فصل المقال في ما لا ينبغي أن يُقالَ عن الفلسفة
![](/sites/default/files/styles/article_image_800x450_scale/public/2025-02/www1.jpg?itok=nHfGsyjF)
شاركت مؤخراً في ندوة على فضاء الزووم أقامتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والنشر، استقبلت فيها مترجم كتاب “The Cambridge Companion to Arabic Philosophy” إلى العربية، والذي نشرت ترجمته العربية المؤسسة المذكورة هذا العام تحت عنوان، دليل كامبردج إلى الفلسفة العربية. وقد دار واحدٌ من الأسئلة التي طُرِحَت في معرض الندوة المذكورة حول مسألة اختيار محرري الكتاب المذكور لعبارة “فلسفة عربية” لتكون عنواناً له، بدلاً من “فلسفة إسلامية”. استوقفني هذا السؤال ودفعني للتفكير بالميل الفكري التقليدي القديم، والمستمر حتى اليوم، والذي ينحو نحوَ الحديث عن “فلسفة إسلامية”، وهو يعكس أحد الأبعاد المتمثلة في إطار الميل الجارف والمنتشر بشكل واسع في العالمين العربي والإسلامي لأسلمة العلوم برمتها. علينا أن نلاحظ هنا أن الميل لأسلمة الفلسفة ليس اختراعاً عربياً أو إسلامياً في الواقع. فهذا الميل لأسلمة العلوم، أو إعطائها ماهية دينية تقترن بالإسلام، بدأ في أوروبا، وقبل أن يدعو باحثٌ مثل محمد إقبال في ثمانينات القرن الماضي إلى أسلمة العلوم. فقد درج المُستشرقون الغربيون الأوروبيون، في العالمين الأكاديميين الألماني والفرنسي بشكل خاص، على دراسة تاريخ وتيارات الفكر الإسلامي وإطلاق تسمية “الفلسفة الإسلامية” في معرض دراساتهم لفكر الكندي والفارابي والرازي وابن سينا وابن رشد وابن طفيل وابن باجة والسهروردي والغزالي وسواهم. كما أن عادةَ الحديث عن الفلسفة بقرنها بتراث ديني معين هي عادة عرفها العالم الفكري الغربي في ما يتعلق بالمسيحية أيضاً. ففي القرن السابع عشر، راح المفكرون المتأثرون بتراث توما الأكويني يتحدثون عمّا أسموه “الفلسفة المسيحية”، تلك التسمية التي اقترنت منذ ذاك الوقت بالمدرسة الفكرية التومائية في التراث المسيحي المعرفي الكاثوليكي. ومن أشهر المؤلفين الذين كتبوا لنا عن تاريخ الفلسفة متحدثين عن “فلسفة مسيحية” في القرن العشرين كان الفيلسوف التومائي والباحث في تاريخ الفلسفة، الفرنسي إيتيان جيلسون(Étienne Henri Gilson) . لهذا، ليس مستغرباً أن يشعر البعض اليوم بالحيرة ويتساءلون عن سبب تسمية مجلد يتعلق بالفكر الفلسفي في تاريخ العالم الإسلامي “الفلسفة العربية” وليس “الفلسفة الإسلامية.”
إن هذا يدفعني هنا للتساؤل: هل من الصحيح مفاهيمياً وعلمياً الحديث عن “فلسفة إسلامية»، “فلسفة مسيحية»، أو “فلسفة يهودية”؟ إنني شخصياً أعتقد بأن من الخطأ علمياً الحديث عن الفلسفة بهذه الدلالات. ففهمنا لطبيعة الفلسفة، وتذكرنا للماهية الدينية الناظمة والهووية لكل من “الإسلام” و”المسيحية” و”اليهودية” يدفعانني للقول بأنه لا ينبغي الحديث عن “فلسفة إسلامية” أو “فلسفة مسيحية.”
