أفكار حول الوعي النقدي والوعي الموظف

الأربعاء 2015/07/01
لوحة: محمد عمر خليل

الوعي لا يكون واحدا في أيّ مجتمع لأنه مرتبط بالظروف المعيشية والطبقية للأفراد وبمصالحهم ومواقعهم السلطوية في المجتمع، وبحسب الوعي المتشكل يتحدد دوره ووظيفته وآليات العمل التي يمكنها أن تحوّل فعلاً اجتماعياً عفوياً إلى آخر منظماً حتى يكون في خدمة من يعبر عن هذا الوعي. وليس الوعي نقدياً فقط. فحينما تسيطر مصالح وسلطة طبقة اجتماعية ـ سواء كانت سياسية أو دينية أو غيرها ـ على نظام حياة الفرد أو أشكال العلاقات الاجتماعية تتعرض فردية الفرد للإقصاء ويُغتال النقد. لأن تغوّل العام يعني استبعاد الخاص وترويضه.

عملية إلغاء العقل واغتيال النقد تبدأ بترسيخ التجريد كثقافة مجتمعية.. والمقصود بالتجريد هنا هو إنكار خصوصية الفرد أو المجموعة أو الطبقة أو غيرها من كل ما يحمل كينونة اجتماعية.. فعندما تُنتزع خصوصية من حاملها الاجتماعي بشكل منهجي يؤدي هذا إلى تجريدها من أحد انتماءاتها وجزء من هويتها، وهذا ينضوي تحته إلغاء للذات وبالتالي تشويه للوعي المتشكل عن هذه العملية الاجتماعية واغتراب عن الذات والمجتمع.. وينتج عن هذا التشكل المشوه للفرد أو المجموعات وعيٌ يكيف نفسه مع الواقع الثقافي والاجتماعي فيخضع له ويقبل بشروطه التي تفرض عليه حدود معرفته بواقعه وبذاته وتحدّ من قدرته على التغيير.. وقد يستمر هذا لبعض من الوقت يطول أو يقصر بحسب ظروف الأزمات وتفاعل التناقضات وأشكال القهر في كل مجتمع على حدة، لذلك قد يمر المجتمع أو الفرد في مرحلة ينهزم فيها الوعي النقدي لصالح بُنى السلطة القائمة في المجتمع خاصة منها الأكثر تجريداً وإقصاء..

وفي ظل هذه المعطيات ينشأ ما يمكن تسميته بالوعي المُوظف ليس كشكل وحيد للوعي ولكنه كحالة مهيمنة.. ويظهر الوعي الموظف في أنحاء المجتمع كلها: في الثقافة الاجتماعية والدينية وفي الأدب والفلسفة والسياسة، حيث يُوظف العقل والوعي إلى درجة قصوى ويُجرد الفردي المستقل والمختلف بتعميم وتغليب الخطاب المصلحي. وتتحول الحقيقة إلى نقيضها، فيتورّط الفرد بالخنوع الأعمى إلى سلطة سياسية أو دينية أو غيرها تُروّض لِتُطاع ويوصل هذا الترويض إلى عجز الوعي عن نقد موضوعه أو مجتمعه أو السلطة المسيطرة عليه. ويصبح الموضوع والمجتمع والسلطة بمثابة ديكتاتوريات تمارس سلطتها الإلغائية التجريدية ضد استقلالية وخصوصية الفرد أو المجموعة. ولأن الوعي الموظف غير قادر على النقد بالمعنى العميق والتغييري للكلمة فهو يقرر حقائقه جاهزة منذ البداية ويُحوّل مواضيعه الاجتماعية إلى استنتاجات أو تقارير لأن عملية التحليل والتفكيك وكشف الروابط بين الظواهر أو التناقضات الاجتماعية تصبح أدوات فائضة عن الحاجة حينما يتحول التفكير والوعي إلى عملية آلية تُفرض فيها حدود وعمق المعرفة المكتسبة.. وبذلك يكون الوعي الموظف وعياً مُشيّئا ويصبح بديلاً عن الوعي النقدي الحر. هذا التسخير لوعي الفرد يحوّله إلى أداة وظيفية تنفذ أدوارها الاجتماعية النمطية التي تحافظ على بقاء أشكال السلطة السائدة كما هي عليه.

