أمة بلا إنسان

هل نحن على هذه الحال أم على حال آخر؟
الجمعة 2021/01/01
لوحة لنزار عثمان

سأفترض أننا أمة دون أن أناقش ما إذا كنا أمة فعلاً أم لا، وفي كلا الأحوال: نحن قوم كثيرو العديد، سمه ما شئت، نحن سكان منطقة جغرافية واسعة، ذات أغلبية عربية، وأقليات قوميات وصل بعضها إلى الوعي الذاتي، سواء كان وعياً زائفاً، أم وعياً مطابقاً. فرضيتي التي أطرح اليوم هي التالية: نحن أمة بلا إنسان ولأني أطرح هذه الفرضية مدللاً على صحتها، أتحول داعياً إلى ولادة الإنسان.

كلمة إنسان قديمة في كل اللغات، إنه ذلك الكائن الحيواني الذي يمشي على قدمين، وينطق، يفكر، يضحك.. إلخ.

غير أن مفهوم الإنسان في حمولاته الفكرية – الفلسفية بوصفه مركزاً للعالم جديد كل الجدة، اكتشاف أوربي. ففي الوقت الذي اكتشف فيه الأوربيون رأس الرجاء الصالح اكتشفوا معه الإنسان، لكنهم ومنذ تأكيدهم مركزية الإنسان، يؤكدون في الوقت نفسه مركزيتهم التي ولدت العنصرية الصريحة والمستترة ومنذ ذلك الحين وحتى الآن مازال الإنسان يخوض معركة إنسانيته، رغم كل الانتصارات التي حققها. وحدها المنطقة العربية وما شابهها مازالت تجهض كلما نما في أحشائها جنين الإنسان. ولهذا أعلنها صريحة: الإنسان لم يولد عندنا بعد، نحن أمة بلا إنسان، وقلما تشبهنا أمم أخرى.

يتحدث الغربي عن غياب الإنسان إذا شعر بالخطر من التقنية على وجوده، وهو محق فغياب الإنسان يعني أنه كان حاضراً، أو قل إنهم يخافون على حضوره من الغياب. أو أنه يصرخ محتجاً على الحياة الآلية بقوله: لقد مات الإنسان، قاصداً من ذلك أن إرادته في خطر، وهو محق في ذلك فموت الإنسان يعني أنه عاش، أو أنه يخافون عليه من الموت.

أما في عالمنا فالحق أقول لكم: إن الإنسان لم يغب لأنه لم يحضر قط، ولم يمت لأنه لم يعش أبداً.. إنه لم يولد بعد.

وقد ينبري نفر من الغيورين الزائفين رافضين، رأينا، مدللين على أهمية الإنسان بنصوص من هنا ونصوص من هناك، دعوني من حرب النصوص، الواقع معيار الحقيقة. وقبل أن أفضح هذا العالم الخالي من الإنسان دعونا نعرف الإنسان الذي نقصد. الإنسان الكائن البشري الذي وعى ذاته، والآخر على أنه هو وذاك كائنان يتمتعان بالإرادة والحق، ونشأت العلاقات بينهما تأسيساً على هذا الوعي. وعندها يمكن تعريف المجتمع الإنساني هو المجتمع الذي تتكون فيه علاقات الإرادة والحق بوصفها العلاقات السائدة، بمعزل عن حزمتها الجزئي. الإنسان وحدة الإرادة والحق لا تعني سوى أنه يعي ذاته أنا قادراً عل الظهور، فكراً، قولاً، سلوكاً، أملاً، دون أيّ قوة قمعية تحول دون هذا الظهور.

لماذا قلت الإنسان، الإنسان إرادة ولم أقل حرية، لأني لا أتصور إرادة دون حرية، والإرادة دون حرية لا وجود لها.

فليس القول بأن للإنسان إرادة ليست حرة بقول مستقيم منطقياً، فالإرادة لا وجود لها إلا في الظهور الفعلي في الخارج بوصفها فعلاً ناتجاً عن قرار وقوة داخليتين.