حين نعود إلى نصوص كل من أقدم الفلاسفة اليونان نجد أفلاطون يُعرِّف الفلسفة على أنها “نظر العقل في العقل»، ونجد أرسطو يتحدث عنها بأنها “نظر العقل في العقل” كذلك، إلا أنه يضيف إلى هذا التعريف ما مفاده أن الفلسفة هي “نظر العقل في العقل وفي تمظهرات هذا العقل في الوجود المادي المحسوس”، أي أن الفلسفة هي “نظر العقل في وجود المعقولات.” في العصر الإسلامي المبكر، القرنين الثالث للهجرة/التاسع للميلاد – الرابع للهجرة/العاشر للميلاد، سيكرر كل من الفيلسوفين المسلمين الكندي والفارابي نفس التعريف الأرسطي – الأفلاطوني وسيشكلان فكراً فلسفياً ناطقاً بالعربية بالاعتماد على فهم الفلسفة وممارستها الذي تعلماه من النصوص الفلسفية اليونانية والترجمات السريانية والعربية اللاحقة لها (أنشر قريباً دراسة محكمة موسعة عن هذا في دورية جامعة مونستر المحكمة للدراسات الإسلامية، ألمانيا). من هنا، فإنَّ الفلسفة بنظر روادها وآباءها الأوائل ليست بالخطاب الديني، ولا هي خطاب عن الدين، ولا هي خطاب ٌ يمثـل ديناً بعينه ولا ينطق باسمه. الفلسفة بطبيعتها عابرة للأديان، ما فوق – دينية، وأحياناً مضادة للفكر الديني. وهناك الكثير من الفلاسفة المرجعيين في تاريخ الفكر الفلسفي الذين رفضوا أن يتعاملوا مع الفلسفة وكأنها خطاب يتعلق بتراث ديني بعينه. الكندي والفارابي لم يتحدثا أبداً عن “فلسفة إسلامية.” توما الأكويني (Thomas Aquinas) نفسه لم يستخدم مصطلح “فلسفة مسيحية»، بل تحدث عن فكر لاهوتي مسيحي في حوار عميق وتفاعلي مع الفكر الفلسفي الأرسطي. الفيلسوف اليهودي الأصول بنيديكت سبينوزا (Benedict Spinoza) لم يتحدث يوماً عن “فلسفة يهودية.” واليوم، في عصر ما بعد الحداثة يفهم ثقاة الباحثين في تاريخ الفكر الفلسفي، مثل هانز جورج غادامر (Hans-Georg Gadamer) وجايل دولوز (Giles Deleuze)، الفلسفة كفعل تفكيك هرمنيوتيكي كوني يُقارب فكرتي “المعرفة” و”الحقيقة” فوق – تاريخياً وفوق – سياقياً.
من هنا، فإنَّ محرري كتاب، دليل كامبردج إلى الفلسفة العربية، بيتر آدامسون (Peter Adamson) وريتشارد تايلر (Richard Taylor) يتبعان التقليد التفسيري الناظم في الغرب لماهية الفلسفة. لقد تراجع كثيراً في أوساط البحث العلمي المعاصر المتعلق بمسائل الفلسفة في العالم الغربي، وخاصة أوروبا، الحديث عن “فلسفة مسيحية” أو “فلسفة يهودية»، وهناك تراجع متنام لاستخدام مصطلح “فلسفة إسلامية” دون توضيح أنه يشمل الخطابات الفلسفية العربية غير المسلمة كذلك. حتى الفكر السكولاستي التومائي ما عاد يُسمّى اليوم اصطلاحياً “فلسفة مسيحية»، بل “فكر مسيحي لاهوتي فلسفي يتبع المنهج السكولاستي الأرسطي”. يتم الحديث اليوم عن الفلسفة ذات الماهية المرتبطة بسياقات لغوية وثقافية تاريخية محددة، وليس عن فلسفة تحمل ماهية ذات خلفية تقرنها بتراث فكري ديني بعينه. يتحدث مؤرخو الفكر الفلسفي اليوم عن “فلسفة يونانية”، “فلسفة لاتينية”، “فلسفة ألمانية”، “فلسفة فرنسية”، “فلسفة أنجلوفونية”، “فلسفة صينية”، وبالتالي عن “فلسفة عربية”. المقصود هنا هو فلسفة مكتوبة ومدروسة ومُفكَّرٌ بها بلغةٍ معينة تنتمي لفضاء وجودي يتبنى تلك اللغة كأداته المعرفية والتعبيرية والثقافية التي تخلق شبكات المعنى لتلك الفلسفة. تعني “فلسفة عربية”، إذاً، “فلسفة مكتوبة ومنطوقة بالعربية وجدت تاريخياً ضمن ما يعرف بالعالم الإسلامي”. هذا بالضبط ما يشرحه محررا دليل كمبردج إلى الفلسفة العربية، بشكل غير مباشر حين يبدآن النبذة التعريفية للكتاب الموجودة على الغلاف الخلفي للطبعة الإنجليزية الأصلية بالجملة البسيطة التالية: “إن للفلسفة المكتوبة في اللغة العربية والتي نشأت في العالم الإسلامي تأثير عميق وكبير على الفكر الغربي.”
