعر الإسباني في القرن العشرين ووصل بشكل عملي صافيا حتى خايمي خيل دي بييدما (1929 – 1990). من حيث الشكل، فإن بورّاس هو أحد أفضل ممثلي التعبير الطبيعي، عن «الكتابة كما يتحدث المرء» التي أوصى بها كاتب عصر النهضة خوان دي بالديس (1509 – 1541)، في كتابه «حوار اللغة»، كنمط مثالي للغة الإسبانية، وثمة شاعر لا يمكن تصنيفه مثل ليون فيليبي (1884 – 1986) تبناها بديهيةً لشعره. لذلك، يعد أغوستين بورّاس جزءًا من أكثر التقاليد الشعرية الإسبانية ذائعة الصيت، كما أنه يضيف سمة غير شائعة بين شعراء جيله ألا وهي التوظيف البلاغي للسخرية باعتبارها تباعدًا عاطفيًا، فبدءا من فرانثيسكو دي كيبيدو (1580 – 1645) (كي لا أرجع إلى الإبيجراما اللاتينية الكلاسيكية)، نجدها قد اندرجت لدى العديد من الكتاب الكلاسيكيين الجدد مثل نيكولاس فرنانديث دي موراتين (1737 – 1780) أو فيليكس سامانيجو (1745 – 1801)، لكن لم يعد لها دور قيادي حتى تمت استعادتها بشكل عابر على يد واحد من هؤلاء الشعراء الآخرين الذين يصعب تكيفهم مثل رامون إيريجوين (1942) في كتابه “سماء وشتاءات، 1979”.
“ليت” (Ojalá) هذا الكتاب، الذي نُشر في عام 2006، عبارة عن كتاب شبابي يجمع العفوية الكاملة لغريزة لا تتجلى فقط في العاطفة الداخلية التي تغزو الشاعر، وهو في طريقه إلى الخروج من الواقع، وإنما هذه العفوية نفسها تنتقل إلى اللغة. يعالج الكتاب موضوعات متباينة، ويعرض بالفعل بعض السمات الأسلوبية المذكورة، مثل قصائد «انظري إذا ما سوف أصبح ماسوشيا» حيث التقاء السخرية باللغة الدارجة، بالرطانة. الحب مشوب بالإثارة الجنسية «ثلاثة رسومات تقريبية II، والذاكرة كمرساة غنائية أو درامية «لمرات عديدة ابتعدتُ»، وفقدان المحبوب ناظرًا إليه من ناحية هدوء الذكرى التصالحية «عندما مات أخي خيسوس»، أو التمتع بالمحبوب حيّا وحاملا للأمل «حياة جديدة» حتى الالتفاف في رداء التأمل الفلسفي «أعظم قصيدة أحتفظ بها» أو التوغّل القصير في مسائل ما وراء الطبيعة «حوار منفرد» كل هذا يشكل جزءا من هذا المؤلَّف الشعري الأول لبورّاس.
ولكن إذا كان «ليت” (Ojalá) كتابًا للشباب، فإن ديوان «وداع أبدي» (عنوانه عبارة عن تنويع على تركيب تعبيري تأملي لدى آنخل جيندا «العيش هو وداع أبدي، 2015»)، على الرغم من كتابته الاعترافية في شكل ومضات (أو على وجه التحديد بسبب هذا)، يمثل كتابًا للنضج. هنا يتم ترقيق اللغة وعيارها، لغة تستغني عن الزيادات كي تذهب لتقترب أكثر من سجلات القول المأثور أو من الوميض المفاجئ للتفكير الاستبطاني الذي يخضع الوجود بطريقة نقية وغنائية كلاسيكية. سيعود ليجد مرة أخرى في المقاطع الثمانية الإيقاع التأملي من خلال شكل الكوبلا (Copla) والسولياه (Soleá) وهي نوع من التركيب العروضي يعود إلى غنائية الأوزان الشعبية الأندلسية (أعيد إصداره في عام 2014، وفي عام 2013 نشر «كوبلات إلى حياة أبي الروحي، تكريمًا لآنخل جيندا») وكلا الشكلين من مفضلاته.
في الإصدار الرابع من عمله الشعري لا يهجر أغوستين بورّاس اللغة الطبيعية ولا حس السخرية ولا الدعابة ولا الدراما ولا الفلسفة – في أحسن معانيها -. «وداع أبدي» هو صورة الشاعر المنعكسة في المرآة؛ صندوق الصور والرفوف حيث تسكن قراءاته الشعرية. إنها أغنية إلى نفسه، لكنها في الوقت ذاته أغنية حبّ تجمع في تكرارها «الحاضر الدائم» الذي يتحدث عنه هنري بيرجسون والذي يعطي معنى للحياة. إنها، أخيرًا، الشهادة العارية للشاعر الذي يسلم نفسه إلى الجزء الأكثر حميمية من العالم الذي يحتمي به، ولكن لهذا السبب بالذات، هو الجزء الجمعي بشكل جذري فالكوني يقبع دون أدنى شك في أعمق أعماق الشخصي. قال أندريه جيد: «العيش [أيضًا] أن تكون قد عشت»، وأغوستين بورّاس لن يُكذّب ذلك.
[1]- باللاتينية في الأصل، ومعناها: الشعر ينتصر دائما. والعبارة هنا عبارة عن تنويعة على بيت من الأبيات الشهيرة للشاعر الروماني فيرجيل (70 ق.م- 19 ق.م)، في قصائد الرعاة وتحديدا في الرعوية العاشرة: Omnia vincit amor وتعني الحب ينتصر دائما. م.
[2]- كتب الشاعر والناقد الإسباني مانويل مارتينيث فوريجا، مشكورًا هذه المقدمة خصيصا من أجل الترجمة العربية.
*النص ينشر حصرياً في “الجديد“