أكثر من بيروت واحدة
_ أيّ بيروت تعني بكلامك؟
_ وهل هناك أكثر من واحدة؟
_ بيروتات كثيرة يا صديقي
_ إذن فأنا أقصد بيروتي..
منذ هذه المحاورة التي جمعتني بصديق بيروتي على طاولة في مقهى من مقاهي شارع الحمرا سلمت أن من يزور بيروت سيكون قد زار واحدة من ضمن كثيرات.. وانتبهت إلى أنني بدوري لم أسلم من هذا التعدد المتلبس بالغموض، وقتها أيضا صار واضحا عندي أن البيروت التي تخصني تعود سيرتها إلى زمن ليس قريبا، وأن لهذه السيرة نقطة بداية محددة، وتاريخ ميلاد معروف، وأن ما سيأتي لاحقا من أحداث سيصبغها بصبغة فريدة تجعل اسم ما سأتحدث عنه الآن هنا هو بيروت مذيلة بياء المتكلم.
بعيدا عن بيروت بأكثر من خمسة آلاف كيلومتر، في حارة من حارات كولوش، الحي الشعبي الأشهر من بين أحياء مدينة وجدة، أين أسس الفرنسيون في أوائل القرن الماضي أول محطة قطار في المغرب.. كان ثلاثة فتية يحاولون كسر رتابة الوقت بالإيقاع المنتظم لخطو أقدامهم فوق حدائد سكة القطار المتجه نحو الشرق.. وللحظة انطلق صوت أحدهم يردد أغنية من الأغاني التي يحفظها عن أخيه الطالب الجامعي، كانت كلمات الأغنية تندب مدينة تشتعل فيها نيران الحرب.
يا يا يا شوارع بيروت الحرب اليومية.. يا مدينة يا مخزن هم.. يا هيصة ووحشة جمرية.. كانوا يتباهوا فيكي، يناموا في حضن المرايا، وجوهن صفرا تعاديكي وإنت ست الصبايا..
كلما كان الفتى المغني ينتهى من الأغنية كان الثالث يلحّ عليه كي يعيدها من جديد كأنما يبحث فيها عن سر ممتنع، أو يستعيد بها ذكريات ضائعة.
علق وصف المدينة الصبية بذهن الفتى، واستقرت صورتها الغامضة بوجدانه، فانطلق يلاحقها ويرصد أحوالها، في أغاني فيروز والرحابنة، وفي قصائد نزار، وعلى صفحات المجلة العربية اللندنية التي يقتنيها والده كل أسبوع. صارت المدينة حلما من بين أحلامه الكثيرة، أحلامه التي اكتشف لاحقا أنها كانت تصغر كلما كبر هو.
كذا كان ميلاد العلاقة بين الفتى والمدينة، وكذلك ظلت على مر السنين، ثابتة مرة، ومرة تأفل، ومرة تتوهج وتزيد، إلى أن تحقق حلم الذهاب إليها واللقاء بها في ربيع العام 2017 .
حين وصلتها.. وبعد أن تدبرت أمور إقامتي شرعت في مكابدة فهم المكان ومحاولة النجاح في الانتماء إليه، فدون ذلك لن يكون ممكنا كتابة النص البيروتي الذي كان عليّ أن أقدمه إلى المؤسسة الراعية لمشروع الرحلة، كان معنى أن تفهم المكان هو ألا تقع في فخاخ الزيارة الأولى، وأحد تلك الفخاخ أن تعجز عن خلع نظارة السائح الباحث عن مباهج السمع والذوق والبصر وبقية الحواس، دون أن يفقدك انتباهُك إلى تلك الفخاخ بكارةَ الدهشة الأولى التي لا غنى لك عنها كي تكتب نصك الذي تنتمي أنت إليه، ويدل هو عليك.
في أول ساعة في بيروت، تعمدت أن أنفرد بها بأن ألقيت بنفسي في حالة تيه، ومقام إشراق، فتجولت على غير هدى في الشوارع، أطالع وجوه الناس، استرق السمع للأصوات، أنعم النظر في واجهات البنايات والمحلات والأرصفة والأشجار، مستعيدا في خطوي الإيقاع القديم لخطوات الفتية الثلاثة على حدائد سكة القطار، لا لكسر رتابة الوقت كأول مرة، بل للزيادة في تكثيف الزمن، زمن ميلاد الوصل الأول بالمكان الجديد .