إن هذا الفهم المذكور في الأعلى للفلسفة على أنها ذات ماهية لغوية وثقافية وليس دينية لا يعني، طبعاً، بأن الفكر الديني لا يمكنه، أو من غير المسموح له، أن يقيم جسراً بينه وبين الفكر الفلسفي وأن ينهل من معين سلة الفلسفة المفاهيمية وأن يستعين ببعض أدوات التفسير والتحليل والتفكيك والتركيب من صندوقِ عدتها التِقني. لهذا، من المشروع والممكن معرفياً وفكرياً الحديث عن “فكر ديني فلسفي” القوام، وبالتالي عن “فكر ديني فلسفي إسلامي” (اسمه التقني التاريخي هو “علم الكلام”. والتاريخ يخبرنا أن هناك علم كلام عربيا بأقلام إسلامية ومسيحية ويهودية)، أو عن “فكر ديني فلسفي مسيحي” (اسمه التقني “اللاهوت النظامي/الفلسفي، Systematic Theology، والذي تم إنشاءه كحقل دراسي علمي لأول مرة في ألمانيا أواخر القرن التاسع عشر)، أو “فكر ديني فلسفي يهودي” أو “فكر ديني فلسفي هندوسي” أو “فكر ديني فلسفي بوذي”.. الخ. الفكر الديني يمكن له أن يستعين بقواعد التحليل وإستراتيجيات التفكيك والتفكير التي تـنشئ من معين الفلسفة، ويمكنه أن يبني خطاباته المعرفية والمنطقية بالاستعانة بمصطلحات ولعبة لغة الفلسفة وألعاب القراءة الخاصة بها. إلا أن العكس ليس صحيحاً. فالفلسفة حين تتبنى سلة مفردات خطاب ديني بعينه وتستخدم فقط سلة أدوات هذا الدين المعرفية والتفسيرية دون سواها، فإن هذا التخصيص وتلك الحصرية يسلخان الفلسفة عن ماهيتها الأنطولوجية التي تعبر عن ميل وحراك ونشاط بشري إنساني ذهني صرف يقوم به كافة البشر بصرف النظر عن خلفياتهم وهوياتهم الشخصية وانتماءاتهم وقناعاتهم الخاصة. الفلسفة هي خروج خارج دوائر الوعي الشخصي الفردية الضيقة الخاصة بالقناعات الدينية والعقائدية والدوغمائية والأيديولوجية والروحانية والطقوسية. يمكن لتلك القناعات المذكورة أن تنهل من نبع الفلسفة وأن تمارس تفلسفاً يتعلق بمكنوناتها ومضامينها. ولكن هذا لا يجعل من الفلسفة بحد ذاتها تُعرَّف بدلالة أي من تلك القناعات. بكلمات أخرى، يمكن الحديث عن “عـقائد فلسفية”، “تديُّن فلسفي”، “أيديولوجية فلسفية”، “روحانيات فلسفية”، “طقوسيات وعبادات ذات أبعاد فلسفية”. ولكن من الخطأ الحديث عن “فلسفة عقائدية”، “فلسفة دينية” (هناك شيء اسمه “فلسفة الدين”، ولكن هذا لا يعني أننا نتحدث عن فلسفة ذات ماهية دينية، بل عن دين مبني على منطق فلسفي)، “فلسفة أيديولوجية”، “فلسفة روحانية”، “فلسفة طقوسية عبادية”. الفلسفة هي سفر خارج الهوية، خارج الماهيات التعريفية الحصرية والتصنيفية. هي محاولة نظرٍ للعقل البشري المحض، الفوق – هووي، في عملية العقلنة: “نظر العقل في العقل»، وليس “نظرة العقل الدينية»، مع أننا نستطيع مفاهيمياً الحديث عن “نظرة الدين العقلانية في الدين” دون أن يمس هذا بطبيعة الفلسفة.