والقول: إني أريد ولا أستطيع لا علاقة له بفعل الإرادة، إنه المرء هنا يتمنى ولا يعمل إرادته في الحياة.

أما الحرية بوصفها صفة ماهوية  للإرادة فإلصاقها بالإرادة ليس أكثر من وصف زائد على الحاجة، تماماً كالقول أن النور مضيء.

الأنا إرادة هو ذلك الإنسان، والأنا إرادة، يعي ذاته بأنه غاية في ذاتها لا تفضلها أيّ غاية أخرى، ولأنه غاية فهي وحدة معيار الحق. حق الأنا إرادة الظهور والتعين بوصفه غاية، كل فعلٍ أو خطاب لا ينظر إلى الأنا غاية يسلب الأنا صفته الأساسية أنها حق،  يسلب حقوق الأنا.

ولما كان كل أنا آخر وكل آخر أنا فلا فرق هنا إذا قلت آخر أو أنا، فالعلاقة هي في موقعي من العلاقة.

تأمل معي الخطاب التالي المصاغ أمراً، أنا لا أسمح لك بأن تتحدث عن تاريخنا بهذه الطريقة وبهذا النمط من التحليل.

يفترض أن حواراً يجري بين اثنين مختلفين، فجأة يقطع أحدهم الحوار، لأنه ما من حوار يكون مع: لا أسمح لك.

قطع الحوار، منعك من القول، لأن القول لم يعجبه، لم يكن متطابقا مع اعتقاده، وضع حداً لإرادتك فسلبها. سلبك الحق في القول، الذي لا وجود له دون إرادة القول.

تأمل: قالها تاريخنا، لقد استخدم النون الدالة على الملكية المشتركة، والتي تسمى بالعربية ضمير متصل، لكنه علمياً، سلبك حقك في أن يكون التاريخ هو أيضاً تاريخك.

ما السلطة التي يمتلكها وحملته عل مخاطبة كائن مثله تماماً ويمتلك مثله ما يمتلك من الحق، وهو أكثر من علماً، والتاريخ الذي دافع عنه هو تاريخه بالذات؟

وقس على ذلك من الحياة اليومية وشؤونها التي تشعرك أنك لست موجوداً، وأنه ليس موجوداً، أنت وأنا وهو لسنا موجودين، تلك الكوميديا المحزنة. أجل الإنسان لم يولد بعد، أمة بلا إنسان.

كيف يتعين هذا الكائن الذي يطلق عليه الإنسان جدلاً في واقعنا. دعوني أحدد أولاً الإطار العام لعدم وجود الإنسان.

يبدو لي أن الثقافة العربية الراهنة على الأقل خالية من فكرة الإنسان فلا الوعي الذاتي بالأنا حاضر ولا وعي الأنا بالآخر حاضر هو الآخر.

وجميع السُلط الفاعلة في المجتمع سالبة لظهور الإنسان بدءاً من سلطة الأب في الأسرة إلى سلطة الأب الحاكم إنه لقول خطير جداً، أن نسلب مكانة الإنسان في الثقافة العربية بالمعنى الأنثروبولوجي.

أقصد بالثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي تلك الثقافة الموضوعية ذات التاريخ المعند من عادات وتقاليد ونظرة إلى العالم وقيمه السائدة.

ولاشك أن هذه الثقافة متغيرة ولكنها معندة، وبطيئة التطور، بخاصة إذا لم يقبض لهذه الثقافة مكنسة تاريخية، ويزداد عنادها إذا ما تيسر لها خطاب مدافع عنها. بل إن الخطاب المعبر عن هذه الثقافة يخلق دائماً مستبدين يسهرون على حضورها العاصف.

لنتأمل الوعي الذاتي في خطوطه العريضة لدى الكائن العربي، فهذا الكائن منذ يعي ذاته في الأسرة في المدرسة في المجتمع في المؤسسة في الدولة يعيش حياة الكائن الصاغر، فهو ينتقل من سلطة الأب، إلى سلطة المدرسة، إلى سلطة القيم، إلى سلطة الدولة، وفي كل انتقال يبقى في حقل الخضوع للعنف، بل وقد يعيش كل هذه الأنماط من العف دفعة واحدة.