اللاهوت الإسلامي العنفي ثمرة الاستنقاع التاريخي الذي ولده الثالوث المدمر للحياة: الإستبداد الشرقي، الفقر اللامعقول، الفساد الخالي من أي حياء

ولكن الوعي لا يتشكل بشكل نهائي لأنه مرتبط دائماً بمرحلته التاريخية وباحتدام صراعات وتناقضات واقعه وتحولاتها بغض النظر عن حاملها إن كان سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً. ويبقى الواقع الاجتماعي هو صانع وحامل الوعي وهذا الأخير هو صانع الرؤية التي هي أساس العمل، ومنطلق الواقع الاجتماعي هو ظروف العمل وشروط الحياة المعيشية وبنية علاقات السلطة في المجتمع ككل.. وهنا تبرز الضرورة الموضوعية لتبلور شكل آخر من الوعي لمواجهة عجز الوعي الموظف وقلب القاعدة التي تكلّس عليها.

ولعل الوظيفة الأهم للوعي النقدي تتجلى في الكشف عن تناقضية وسلطوية العلاقة بين العام والخاص في المجتمع التي تشمل كل المستويات والجوانب مثل علاقة الحاكم بالمحكوم، القوي بالضعيف، الغني بالفقير، ربّ العمل بالعامل، المدينة بالريف، المعلم بالطالب، الأب بالأبناء، الدين بالفرد، الثورة بالثورة المضادة، الخ، وعلى عكس الوعي الموظف الذي يتبنى خطاباً توافقياً غير صدامي يعمد فيه إلى إخفاء الصراعات يتميز الوعي النقدي بأنه وعي تمردي بالضرورة يغوص في موضوعاته إلى نهاياتها ويكشف تناقضاتها الداخلية الخفية، حيث تكون هناك وحدة جدلية بين النظرية والواقع وبين الوعي وموضوعه الاجتماعي.

تتجاوز وظيفة الوعي النقدي حدود التعريف في الموضوع أو تفسيره إلى الطموح في التغيير. ولعل هذه من أهم مميزات الوعي النقدي الذي يتميز بطابعه الهجومي ليس فقط تجاه ما هو سائد وقديم وإنما أيضا أمام من يسعى لتغيير إصلاحي غير جذري للواقع. لا يمكن الحديث عن وعي نقدي دون النظر إلى الكامن فيه من طاقة تحريرية وتحريضية منظمة وشرسة. تتجلى طاقة التغيير لديه بالإجابة المعرفية الدقيقة على مشكلات الواقع ووضع تصورات للتغيير مبنية على النظرية المعرفة والواقع والإمكانيات العملية.

ولأن الوعي النقدي لا يجرّد الفرد من خصوصياته فهو لا يختزله إلى أدواره الوظيفية كالأب والأم والمعلم والمربية فقط وإنما ينطلق في نقده بأن الفرد ليس كائنا مجرداً ذا وظائف اجتماعية معطاة وإنما هو قبل أيّ شيء فرد اجتماعي يتميز بفرديته عن الآخرين الذين يرتبط معهم بعلاقات حقيقية.. وهو ينتمي إلى طبقة معينة تتحدد بظروف عمله ومعيشته وحاجاته وغيرها وكل هذا متداخل ومتفاعل مع الكل الاجتماعي العام، ما يعني أن وعي الفرد لا ينشأ نتيجة لجهوده الذاتية وحدها كالقراءة والبحث وإنما يتشكّل مرتبطاً بكل ما يصنع منه فردا اجتماعياً.

على عكس الوعي الموظف الذي يعيد إنتاج واقعه يتمرد الوعي النقدي على الواقع من أجل تغييره لأنه وعي ثوري بالضرورة. وبناء عليه لا يمكن أن يتبنى الوعي النقدي موقف الحيادية، لأن الحيادية تجاه قضايا اجتماعية أو عمليات التغيير في المجتمع هي طريقة في الانحياز لما هو قائم والحفاظ على بقائه. فالحيادية هي محاولة تجريدية لأنها لا تفصح عن موقفها بشكل علني وتعمد إلى الهروب من المواجهة والتغيير وهو نقيض جوهري لما يعنيه الوعي النقدي. في الحقيقة لا توجد نظرية مجتمع لا تحمل مقولاتها مضموناً سياسياً وتوجهاً اجتماعياً منحازاً مهما حاولت تجنب ذلك.

على ضوء ما سبق يتضح أن تغيير نظام قائم أو أشكال السلطة السائدة في المجتمع إلى مجتمع جديد يتطلب على الصعيد النظري أن يصبح مشروع مرحلة تاريخية وتُؤسس له رؤية نقدية متكاملة للمجتمع تضع كل مقدراتها الفكرية والمعرفية والمنهجية في تشكيل وعي نقدي مجتمعي شامل يكون الإنسان فيه ذاتاً واعية لذاتها ولمحيطها الاجتماعي وفاعلاً حراً حقيقيا في إنتاج أشكال الحياة المختلفة في المجتمع.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.