إنَّ الفهم العميق لماهية الفلسفة المذكورة في الأعلى هو بالضبط ما دفعَ علماء الكلام العرب، المسلمين والمسيحيين واليهود على حد سواء، في العصر الإٍسلامي المبكر لاستخدام أدوات التفكير والتحليل والتفسير والتفكيك والاصطلاح الفلسفية اليونانية، الأرسطية – الأفلوطينية وكأنها أدوات وعِـدَّة معرفة عابرة للأديان وما فوق – دينية، لا يحتكرها دين بعينه (الإسلامي مثلاً) ولا يطبعها هووياً بهِ وبقواعد فكرهِ العقائدية والدوغمائية والدينية الضيقة. حين نقرأ نصوص علماء كلام مسلمين، مثل أبوالهذيل العلاف والنظام والجاحظ وعلي بن ربان الطبري وأبوعيسى الوراق والقاسم بن إبراهيم الرسي والأشعري والقاضي عبدالجبار الهمذاني، أو نصوص علماء كلام مسيحيين، مثل ثاودوروس أبي قرة وعمار البصري وأبو رائطة التكريتي وقسطا بن لوقا ويحيى بن عدي، أو نصوص علماء كلام يهود، مثل مروان بن داوود المقمص وسعدية غاوون وموسى بن ميمون، فإنَّ ما نجده فيها هو خطابات تستعين بصراحةٍ وبلا مواربةٍ بالفكر الفلسفي الأرسطي – الأفلوطيني (الذي وصلهم إما عبر نصوص أرسطو وأفلاطون نفسها أو عبر فكر أفلوطين، بورفيريوس الصيداوي، بروكلس ليريتيس، ألكسندر الأفروديسي، ويوحنا النحوي وسواهم)، وهي تستعين بسلة لغة وعِدَّة شغل الفلسفة اليونانية تلك وكأنها أدوات ومنهل معرفةٍ عامٍ ومتاح للجميع ومسموح باستخدامه من قبل الجميع لأنه بالدرجة الأولى نتاج فكري بشري غير ديني، عابر للأديان، متاح لها كلها، ومتاح حتى للذين يُوصفون بأصحاب الفكر الحر أو حتى الملاحدة (من أمثال ابن الرواندي وأبوبكر الرازي). إنَّ التشابهات في المنطق الفلسفي الناظم للكلام اللاهوتي الفلسفي الذي نجده في نصوص أولئك المتكلمين والمفكرين في العصر الإسلامي المبكر هي تشابهات صريحة وطاغية وواضحة إلى درجة لا يمكن إنكارها. وهي تدعونا للتوقف والتمعن بكيف فهم أولئك المفكرون الأول الفلسفة وطبيعتها وماهيتها: الفلسفة كانت بالنسبة إليهم حقلا معرفيا “عربيا” وليس “إسلاميا” أو “مسيحيا” أو “يهوديا”، رغماً عن أنف ما نحب أن نعتقده اليوم أو نتمناه أو نفرضه على التاريخ والفكر في ظهراني عالمنا العربي.
وعليه، فإن الفلسفة لا هوية لها، ناهيك عن الهوية الدينية، بل لها 1) حاضن لغوي يمنحها لعبة اللغة وإستراتيجيات التعبير الكلامي والكتابي التي تحتاجها كي تتحول من فكر فردي إلى خطاب جماعي، ومن فعل وعي وفهم أحادي إلى حراك تفاعل وفهم وتعبير علاقاتي تفاعلي اجتماعي. ولهذا يمكننا الحديث عن “فلسفة يونانية”، “فلسفة عربية”، “فلسفة ألمانية”، “فلسفة فرنسية”، “فلسفة إنجليزية”.. الخ. وكذلك لها 2) سياق زمكاني وتاريخي ثقافي تنشأ مدفوعةً بمتطلباتهِ وتحدياتهِ وواقعهِ ولتجيب على التساؤلات الوجودية والمعرفية والاختبارية والمصيرية للإنسان الذي يعيش فيه. ولهذا يمكن الحديث عن “فلسفة العالم الإسلامي»، أو “فلسفة العالم اليوناني»، أو “فلسفة العالم اللاتيني»، أو “فلسفة العالم الجرماني»، أو “فلسفة العالم الفرنكوفوني»، أو “فلسفة العالم الأنجلوفوني»، أو “فلسفة عالم الشرق الأقصى».. الخ. ضمن هذا الحاضن وهذا السياق، يمكن للفيلسوف الذي ينتج “فلسفة عربية” أو “فلسفة من العالم الإسلامي وعنه»، أن يكون مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو ملحداً أو لادينياً أو لاأدرياً، كما يمكنه ألاّ يكون عربياً، بل سريانياً أو قبطياً أو كردياً أو فارسياً أو تركياً أو أرمنياً أو شركسياً في ما يتعلق بالإثنية والأصل العرقي ولكن تبقى خطابتهِ واجتهاداتها الفلسفية