ولعمري أن استمراءه للعنف يحول دون نمو وعيه بالكرامة الفردية، فيعيش حال استباحة حقه وإرادته من قبل سلطة خارجية استباحة مستمرة.

إنه والحال هذه ينظر إلى العنف كحالة طبيعية معيشة، فيتولد لديه الخوف من جهة، والرغبة في ممارسة العنف من جهة  ثانية.

فاستباحة الحق وقد أصبحت أمراً مألوفاً حوّلت الكائن إلى موضوع ليس إلا، ولم يعيش الكائن حال الذات والوعي بالذات، ينعكس هذا الوعي الذاتي سلباً على الوعي بالآخر.

الآخر – بدوره – ليس إنساناً من زاوية رؤية كائن لم يصل إلى مستوى الإنسان، فالكائن – الآخر ليس أكثر من عالم غريب. لا يؤخذ بعين الاعتبار أمام أيّ محاولة لتحقيق مصلحة ذاتية، حتى لو أدى تحقيق هذه المصلحة إلى إيذاء الآخر وسلبه حقه.

إن الكائن الفاقد لأناه لا يرى الآخر إلا قريباً أو جاراً أو صديقاً أو ابن حي. لكن ما عدا ذلك فالآخرون أغراب إلى حد الدهشة.

مثال: إن سائقاً قد يقف إذا ما تعرف على جارٍ له يقطع الشارع لكنه لن يقف من أجل آخر لا يعرفه.

الآخر هو آخران: آخر أعرفه فابني معه علاقة ليس فيها إيذاء وآخر لا أعرفه فأنا لستُ مبالياً به.

آخر أعرفه، فأكرهه إذا ما شعرت أنه وجوده سالب لمصلحة أنانية وآخر أحبه إذا ما بدا مفيداً لي.

بلا فلسفة حول الإنسان لا وجود للإنسان
بلا فلسفة حول الإنسان لا وجود للإنسان (لوحة لنزار عثمان)

تأمل ظاهرة انتقال شخص من عالمه إلى عالم آخر، من مجتمعه إلى مجتمع آخر، أن كل ما يضبط سلوكه في مجتمعه يزول في مجتمع لا يعرفه.

الكائن واغتراب الجسد

الإنسان وحده كلية لا تنفصم، الإنسان الحقيقي هو جسد، الجسد هو الحياة، قمع الجسد قمع الحياة.

يمر قمع الجسد عبر التقسيم النفسي السائد في الوعي وفي الخطاب، الإنسان جسد وروح، الإعلاء من شأن الروح وتحويلها إلى مراقب إلى سلطة على الجسد..

القيمة تتأسس على أن الجسد عالم مرذول إذا انفلت من عقاله، عقال الجسد الأمر الإلهي، الأمر المجتمعي.

في الوعي الذاتي القائم على قسمة الجسد جسد – وروح يصبح الجسد هناك. على مبعدة مني، والروح رقيب  تبحث عما  يشرعن الجسد المتجه إلى الخارج.

الجسد المتجه إلى الخارج يتجه إلى جسد آخر، لأن هناك وعياً ذاتياً بالانفصال بين جسد وروح، فإن وعي الآخر متطابق مع الوعي الذاتي جسد – روح. فباتجاه الجسد نحو جسد، لا يرى الجسد إلا الجسد، فيفقد الإنسان كليته وحدته. وإذا ما ضج الكائن وراح يستمع إلى ندائه الكلي فإنه يدخل عالم السر. والذكر بفضل سلطته الذكورية والمقموع هو الآخر يمتلك جسداً آخر، ولم يعد الجسد الآخر حال للكائن الكلي، بل ويصبح النظر إلى الآخر الأنثى على أنها جسد ناقص أو على أنها جزء من جسد.

الإنسان حيوان ناطق: ذلك حكم نتعلمه أول ما نتعلمه الإنسان حيوان ناطق، النطق هنا هو القول، التفكير، التعبير، الإنسان  لغة، واللغة حياتنا الواعية، اللغة هي الإنسان وقد ظهر على نحو صريح بمعزل عن ظهوره الصادق أو الكاذب.