منذ تلك الساعة بدأ نصي البيروتي في التخلق، نص كرونولوجي مشهدي يلتقط الإشارات التي تصله من معالم المدينة ومن أحوالها، فيفككها ويعيد تركيبها بما استقر في وعيه من معرفة سابقة مادَّتُها التاريخ والسياسة والاجتماع، مخلوطة بطين المعايشة الراهنة، وماء التخييل الذي لا غنى عنه من أجل محاورة بيروت، وشخصنة العلاقة معها إلى العمق الذي يسمح بإضافة ياء المتكلم إلى اسمها.
بعد حال التيه ومقام الإشراق الأولين، توالت أحوال ومقامات كثيرة، تراوحت بين الألفة الصادرة من استكناه الصبغة المتوسطية للمدينة، والدهشة الجميلة من المسحة الدينية المعتلية قمم الصوامع والقباب والأهلّة والصلبان، والأسى من استشعار الروح المحطمة للمكان الذي عاش إلى فترة قريبة عصرا ذهبيا جعل من بيروت أميرة شرقية في هندام غربي، عندما بلغ مقامي البيروتي الغاية في التمدد، مانحا لي فرص مخالطة الناس، وحيث أن من رأى ليس كمن سمع؛ انكشفت لعيني عن قرب شديد ما تصطبغ به بيروت من ألوان الانتماءات المختلفة، وبدا لها ما تفعله هذه الألوان بالمكان، من تقسيم وتشطير وسلخ وشرخ، يستعصي معه على عابر مثلي أن يفهم ما وراء ذلك من الأسباب التي لا يعرف إلى أيّ تفسير يعزوها، أهو التعايش أم التوافق أم التنافس أم المحاصصة؟ وبسؤاله لأصدقائه من أهل المكان، يفهم أن في الأمر توازنا هشا بين هذه الأسباب كلها، إذا استمر استقر العيش، وإذا اختل حلت ببيروت الكارثة.
لم يقترب مقامي من نهايته السريعة حتى كنت قد رأيت بيروت محمد، وبيروت المسيح، وبيروت علي، وبيروت الفلسطينيين، وبيروت السوريين، وبيروت من لا دين لهم، وبيروت من لا دنيا لهم، وغير بعيد عن هؤلاء جميعا كان ممكنا للحدس أن يتحسس وجود بيروت من لا بيروت في قلوبهم، أصحاب الوجوه الصفراء الذين يعادونها وهي ست الصبايا. يجعلونها مركبا تتقاذفه تياراتهم السياسية، بينما يعجزون مجتمعين عن تأمين تيار كهرباء لشوارعها وبيوت ساكنيها.
كانت بيروت كما رأيتها عيانا وتوهما، تتزوق وتتأنق في هيئات عجائزها وصباياها وفتيانها في أمكنة مشتركة وتحت سقوف واحدة، فتتجاور الياقات الأنيقة والتنورات القصيرة، والعباءات الطويلة والبراقع السوداء وبنطلونات الجينز المنحور عند الركب، تتعدد وتضيء في مخيلات الأدباء وداخل نصوصهم، تنشطر أشطارا عند ساكنيها فتتعدد وتتقاطع ألوانها الدينية والسياسية، تنسلخ قطعا بين أيدي سياسيها وأمرائها الطائفيين فتتنازعها أكثر من هوية و أكثر من بوصلة.
أهو قدر بيروت، أن يضيف كل واحد ضميره المتكلم إلى اسمها المشاع، فينسبها إليه، ويمتلك جزءا منها.. يريده أن يكون كما تقتضيه مصلحته ويشتهيه نهمه، فتصير موزعة مقسمة مشتتة متشظية.. كلهم يدعي وصلا بها وهياما بسحرها، بينما تظل هي وحيدة شريدة ومستباحة.
الآن وبعد أيام من كارثة التفجير الهيروشيمي للمرفأ، هل ما زال لبيروت قدرة على تحمل ما تفرضه عليها الصيغة السياسية والاجتماعية الراهنة، أم أنها ستنهض وتنتفض كما فعلت مرات كثيرة في تاريخها الطويل والممتد.