تعبيراً عن “فلسفة عربية”. نفس الأمر ينسحب على أي فلسفة أخرى ذات حاضن لغوي وسياق ثقافي آخر. هناك فلاسفة من أصول عربية أو آسيوية أو أفريقية أو أميركية لاتينية اليوم ينتجون خطابات فلسفة ألمانية وفرنسية وإنجليزية وهي تنطق بسياقات العوالم الألمانية والفرنسية والإنجليزية التي يعيشون فيها وينتمون إليها وجوداً وجنسيةً، وهم يفعلون ذلك بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو اللادينية ومعتقداتهم وعقائدهم وأيديولوجياتهم الخاصة. هذا الأمر غير ممكن تماماً أو كلياً، مثلما هو ممكن في ما يتعلق بالفلسفة، بالنسبة إلى اللاهوتيين وعلماء الدين وعلماء الكلام. فهؤلاء ينتجون معرفة تختص بفكر ومعتقدات وخطابات فضاء ديني عقائدي وروحي محدد المعالم والحدود والماهية والطبيعة والهوية، وهم يعملون على تفسير وتفكيك وتركيب وإعادة تقديم الفكر الناظم والمعرف هووياً للخطابين الإيماني العرفاني والمعرفي الديني لهذا الدين بعينهِ. وهم يلتزمون بفعل هذا حتى حين يتطرقون إلى علاقة الخطاب الديني الذي يقدمون معرفةً عنه بباقي الخطابات المعرفية الأخرى وتواصل هذا الدين مع تلك الخطابات وكيفية استفادته منها ومساهمتهِ فيها. من المفروض بعالم الدين واللاهوت والكلام أن ينطق باسم هوية دينية وخطاب ديني واحد دون سواه أولاً وأساساً. وحتى وإن استعان بأدوات تفسير ولغة خطاب مستقاة من معين الفلسفة لفعل ذلك، فإنَّ هذا لا يضيف للفلسفة بحد ذاتها أي طبائع أو ماهيات تجعلها ممثلة لهذا الدين المدروس، بل إنه يضيف، على العكس، للدين المدروس خصائص وطبائع وأبعاداً تفسيرية فلسفية لم تكن فيه من قبل. الفلسفة يمكنها أن تفلسف الخطاب الديني، ولكن لا ينبغي على الخطاب الديني أن يؤدلج ويُعقدِن (من عقيدة) ويلهوِت (من لاهوت) الفلسفة بحد ذاتها.
![ل Thumbnail](/sites/default/files/2025-02/dd1.jpg)
يخطئ لذلك، برأيي، أولئك الباحثون العرب المعاصرون الذين يسعون لتشكيل فلسفة عربية معاصرة تحمل هوية إسلامية معينة مهمتها أن تقاوم الفلسفات الغربية وأن تتعامل معها على أنها فلسفات استعمارية معادية (هكذا يفعل طه عبدالرحمن اليوم وفعله قبله الراحل محمد عمارة، على سبيل المثال). ويصيب في المقابل، أولئك الأكاديميون العرب الذين يناهضون هذا التوجُّه الماهيوي في فهم الفلسفة وطبيعتها، ويحاججون بأن الفلسفة العربية يجب أن تكون ذات توجه وماهية عالمية مافوق – هووية، تتحرر من الهويات الضيقة والتضادية والتصادمية المغايرة، وتعمل على التفاعل الإيجابي والمنفتح مع الحراك والفكر الفلسفيين العالميين (هذا خطاب الباحث التونسي فتحي المسكيني والباحث العراقي عبدالجبار الرفاعي اليوم، على سبيل المثال). إن فرض بُعد هووي على الفلسفة كفيل لا بتحويلها إلى حامل معياري وشبكة معان أيديولوجية إقصائية ومغايرة فقط. إنه كفيلٌ أيضاً بنزع الماهية الفلسفية عنها بالكامل، بحيث لا تعود الفلسفة “نظر العقل في العقل»، بل تصبح “نظر العاقل بالآخرين وحكمه عليهم وعلى عقولهم أخلاقياً ووجودياً”. تصبح الفلسفة أداة حكم قيمة ومعيار قيمي، وهي التي ينبغي لها أن تكون فعلا تفكريا وتعقليا ما فوق – قيمي، أو وراء معادلة خير – شر، كما يؤكد فريدريك نيتشه. ليست مهمة الفلسفة أن تطلق أحكاماً أو أن تقرر الماهويات. مهمة الفلسفة أن تتأمل وتفكر فقط في ما هو موجود في ذاته وأن تتفاعلَ عقلانياً (دون أن تحكم) مع حالة حضور معرفية ما قائمة بذاتها. الفلسفة، كما يقول أفلاطون وأرسطو، هي “نظر العقل في العقل»، وليس” حكم العقل على العقل.”