وإذا كان الإنسان قد صاغ عبر تاريخه قواعد للمنطق، قواعد للغة من أجل الاتفاق على المعنى، والتواضع على مكان الكلمة في الجملة فان صياغة قواعد وقوانين تتحكم بالمسموح وغير المسموح بالنطق،تعني إلغاء الإنسان، لأن الإنسان – والحال هذه – قد فقد حرية تعيين حقه الأصل والأساس ألا وهو التعبير. بل إن كفاح الإنسان عبر تاريخه الطويل مازال مستمراً من أجل تحقيق حريته في التعبير الصادق. إنسان لا يستطيع أن يعبر بصدق ليس بإنسان، إنسان يخاف التعبير بصدق لم يعد إنسانا.

الإنسان حيوان سياسي

اعلم إنه بلا فلسفة حول الإنسان لا وجود للإنسان، بل قل إن هذا الكائن الحي منذ نشأته وحتى  الآن يحاول أن يصل إلى درجة  الإنسان. كيف ينتقل من كائن حي إلى كائن إنساني؟

الإنسان: الإنسان قيمة القيم وغاية ذاته، وبهذا فإن الكائن الحي إذا وعى ذاته على أنه هكذا، وإذا نظر الآخرون إليه أنه هكذا، فإنه – أي الكائن الحي – قد ارتقى إلى درجة الإنسان وإلا ظل كائناً حياً فقط.

ولعمري أن مشكلة المشكلات هي هذه، أقصد أن مفهوم الإنسان لم ينتصر بعد في الوعي بشكل عام وفي الوعي العربي بشكل خاص، لا في الوعي الذاتي للفرد بذاته ولا بالوعي الذاتي بالآخر.

يعلن الأميركي المتحضر أنه قتل عن طريق الخطأ عائلة عراقية أو أفغانية، هذا فضلاً عن آلاف الذين قتلوا عمداً. فالأميركي لا ينظر إلى الآخر بوصفه إنساناً بل كائناً حياً قابلاً للقتل. مشكلة إسرائيل الحقيقية أنها خالية من مفهوم الإنسان فليس اليهودي إلا أداة قتل وليس الفلسطيني والعربي إلا موضوع قتل.

الأخطر من ذلك ألا يتكون لدى الكائن الحي وعي ذاتي بأنه إنسان، فالعملاء الصغار، والعملاء دائماً صغار، لا ينظرون إلى أنفسهم إلا بوصفهم أدوات عند الآخر، محتفين بهذا الآخر وهو يحتل ويقتل ويدمر الحياة، هذه الكائنات الوضعية تفتقد إلى أهم مظهر من مظاهر الإنسان ألا وهو عالم القيم السامية، والقيم سامية لأنها تسمو بالإنسان قيمة. وإذا لم يصل المرء إلى وعي ذاته بوصفه إنساناً فهيهات أن يرى الآخر إنساناً.

وبالتالي لا يستغربن أحد من البشر نظرة السُلط العربية إلى البشر، فالسلط لا تنظر إلى البشر إلا كائنات حية قابلة للترويض والخدمة والاستعباد مصفقة لما هي عليه وسعيدة، ولهذا فالعدو الرئيس للسلط العربية هو الإنسان وليس الكائن الحي. وعندي أن التناقض الحقيقي هو بين النـزعة اللاإنسانية، والوعي بالإنسانية، وبالتالي فإن المعارضة للسلطة لا تكون حقيقية إلا إذا كانت إنسانية. أما إذا كانت ذات صفات شبيهة بصفات السلطة فإن الأمر لا يعدو كونه انتقالاً من حالة إلى حالة مشابهة.

ولهذا فالنضال من أجل الانتقال من الكائن الحي إلى الإنسان يحتاج إلى بشر – أناس، واعين ذواتهم على أنهم أناس، والوجود الحقيقي للإنسان، قيمة، هو وجوده الذاتي الحر، الوجود الذي لا يرى الآخر إلا وجوداً حراً.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.