أكتب صوتي
كل ما أعرفه أني أكتب صوتي، لا أكتب لأختلف عن الرجل أو عن أي أحد، أكتب لأكون أنا. لأكون ذاتي. صحيح أنه يحصل أحيانا وأضيّع صوتي، في خضم معركة الوجود، فالمرأة في العالم العربي عليها أن تخوض معركتين، معركة الوجود الأولى، التي تقول إنها شخص مساوٍ تماماً، إنها قبل أن تكون أنثى هي “شخص”.. إنسان له رأي وكيان، والكيان لا يتأتى لبني آدم إن لم يكن له رأي. ثم المعركة الثانية وهي معركة الإبداع بحد ذاتها بكل تحدياتها وصعوباتها إحباطاتها وعقباتها. المرحلة الأولى تستهلك الكثير من الجهد والطاقة، وقلة هنّ النساء الذكيات اللاتي عرفن كيف يتعالين عليها منذ البداية ويقتحمن مباشرة كهف الإبداع دون انتظار للانتصار في معركة الوجود الأولى؛ حين أدركن بحسهن الأقوى أن الإبداع هو الوسيلة الأقصر لإثبات الوجود الأولي، أن محاولة تغيير الواقع بالدخول في المواجهة المباشرة لن يؤدي إلا إلى ضياع جزء قيّم من العمر كان يمكن أن يُستغل في عملية الخلق الإبداعية.
أكتب إذاً لأحاول أن أكون ذاتي. الآن لم يعد يعنيني شخصياً أي شيء سوى أن أظل قادرة على الانتباه. يفقد الإنسان القدر هو الرغبة والفضول نحو الانتباه مع مرور الوقت بسبب طول آمال لا تأتي ورجاءات لا تتحقق، لكن الكاتب، ذكرا كان أم أنثى، عليه أن يظل متيقظا للانتباه حالة سقوطه من إدراكه فيبادر لالتقاطه وإعادته مجددا إلى حيث مكمنه الأصلي في عمق الروح. أحاول أن أظل منتبهة إلى أنني ما زلت على قيد الحياة، على أن ما يجري في الحياة يستحق التأمل، وعلى أن الأمل هو في الضوء آخر النفق، وعلى صوتي… أن أظل متيقظة تماما مثل ذئب لا ينام إلى حضور صوتي، حين يغيب صوتي.. في ثقل الوجود اليومي في خضم المجموع، حين أفقد صوتي أفقد ملامحي، أحس أني مجرد فزاعة قماشية في حقل عارِ لا ينبت فيه زرع. حين أفقد صوتي، صوت مريم، أحس أني لم أعد هنا، فيصير وجودي عبءا شاملا عليّ حمل ثقله يوميا في كل صباح، ويصير الصباح ضيفا غير مرغوب به في أمنية أن يستمر الليل حتى النهاية. ماذا يفعل الإنسان دون صوته؟ أنا إنسان، هكذا أرى نفسي دوما، هكذا اعتبرت نفسي دوما، لم أتعامل مع ذاتي كامرأة، حتى المعارك الأولية خضتها كشخص.. كإنسان يريد أن يكون كما يريد، كفرد يرى طريقه الخاص حقه الفطري، الحق الذي منحه الله لكل إنسان خلقه، فكيف يجرؤ أي إنسان على انتزاع هذا الحق الإلهي؟ من هذا المنطلق تعاطفت لاحقا مع النساء، مع تعليم البنات، مع حق الاختيار. لكن التعاطف لا يفعل الكثير، أليس كذلك؟
الآن أريد أن أكتب لأقول كل شيء قبل أن أموت، لكي لا أبدو كأي نملة مرت من هنا وانتهى الأمر، يزعجني هذا.. يسبب لي الأرق، لا أقصد أني أريد أن أترك أثراً، أعرف أن أي أثر قابل للاندثار، لكن أقصد أني أريد أن أعيش بكل إمكاناتي، ولا أجد غير الكتابة وسيلة لتحقيق هكذا عيش في عالم يضيق يوماً بعد آخر. لذلك أكتب، كي أرفع السماء التي تطبق على الأرض، كي يتسع العالم، ويمتد أمامي الأفق.. كي أظل مؤمنة بالخير والحق والحرية.