والسؤال، في ضوء ما سبق، هو: ما الذي يجعل العديد من الباحثين والمفكرين المسلمين في العالم العربي يميل بشكلٍ قويٍ لأسلمةِ الفلسفة أو لتأكيد الهوية الإسلامية للفلسفة العربية؟ أعتقد أن أحد الأسباب البنيوية المكونة لهذا الميل يكمن في الذهنية والمنطق الذي يدفع عددا لا بأس به من الباحثين العرب المسلمين للاشتغال فكرياً ولإنتاج خطاب معرفي، في أيّ مجالٍ علمي أو فكري أو ثقافي، بشكلٍ عام. يلاحظُ الدارس المتأني لأطيافٍ واسعةٍ من النصوص التي كتبها مؤلفون عرب مسلمون حول مسائل الفكر الذي تم إنتاجه في تاريخ الإسلام، سواء أكان فكراً دينياً أو فلسفياً أو علمياً أو معرفياً أو سياسياً أو ثقافياً عاماً، بأن هناك نوعا من أنواع الإستراتيجيات التفسيرية والافتراضات المفاهيمية وسياسات التفكير التي ينطلق منها أولئك الباحثون والكتاب المسلمون، خاصةً في العصر الحديث الذي يدعو لأسلمة كل المعارف. تفيدني دراساتي للكثير من الاجتهادات المعرفية والتأليفية والفكرية للعديد من المؤلفين المسلمين المعاصرين خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين بأن أولئك المفكرين يفترضون قبلياً (apriori)، ضمنياً أو علانيةً، بأن نقطة انطلاق الخطاب المعرفي والفكري المسلم – العربي ينبغي أن تكون “كنتم خيرَ أمةٍ أُخرجَت للناس” (سورة آل عمران 110). تصبح هذه الآية القرآنية قاعدة الانطلاق المعرفية والمفاهيمية والتفسيرية والهدف المطلق والأول الذي يتم تسخير كل نشاط معرفي وفكري وتأليفي وبحثي لخدمته ولإثبات حقائقيتهِ للعالم أجمع.
أما المنهجية التي يتبعها المفكرون المسلمون لتأصيل هذا الافتراض القاعدي القبلي فهي تقوم على الخطوات التالية: الخطوة الأولى هي العودة إلى التراث الإسلامي القديم وتعريف الأصيل من المزيف فيه، ومن ثم الغوص تبحراً في تضاعيف ما يُعتبرُ أصيلاً ومرجعياً في التراث المذكور. الخطوة الثانية هي محاولة التعرف على خطابات الفكر الخاصة بغير المسلمين ومحاولة اكتناه آليات تركيب وتحليل وتفسير هذا الفكر، وذلك لغرضِ معرفة “الآخر المضاد” أو حتى “العدو” الذي يعتبره هذا المفكر المسلم معادياً للفكر الإسلامي وتهديداً له ولوجوده ومصدر خطرٍ محدق أمام حقيقة أنَّ المسلمين هم “خيرُ أمةٍ أخرجت للناس”. أي أن المفكر المسلم المذكور يدرس فكر الآخر ويفككه لا ليفكر مثل أصحاب هذا الفكر الآخر ولا ليتعلم أو يتبنى من فكرهم شيئا، فالفكر الإسلامي مكتفٍ بذاتهِ وكامل الهوية في حد ذاته دون أي حاجة إلى الآخر، برأي هذا الفريق من المفكرين المسلمين العرب. أما الخطوة اللاحقة فهي تعرية فكر الآخر وتراثهِ المعرفي بغية كشف الغطاء عن مكامن التفارق والتضاد والتضارب (بدل التلاقي والتماثـل والتفاعل) ما بين فكر الآخر والتراث الفكري الإسلامي. أي أن المفكر العربي المسلم يميل لا للفهم والتفسير والتعمُّق، بل للتقييم والتثمين وإطلاق حكم قيمة على التمايز والتفرد الخاص بكل من التراث الفكري الإسلامي والتراثات الفكرية غير الإسلامية. أي أن الهدف من دراسة الآخر وفكره هو تركيبُ ديالكتيك تثنوي استقطابي (binarism) تنافري وتضادي وتغايري مع الآخر. وهذا المنطق الافتراضي هو قاعدة دفاع العديد من المفكرين المسلمين العرب عن مرجعية الإسلام (وليس الفكر والعلوم التي نشأت في تاريخ الإسلام بالضرورة) المعرفية والعلمية على قاعدة تثنوية “الإسلام – ضد – الغرب” الاستقطابية. أما الخطوة اللاحقة فهي إعادة تشكيل خطاب التراث على قاعدةِ طرحٍ كُلانيٍّ شمولي هدفه إعادة خلق العـقل العربي، لا مجرد التـفكير فيه أو تشريحه أو نقده. أي أنه يطوِّر سياسة إعادة – تركيب وليس تفكيك، وينتهي به الأمر إلى تطوير خطاب دفاعي (apologetic) وليس خطاب تشريحي (anatomizing) للتراث الفكري العربي في تاريخ الإسلام.
إنَّ الهدف الأقصى والأساس لهذه الإستراتيجية الفكرية هو هدفٌ دفاعيٌ يبغي إغناء الذات لا إغناء الآخرين؛ الدفاع عن الذات وليس التفاعل مع الآخرين؛ إثبات الذات وتفوقها العلوي والمرجعي وليس الانفتاح على الآخر والبحث عن المشتركات العامة بينهما. أي أن العقل العربي الإسلامي مهجوسٌ بالأخذ وليس العطاء، بإثبات الذات وليس بفهم الآخر. هذا الدافع الفكري والسيكولوجي والأيديولوجي العميق الذي يغذي بنية العقل العربي المسلم هو الذي يُقارب العلوم والمعارف عموماً من زاوية دورها في إعلان تفوق ومرجعية وكمال الإسلام وكل من ينتمي إليه ويتبعه، ونجاحها في خدمة هذا الإعلان ونشره حول العالم. من هنا، فإنَّ إسباغ هويةٍ إسلاميةٍ على أي حقل علمي هدفها أن تبين أن النسخة الإسلامية من خطابات وطروحات وتمظهرات وممارسات هذا الحقل العلمي المذكور هي النسخة الأكمل والأصدق والأكثر صحة وموثوقية وصاحبة المرجعية الأولى، إن لم يكن الوحيدة، في ما يتعلق بماهية وقيمة ونجاعة ودور هذا الحقل العلمي المذكور في حياة الإنسانية.
تتم أيضاً، وبنفس المنطق التفوقي والاستعلائي والدفاعي عن الذات، مقاربة الفلسفة كفضاء معرفي وفكري بشري. بالنسبة إلى من ينطلق من هاجس إثبات أن أتباع الإسلام حصراً هم “خير أمةٍ أخرجَت للناس»، فإنَّ الفلسفة بحد ذاتها لا قيمة لها ولا دور ولا فائدة، ناهيك عن صوابها وموثوقيتها المعرفية، ما لم تتجلّ في أسمى نسخها وصورها، ألا وهي نسخة “الفلسفة الإسلامية” (هذا هو المنطق الكامن خلف الهجس المحموم بتذكير العالم الغربي بأن كافة معارفهِ عن الفلسفة القديمة جاءت إليه عبر نصوص الفلاسفة المسلمين تحديداً. أي أن الإسلام هو منبع ومصدر الفكر الغربي الأصيل والفعلي، الذي ينبغي على الغرب الاعتراف به). من هنا، ينبغي، وفق هذا المنطق، أسلمَة الفلسفة وإلباسها ثوباً هووياً إسلامياً صريحاً وحاسماً، وإلا فإن أيّ نسخة فلسفة لاإسلامية، أو “غربية” كما درجت أجيالٌ من الكتاب والمفكرين العرب على القول، ينتجها الآخر غير المسلم هي فلسفة نافـلة، بلا قيمة، بلا مرجعية، ولا أصول وجذور موثوقة، وبلا فائدة.
قد يكون الدافع السيكولوجي الجواني الذي يربض في لاوعي من يدعو لأسلمة الفلسفة والعلوم برمتها في بعض الأحيان، ومن حيث المبدأ، دافعاً أخلاقياً نبيلاً: الرغبة بإعادة تأهيل الفلسفة والعلوم وتنقيتها من أيّ شوائب تشوه صورتها الحقيقية الأصيلة وتشيطنها وتمنعها من خدمة الإنسان. أي أنَّ الغاية قد تكون رغبة بتحرير وتنقية الفلسفة، كما يعتقد أتباع هذا المنطق. هنا، يلعب الفكر الديني المتمثل بالإسلام دور “اللقاح المضاد” (vaccine) والعلاج الصريح (categorical remedy) للفلسفة ولكافة العلوم من الأمراض والأوبئة التي أصابها بها الآخرين. ولكن، لا ينتبه أولئك التصادميون والتـثنويون (binarists) إلى أن أسلمتهم للفلسفة تشوه الفلسفة وتحولها إلى شيءٍ آخر، في المحصلة. أي بدل أن يشفوا المريض من الداء، يسبب لقاحهم المضاد للمريض داء آخر لا يقل ضرراً عن أيّ داءٍ سواه. فأسلَمَة أو مَسحَنَة الفلسفة تعني تحويلها إلى خطاب فكري ذي ماهية مختلفة لافلسفية. يحولها، بكلمات أخرى، إلى أداة قتالية ووسيلة حِراب مع الآخر على قاعدة مرجعية الماهية الدينية والدوغمائية التي صارت الآن الهوية الناظمة لما يُصطَلَح على اعتباره “فلسفة أصيلة” أو “فلسفة مرجعية”. الفلسفة بطبيعتها خروجٌ من دوائر الماهيات الهووية التي يعمل جمعٌ بشريٌ ما (ديني أو غير ديني) على خلقها والاستقرار ضمنها بغرضِ تحقيق الذات وحمايتها وتأكيد تفوقها، وذلك من خلال تشكيل تثنوية ديالكتيكية تضادية مع كل “آخر”. الفلسفة بالتعريف هي خروجٌ من مثل تلك الدوائر الضيقة، السجنية الطبيعة (من سِجن)، نحو فضاء التفكير العقلي الإنساني المَحض والصرف للكائن العاقل المُنتَصب المدعو “هوموسابيان”. الفلسفة، كما يقول الفارابي، هي العلم الأول أو البدئي أو القبلي الذي يسبق كافة أنواع وأنماط ومسارات “وعي الذات” الأخرى، بما فيها الوعي الذاتي الديني والفقهي والعقائدي والأيديولوجي، الفردية والجمعية على حد سواء. هكذا فهم أفلاطون وأرسطو الفلسفة، وهكذا فهمها أيضاً الكندي والفارابي وأطلقوا عليها تسمية “الفلسفة الأولى”. (“أولى” هنا تعني “قبلية” (apriori) أي تسبق كل فكرٍ آخر و”مبادئية” (principal) بمعنى أنها المصدر الأول والخالق لكافة أنماط التفكير البشري اللاحقة). وكي تلعب الفلسفة هذا الدور عليها أن تكون بطبيعتها ما فوق – هووية، ما فوق – دينية، ما فوق – دوغمائية، ما فوق – ماهوية. ينبغي أن تكون فضاءَ تفكيرٍ يلتقي ضمنه كافة البشر كائناً ما كانت خلفياتهم ومشاربهم وميولهم ومعتقداتهم وهوياتهم.
ختاماً، كي تكون الفلسفة “فلسفيةً” حقاً ينبغي أن تنعتق من أيةِ قوالب هووية مثل “فلسفة إسلامية»، “فلسفة مسيحية»، “فلسفة يهودية»، “فلسفة هندوسية»، “فلسفة بوذية»… الخ. للفلسفة فضاء لغوي يجعلها “عربية” أو “إنجليزية” أو “ألمانية” أو “فرنسية” أو “إيطالية” أو “صينية”.. الخ. وللفلسفة تأثير على باقي حقول المعرفة والوعي البشري تجعلنا نتحدث عن “فكر ديني فلسفي»، “فكر سياسي فلسفي»، “فكر لاهوتي فلسفي»، “فكر علمي فلسفي»، “فكر اقتصادي فلسفي».. الخ. ولهذا، يحتاج المفكرون العرب والمسلمون أن يخرجوا من فضاء “دين الفلسفة” أو “الفلسفة الدينية” إلى فضاء “فلسفة الدين” أو “التدين الفلسفي”. بل عليهم عموماً أن يتوقفوا عن اعتماد معادلة “إسلام – ضد – غرب” التقليدية. فكما يقول الباحث الإيراني – الأميركي في جامعة كولومبيا في نيويورك حميد دباشي (Hamid Dabashi) فإنَّ مصطلح “غرب” في حد ذاته ما عاد مقبولاً فلسفياً أو اصطلاحياً وما عادت ألعاب اللغة والقراءة والتفسير التي اقترنت به في القرنين التاسع عشر والعشرين بالألعاب المعترف بها اليوم في أوساط البحث الأكاديمي الغربي المعاصرة. إنني أرى في قراءة حميد دباشي طرحاً منطقياً يمكن التعويل عليه في إعادة قراءة العلاقة بين الفلسفة وما يسمى “اٍسلام” أو ما يسمى “غرب” في الأوساط الفكرية. مع اضمحلال دور وحضور مصطلح “غرب” القديم يضمحل وينحسر دور مصطلح “إسلام” الذي يمثل الجزء الثاني من معادلة “إسلام – ضد – غرب.” ومع تراجع تلك التثنوية الديالكتيكية المذكورة، راح الباحثون في حقول مع يعرف بـ”تاريخ الفكر الإسلامي” و”تاريخ الفكر المسيحي” وسواهما، يستغنون تدريجياً عن تسميات مثل “فلسفة إسلامية” لطالما استخدمت كطرف نقيض ومعادٍ لطرفٍ آخر لطالما سمّي “فلسفة غربية.” مع تراجع الثقة بالموثوقية العلمية والاصطلاحية لدلالات مصطلح “فلسفة غربية” يتراجع أيضاً التعويل على الموثوقية العلمية والاصطلاحية لدلالات المصطلح الذي تم خلقه ليلعب دور الطرف المضاد والمقابل تضادياً وتثنوياً للمصطلح الأول، أي “فلسفة إسلامية”.